يواجه رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أزمة داخلية على صفيح ساخن، قد تُطيح بحكومته خارج المشهد السياسي، وتدفع نحو إجراء انتخابات برلمانية عاجلة، وذلك إذا لم يقر الكنيست (البرلمان) الميزانية العامة لإسرائيل لعام 2025 حتى 31 مارس/آذار الجاري، وهي المهلة المحددة للحكومة لتقديمها.
25 يومًا فقط هي ما يتبقى من عمر حكومة نتنياهو إذا لم يقر الكنيست الموازنة بشكل نهائي، وسط انقسامات حادة بين أحزاب الائتلاف الحاكم، لاسيما الحريدية، بشأن العديد من البنود والمسائل التي فشل التوافق حولها طيلة الأشهر الثلاثة الأخيرة، منذ القراءة الأولى لمشروع الميزانية ديسمبر/كانون الأول الماضي.
وتتعرض وزارة المالية الإسرائيلية لضغوط حادة من بعض الأحزاب بشأن طلبات استثنائية داخل تلك الميزانية التي تبلغ 619 مليار شيكل (171.56 مليار دولار)، منها 117 مليار شيكل (32.43 مليار دولار) لبند الدفاع، لتصبح بذلك الأعلى في تاريخ الكيان المحتل، في ظل تصاعد المخاوف بشأن السيناريوهات المحتملة إذا انقضت المهلة المحددة دون تمرير هذه الموازنة الملغمة بالكثير من القنابل الموقوتة.
عجز 4% في ميزانية 2025، وتكلفة الحرب تفوق 68 مليار دولار.. الخسائر منذ 7 أكتوبر تجبر وزير المالية الإسرائيلي على إعلان تجميد رواتب الوزراء وأعضاء الكنيست. pic.twitter.com/IIaMNCCWW5
— مجلة ميم.. مِرآتنا (@Meemmag) September 3, 2024
في حال لم يتم إقرار ميزانية الدولة للعام 2025 بحد أقصى مساء 31 مارس/أذار الجاري، سيتم حل الكنيست، والإعلان فورًا عن انتخابات برلمانية خلال 90 يوماً، ستكون على الأرجح في يوليو/تمًوز، ما يعني أن نتنياهو سيكون خارج المشهد السياسي بنسبة كبيرة، لتتم محاكمته بشكل رسمي ودون أي حساسيات على تهم الفساد التي تلاحقه ومسؤوليته عن الوضع المعيشي والأمني والاجتماعي المتدني الذي بات عليه الداخل الإسرائيلي بسبب إدارته الفاشلة لحرب غزة على مدار أكثر من 15 شهرًا.
بطبيعة الحال يتعارض هذا السيناريو القاسي مع رغبة رئيس الوزراء وأصدقائه من اليمين المتطرف الذين يستميتون لإطالة عمرهم السياسي قدر الإمكان، وذلك من خلال الضغط لإبقاء نار الحرب مشتعلة، والتصدي لأي جهود لتبريدها، وهو الكابوس الذي دفعهم لفتح أكثر من جبهة للقتال في نفس الوقت، غزة لبنان وسوريا واليمن وإيران، والتضحية بالأسرى المحتجزين لدى المقاومة، وبذل كل المستطاع لإفشال جهود الوسطاء نحو التهدئة.. فهل ينجح نتنياهو في إجهاض سيناريو الإطاحة به عبر سلاح الموازنة؟
الموازنة.. الكابوس الذي يؤرق نتنياهو
تحتاج الموازنة العامة داخل الكيان المحتل لثلاثة قراءات برلمانية منفصلة ليتم تمريرها واعتمادها بشكل نهائي، القراءة الأولى كانت في ديسمبر/كانون الأول الماضي، حينها وافق الكنيست بأغلبية طفيفة ( 59 صوتًا مقابل 57 صوتًا)، وهي الموافقة التي اعتبرت وقتها بادرة حسن نوايا لحين الاتفاق على النقاط الخلافية خلال القراءتين المقبلتين.
