قبل عام، دخل الصحفي السعودي البارز جمال خاشقجي، إلى مبنى القنصلية السعودية في إسطنبول للحصول على الأوراق حتى يتمكن من الزواج من خطيبته التركية، التي كانت تنتظره خارج المبنى، لكنه لم يُرى مجددًا.
كان خاشقجي، البالغ من العمر 59 عامًا أحد المساهمين في صحيفة “واشنطن بوست”، ينتقد النظام السعودي، وكان يعيش في المنفى في الولايات المتحدة إلى أن اُغتيل داخل قنصلية بلاده في إسطنبول في 2 أكتوبر/تشرين الأول 2018 على يد فريق أُرسل من المملكة العربية السعودية، ومن بينهم مقربون من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان الحاكم الفعلي للمملكة.
نفى السعوديون وابن سلمان – المعروف في دوائر الإعلام الغربي باسم MBS – باستمرار أن ولي العهد كان له أي دور مباشر في اغتيال خاشقجي، وبدلاً من ذلك، أرجعوا ما حدث إلى “عملية شريرة قام بها قتلة مارقون”، وُجهت الاتهامات إلى 11 منهم، في حين يواجه 5 منهم عقوبة الإعدام المحتملة، على الرغم من الطبيعة الغامضة للنظام القانوني السعودي، إلا أنه ليس هناك ما هو واضح حول القضية التي لم تحل بعد.
بالنسبة للموقف الأمريكي، مثلت جريمة اغتيال خاشقجي اختبارًا عسيرًا وطويلاً لإدارة ترامب في ظل الضغوط التي تتعرض لها من المؤسسات الأمريكية التي انتهجت مواقف مغايرة لموقف ترامب الداعم لولي العهد السعودي الذي قالت تقارير استخباراتية إنه يقف وراء مقتل الصحفي السعودي.
مأزق حليف ترامب المقرب
منذ الساعات الأولى لوقوعها، أثارت قضية اغتيال خاشقجي داخل البيت الأبيض بواعث قلق شديدة بشأن حكم الأمير الشاب الذي تغلغل منذ سنوات داخل دوائر الحكم، وأدَّت تداعياتها إلى رفض أغلبية الشعب الأمريكي الوقوف مع السعودية، لكنه رفض بدا مغايرًا لموقف ترامب المتمسك بدعم ولي العهد السعودي.
في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، خلصت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية – “بثقة عالية” وفقًا لصحيفة “واشنطن بوست” – إلى أن بن سلمان أمر بقتل خاشقجي، وهذا ما رأى فيه البعض تهديدًا لجهود الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للحفاظ على علاقات بلاده مع السعودية باعتبار الأخيرة أحد أكبر حلفائها وأكبر مشترٍ للسلاح لأسلحتها والعالم.
حديث بين ترامب وابن سلمان على هامش اجتماع قمة العشرين الأخيرة في أوساكا باليابان
بدا الأمر في البداية وكأن ترامب قد ينأى بنفسه عن ابن سلمان، وبعد أقل من أسبوعين من مقتل خاشقجي، وعد الرئيس دونالد ترامب في لقاء مع برنامج “60 دقيقة على شبكة “CBS” الإخبارية الأمريكية “بعقوبة شديدة” على السعوديين إذا ثبت أنهم قتلوا خاشقجي الذي كان مقيمًا في الولايات المتحدة وصحفيًا كان يساهم بانتظام في مؤسسة إعلامية أمريكية كبرى.
وبعد شهر، ورغم إقراره أن ولي العهد السعودي قد يكون على علمٍ بمخطط قتل خاشقجي، تراجع ترامب، مبررًا ذلك بمبيعات الأسلحة الأمريكية الضخمة للسعوديين، وأخبر المراسلين “إنها أمريكا أولاً بالنسبة لي، الأمر كله يتعلق بـ”أمريكا أولاً”. لن نتخلى عن مئات المليارات من الدولارات من الصفقات، ونسمح لروسيا والصين ولكل شخص آخر بالحصول عليها. لن أدمر اقتصاد بلادنا من خلال حماقة مع المملكة العربية السعودية”.