وتشهد ميزانية 25 العديد من التغيرات المرفوضة بالنسبة لعدد من الأحزاب المنضوية تحت لواء الائتلاف الحاكم، أبرزها أنها تعتبر ميزانية تقشف مرتبطة بالحرب في غزة ولبنان ومؤخرًا سوريا، هذا بخلاف بعض الطلبات الاستثنائية من الأحزاب الدينية بزيادة مخصصات المدارس الدينية بأكثر من مليار شيكل، بجانب الربط بين الموافقة على تمرير الموازنة وإعادة النظر في قانون تجنيد الحريديم، وهو ما رفضته معظم الأحزاب.
ويبلغ سقف العجز المتوقع في ميزانية العام الحالي 4.4% هذا مع اعتماد قرارات فرض ضرائب جديدة بقيمة 37 مليار شيكل، وفي حال الفشل في تمرير تلك القرارات سيرتفع معدل العجز بزيادة تصل لنحو 20% تقريبًا عن النسبة التي حددها وزير المالية بتسلئيل سموتريتش في خطة الموازنة المقدمة.
وكان سموتريتش تقدم بمشروع قرار رئيسي ضمن مشروع موازنة العام 2025 يسمى “الضريبة على الأرباح غير الموزعة للشركات”، بهدف إنعاش الخزينة الإسرائيلية بنحو 10 مليارات شيكل (2.86 مليار دولار) لمحاولة سد العجز الناشئ على استمرار الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان واحتلال أجزاء من الجولان السوري، لكنه قوبل برفض بعض الأحزاب الدينية التي طلبت إقرار الكنيست لمشروع إعفاء الحريديم من التجنيد الإجباري في الجيش كشرط للموافقة على هذا القانون.
ومن أبرز من صوّت ضد الميزانية من حلفاء نتنياهو، وزير الأمن القومي الإسرائيلي المستقيل، إيتمار بن غفير، والحزب القومي اليميني الذي يرأسه عوتسماه يهوديت (القوة اليهودية) والذي يشغل 6 مقاعد في البرلمان، وإذ ما استمر رفضهم للميزانية فمن الصعب حصول الائتلاف على الأغلبية البرلمانية لتمرير الميزانية.
وكانت حرب غزة حاضرة وبقوة في هذا المشهد، إذ سببت عجرفة نتنياهو ويمينه المتطرف وصلفهم في استمرار الحرب ورفض أي محاولات للتهدئة في تكبيد جيش الاحتلال خسائر فادحة على المستوى العسكري والاقتصادي معًا، حيث بلغت الخسائر مئات المليارات من الدولارات، تحملها الكيان من خزينته، ما تسبب في أزمة كبيرة خاصة وأنه اضطر لتبني سياسة تقشفية إزاء العديد من المشروعات والنفقات الأخرى ما انعكس على حجم ومستوى الخدمات المقدمة للإسرائيليين، مما زاد من حالة الغضب والاحتقان الشعبي.
وأمام الفشل في اعتماد الموازنة الجديدة حتى اليوم، تُسير الحكومة الإسرائيلية أمورها وفق ميزانية 2024، وذلك شهر تلو الأخر وفق النسبة 1/12، وهي الاستراتيجية التي تكبل أيدي الوزارات إزاء أي مشروعات جديدة، وتقشف من مستوى النفقات، وتحصرها في إطارها الضيق، خاصة مع تعدد جبهات القتال التي تستنزف الجانب الأكبر من الميزانية.
إشعال التوتر.. الهروب للأمام
بات واضحا أن مسلك الهروب الوحيد لنتنياهو اليوم من الملاحقات المتوقع أن تستهدفه، هو الإبقاء على حالة التوتر قائمة، وتنويع جبهاتها، وتوظيفها قدر الإمكان، بعد تسخينها، لغض الطرف عن أي مسائل أخرى، فعلها في الضفة حين هدأت جبهة غزة، وفعلها في لبنان وقت تصاعد الضغوط عليه لإبرام اتفاق في القطاع، وكررها في الجنوب السوري بعدما أجهضت المقاومة الفلسطينية مزاعم النصر المطلق التي اعتاد على ترديدها لتخدير الرأي العام الإسرائيلي بأوهام الانتصار في تلك الحرب التي فشل في تحقيق أي من أهدافها المعلنة بالقوة العسكرية على مدار أكثر من 470 يومًا من القتال.