قد يقول قائل إنه من الذكاء أن يدفع ابن سلمان ليشتري ولاء أكبر دولة في العالم، والرد المنطقي على هذا الكلام: هل كل حلفاء واشنطن يفعلون ذلك؟ وهل المقابل يوازي الثمن المدفوع؟ المواطن الأمريكي مستفيد من الثمن كاستحداث وظائف مثلاً، فهل يعود المقابل بالفائدة على المواطن السعودي؟
من هنا يمكن توصيف العلاقة الأمريكية السعودية بأنها علاقة “زبائنية”، وهو مصلح عرفته روما القديمة، وتعيد إنتاجه اليوم واشنطن، حيث تقوم “الزبائنية” على وجود راعٍ وعميل أدنى منه بينهما علاقة تقوم على منافع متبادلة، لكن الأهم أنها غير متكافئة.
لم يدافع ترامب عن صفقات الأسلحة “المليارية” مع ولي العهد فقط، بل ذهب لدرجة ضربه عرض الحائط بأصوات المشرعين والسياسيين والصحفيين الأمريكيين التي تطالب باتخاذ موقف حاسم ينسجم مع القيم الأمريكية إزاء المسؤولين عن مقتل خاشقجي.
اكتفت واشنطن حتى الآن بفرض بعض العقوبات المالية، وحظرت دخول 17 متهمًا بالتخطيط والمشاركة في قتل خاشقجي
في ظل الضغوط التي يتعرض لها من المؤسسات الأمريكية، لم يستطع ترامب تبرئة ابن سلمان بصورة قاطعة، ثم ما لبث أن عقَّدت طبيعة العلاقات الإستراتيجية بين واشنطن بالرياض، والبعد الشخصي للعلاقة بين ترامب وابن سلمان رد الفعل الأمريكي على جريمة اغتيال حطمت صورة الأمير المصلح ورسخت مكانها صورة حاكم يرى في كل من يخالفه قطعة حديد ساخن يجب أن تطرق قبل أن تبرد.
لكن على الرغم من مواقف الكونغرس بمجلسيه تجاه السعودية وما خلصت إليه وكالة الاستخبارات المركزية التي حملت بن سلمان المسؤولية عن مقتل خاشقجي، اكتفت واشنطن حتى الآن بفرض بعض العقوبات المالية، وحظرت دخول 17 متهمًا بالتخطيط والمشاركة في قتل خاشقجي.
يمكن تفسير تغاضي إدارة ترامب بوضوح عن مسؤولية ابن سلمان عن مقتل خاشقجي إلى الوعد السعودي بلعب دور كبير في أي صفقة تطرحها إدارة ترامب لحل معضلة صراع الشرق الأوسط بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
عودة ابن سلمان بمساعدة ترامب
ولي العهد السعودي، الذي صعد إلى السلطة واعدًا بتغيير اجتماعي واقتصادي تحولي في واحدة من أكثر دول العالم أهمية من الناحية الاستراتيجية، والذي أشاد به كتَّاب بارزون ومديرون تنفيذيون أمريكيون باعتباره مبشرًا بمستقبل مشرق للمملكة العربية السعودية، سرعان ما أصبح منبوذًا، لكن ترامب ساعد في إعادة تأهيله على الساحة العالمية.
في الاجتماع السنوي لمجموعة قمة العشرين في أوساكا باليابان، في يونيو/حزيران، قام ولي العهد بالعبث أمام الكاميرات بينما كان يحتل مركز الصدارة بين الرئيس ترامب ورئيس الوزراء الياباني شينزو آبي في وضع مصمم بعناية لالتقاط صورة جماعية.
ابتسم ابن سلمان ابتسامة عريضة وهو يجلس مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وصافح الرئيس الكوري الجنوبي مون جاي بفرح بعد أن أبرم البلدان اتفاقات وعقود بقيمة 8.3 مليار دولار، لكن لم يكن ما حدث ممكنَا دون دعم ترامب ووزير خارجيته مايك بومبيو، وهما اللذان لم ينأوا بأنفسهم، وشددا على أهمية المملكة الاستراتيجية.
بالنسبة لترامب، فإن قيمة تلك العلاقة لم تنخفض عن مستوى الشراكة القوية، ولم يسبق له أن طغت الطبيعة المروعة لمقتل الكاتب المغدور على لقاءاته مع المسؤولين السعوديين، لكنه وصف الشرق الأوسط مرارًا وتكرارًا بأنه مكان “شرير”، وعبَّر عن مقتل خاشقجي باعتباره حدثًا مؤسفًا لا يستحق تكلفة التخلي عن سوق مربحة.