وإن كان هناك من وصف جامع مانع لمأزق نتنياهو الآن، فهو “عدو التهدئة”، حيث يرى فيها بداية نهايته، والسطر الأول لوفاته سياسيًا، وعليه يحارب بكل ما لديه من أسلحة لعدم السماح لها بفرض نفسها على المشهد، وهو ما يمكن قراءته بشكل عملي ميداني خلال موجات التنصل المتتالية من الاتفاقيات والالتزامات التي قطعتها حكومته على نفسها، في لبنان وسوريا وغزة والضفة.
ومنذ اليوم الأول لدخول اتفاق غزة حيز التنفيذ في التاسع عشر من يناير/كانون الثاني الماضي، وبداية تخييم أجواء الهدوء النسبي على أرجاء القطاع، وتبريد نار التوتر الميداني، وعودة الحياة لطبيعتها ولو بشكل تدريجي، وتتصاعد المخاوف من انقلاب نتنياهو على هذا المشهد الذي لا يناسبه مطلقًا ولا يصب في صالحه، وعليه كان العمل الذي لا يتوقف على إجهاض هذا الاتفاق بأي طريقة كانت، ونسف حالة التهدئة التي بدأت تفرض نفسها على الساحة.
ومن ثم بدأ جيش الاحتلال المدفوع بأوامر رئيس الحكومة في العمل على جرجرة المقاومة لفخ انهيار الاتفاق، عبر دفعها للرد على مئات الخروقات والاستفزازات التي يمارسها داخل القطاع، غير أن إدراك حماس وبقية الفصائل لهذا المخطط ساهم بشكل كبير في إجهاضه قدر الإمكان، وإطالة أمد الاتفاق ليصل إلى نهاية مرحلته الأولى ولو على أرجل عرجاء.
مأزق نتنياهو.. هل تكون الحرب قشة الإنقاذ؟
يؤمن نتنياهو جيدًا أنه بات في مأزق مضاعف، فبعد الجهود الحثيثة التي بذلها لإطالة بقاءه السياسي على رأس الحكومة من خلال استمرار الحرب وفتح جبهات توتر جديدة، هاهو اليوم يواجه خطر الإطاحة به من منصبه بسبب الأزمات الداخلية التي يواجهها ومعضلة تمرير الكنيست للموازنة العامة للدولة.
وبطبيعة الحال من الصعب أن يترك رئيس الوزراء نفسه لهذا المصير القاسي بعد كل الاستراتيجيات التصعيدية التي تبناها لإطالة أمد الحرب التي كلفت الكيان الخسائر الفادحة، والتي بسببها قد يُزج به في السجن إذا ما بات خارج المشهد السياسي، وعليه فمن المتوقع أن يمارس عادته المفضلة في الدفع بكرات نارية متتالية، سواء في غزة عبر نسف الاتفاق ومعاودة الحرب، أو في سوريا من خلال التلاعب بورقة الأقليات، أو حتى في لبنان والضفة.
المهم لدى نتنياهو الآن، أن يٌشعل فتيل أزمة تصعيدية جديدة، تُحدث حالة من الارتباك في الداخل الإسرائيلي، وتسحب البساط من تحت حالة التربص التي تخيم على ملف الموازنة العامة، بما قد يدفع نحو تمديد العمل بالموازنة القديمة، أو الدفع، تحت وطأة الضغوط المحتملة، نحو الرضوخ وتقديم تنازلات معينة بما يساعد على تجاوز النقاط الخلافية وتمرير الموازنة بشكل نهائي،
وعليه فمن المتوقع أن يلجأ رئيس الوزراء المنتشي بالدعم غير المسبوق من إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، إلى سياسة التلكؤ والتسويف وعرقلة مفاوضات المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، لامتصاص غضب اليمين المتطرف، والحيلولة دون انهيار الائتلاف الحاكم، ومغازلة بن غفير وحزبه للتصويت بالموافقة على الموازنة قبيل نهاية المهلة المحددة نهاية الشهر الجاري.