أمَّا بومبيو، الذي لم يكن صريحًا للغاية، فقد أعلن عن وعود بأن الولايات المتحدة ستحقق في وفاة خاشقجي وتحمِّل جميع الأطراف المسؤولة المسؤولية، وبعد اجتماع مع العاهل السعودي وولي العهد في يناير/كانون الثاني، قال بومبيو إنهم “جددوا التزامهم بتحقيق الهدف”، لكن هذه الوعود لا تزال غير محققة.
دونالد ترامب ومحمد بن سلمان خلال حضور قمة العشرين
ويرجع هذا الموقف إلى إيمان ترامب ووزير خارجيته بومبيو بأهمية التحالف مع السعودية للوقوف في وجه إيران، إضافة إلى دور الرياض في استقرار أسواق الطاقة العالمية، وكونها من أهم مشتري السلاح الأمريكي، بالدفع نقدًا كما ذكر ترامب.
وبحسب مقال للكاتبين شين هاريس وجون هدسون، في صحيفة “واشنطن بوست“، فإن ترامب وبومبيو نجحا بالفعل في تحقيق هدفهما المتمثل في تثبيت العلاقات الأمريكية السعودية وإعادة ولي العهد إلى ما قبل واقع الاغتيال، فقد تلاشت عناوين الأخبار حول مقتل خاشقجي تلاشت، في حين تتم محاكمة المسؤولين السعوديين، التي يطلق عليها المراقبون “استهزاءًا بالعدالة”، خلف أبواب مغلقة.
ولي العهد السعودي نفسه أصبح تدريجيًا أكثر صراحة – وربما تهورًا – في تصريحاته وأفعاله، ففي حديثه أمام الكاميرا في وثائقي بثته محطة “بي بي إس” مع قبل يوم واحد من ذكرى اغتيال خاشقجي، أعلن الأمير محمد بن سلمان تحمله المسؤولية عن الجريمة البشعة، وإن أنكر علمه بها.
هل تمتد العلاقات إلى أبعد من ذلك؟
حتى مقتل خاشقجي، كان من الممكن التأكيد على الحالة الإيجابية لابن سلمان، والقول إنه كان يقوم بإصلاح المجتمع والاقتصاد السعوديين بشكل حقيقي، خاصة بعد أن قصّ أجنحة الشرطة الدينية المخيفة في المملكة ومنح النساء حريات أكبر، مثل الحق في القيادة ودور أكبر في مكان العمل.
شجع بن سلمان الحفلات الموسيقية ودور السينما في مجتمع ظل محظورًا منذ فترة طويلة، وبدأ أيضًا في إنهاء الفصل الصارم بين الجنسين في المملكة من خلال، على سبيل المثال، السماح للنساء بحضور الأحداث الرياضية.
وعد أيضًا بلحظة سحرية في الشرق الأوسط حيث يمكن للدول العربية التوصل إلى اتفاق سلام مع الفلسطينيين، بينما كان يحرر شعبه من نير الوهابية التي رعت الكثير من منفذي هجمات 11 سبتمبر/أيلول، وهو ما جعل واشنطن في حيرة لسنوات عديدة عندما يتعلق الأمر بالإصلاح السعودي.
يواجه ابن سلمان الآن ما قد يكون أصعب تحدٍ يواجهه في السياسة الخارجية حتى الآن، ويتعلق بما يجب فعله حيال هجمات الطائرات بدون طيار والصواريخ التي استهدفت في وقت سابق من هذا الشهر منشآت “أرامكو” النفطية
في مارس/آذار 2018، زار ولي العهد هوليود ووادي السيليكون، حيث تخلى عن أرديته العربية مقابل بدلة أنيقة، وحيث رُشح كمصلح من قبل نجوم السينما وأثرياء صناعة التكنولوجيا، ولكن بعد اغتيال خاشقجي، غُمرت الحالة الإيجابية لمحمد بن سلمان في الغرب، حيث كان يُنظر إليه على نحو متزايد على أنه “مستبد متهور”.
رسَّخ اغتيال خاشقجي من هذه النظرة، ففي عام 2015، أذن ابن سلمان للحرب الكارثية والمستمرة في اليمن المجاورة أن تبدأ، والتي قتل فيها عشرات الآلاف من المدنيين، كما أنه اختطف فعلاً رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، عندما كان في رحلة إلى المملكة العربية السعودية، ووقاد أيضًا الحصار المفروض على جارته قطر، والذي يستمر حتى يومنا هذا.
وبالإضافة إلى اعتقاله لرجال الدين والمعارضين البارزين، حلَّ بن سلمان محل ابن عمه محمد بن نايف ولي العهد في عام 2017. ومن المعروف أن محمد بن سلمان سجن حوالي 200 من السعوديين الأثرياء في فندق “ريتز كارلتون” بالرياض، وانتزع منهم أكثر من 100 مليار دولار بسبب الفساد المزعوم.
الأمير الشاب لديه أيضًا خطة إلى حد ما لتنويع الاقتصاد السعودي الذي يعتمد بدرجة كبيرة على النفط، والمعروفة باسم “رؤية 2030″، والذي سيتم تمويله جزئيًا من خلال بيع أجزاء من شركة النفط العملاقة “أرامكو”، والتي قد تكون الشركة الأعلى قيمة في العالم بقيمة يأمل السعوديون أن تصل إلى 2 تريليون دولار.
لكن كما يحدث مع معظم الحلقات الفاضحة، وعلى الرغم من مرور الوقت، يبدو أن المزيد من المستثمرين آثروا التغاضي عن قضية خاشقجي، حتى لو خلصت المخابرات الأمريكية إلى أن محمد بن سلمان أمر بتنفيذ العملية. هذا الاكتشاف لم يمنع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من الثناء على ولي العهد خلال قمة العشرين في يوليو/تموز الماضي.
ولكن مع تراجع مخاطر السمعة، ظهرت مجموعة جديدة من التهديدات، مما يلقي ظلالاً من الشك على قدرة المملكة على حث المستثمرين على الشراء في رؤية ولي العهد على النحو اللازم لانطلاق المملكة العربية السعودية بشكل حاسم في اتجاه اقتصادي أكثر استدامة.
غير هذا الجانب الاقتصادي، يواجه ابن سلمان الآن ما قد يكون أصعب تحدٍ يواجهه في السياسة الخارجية حتى الآن، ويتعلق بما يجب فعله حيال هجمات الطائرات بدون طيار والصواريخ التي استهدفت في وقت سابق من هذا الشهر منشآت “أرامكو” النفطية، وهي الهجمات التي هجوم على ولي العهد وترامب الإدارة قد ألقيت باللوم على إيران، وهو ما نفاه الإيرانيون.
العلاقة الخاصة بين ترامب ومحمد بن سلمان فرضت نفسها على مهرجان بمدينة دوسلدورف الألمانية
هذا الهجوم يمثل مشكلة خاصة بالنسبة لولي العهد، حيث إنه أيضًا وزير دفاع سعودي، وقد ترأس عقد صفقات ضخمة للأسلحة، لكنه لم يكن قادرًا على الدفاع عن المملكة ضد الصواريخ والقنابل التي تسببت في انخفاض طاقة النفط السعودية إلى النصف.
يشكل الهجوم الإيراني أيضًا مأزقًا للرئيس ترام، الذي لا يريد أن تتورط الولايات المتحدة في حرب أخرى في الشرق الأوسط، على الرغم من اعتباره محمد بن سلمان كحليف وثيق.
يوم الأحد، بثت شبكة CBS مقابلة مع بن سلمان قال فيها إنه يأمل أن تتمكن السعودية من الوصول إلى “حل سياسي وسلمي” مع إيران، لكن في حين قد يكون محمد بن سلمان قادرًا على تجاوز أزمة مقتل خاشقجي بسهولة نسبية، إلا أن هناك القليل في سلوكه للسياسة الخارجية حتى الآن يوحي بأنه سيتعامل بمفرده مع الإيرانيين.
في الوقت نفسه، يلتقط ترامب هذا الخيط، ويشيد بولي العهد السعودي لتحديثه المملكة ودعمه للصناعة الأمريكية من خلال شراء معدات عسكرية أمريكية، والأهم من ذلك، أشار إلى أنه سيسمح للمملكة العربية السعودية بقيادة سياستها تجاه إيران بعد الهجوم على النفط السعودي.
لكن السؤال الآن يدور حول مصير العلاقات الأمريكية مع الرياض عندما يغادر ترامب البيت الأبيض، فالمملكة السعودية التي تواجه المملكة ضغوطًا قاسية لم تعد تتصدر اهتمام كل الأطراف في الولايات المتحدة بل باتت مرتبطة بدعم ترامب الذي يواجه خطر العزل.