سيلٌ من التساؤلات عن مصير الحكومة العراقية ورئيس الوزراء عادل عبد المهدي انحدر عقب الاحتجاجات الشعبية في بغداد وعدة محافظات، وتأتي هذه التظاهرات في وقت تتفتق فيه جعبة البرلمان باستجوابات تطول وزراء عدة في الحكومة، يعتزم الشروع بها في جلساته المقبلة، تتزامن مع هذه الأحداث.
شرارة أكتوبر.. كيف انقدحت؟
صدق في هذا الهدير المخيف لثورة الجياع قول الشاعر: “ومعظم النار من مستصغر الشرر”، فمماطلة الحكومة وعدم الاستجابة لمطالب الخريجين المعتصمين منذ أشهر أمام المباني الحكومية، كانت السبب في انفجار اللهب دون سابق إنذار، فالاحتجاجات كانت عفوية، بل كانت ردود فعل طبيعية لم يسبق للعراق أن شهدها، ولم تحسب الحكومة لها أدنى حساب، أبطالها الخريجون العاطلون عن العمل الذين بُحت أصواتهم وهم يطالبون بفرص عمل من دون أن يجدوا أذنًا صاغية وقلبًا واعيًا من هذه الحكومة على الرغم من هشاشة الأرض التي تقف فوقها.
الرصاص الحي يخترق قلب بغداد!
الاحتجاجات التي شهدها العراق جوبهت كالعادة بالعنف، فقد أسفرت عن مقتل مدنيين اثنين وإصابة نحو 200 شخص بجروح، في أثناء تفريق القوات الأمنية الاحتجاجات بالقوة، مستخدمة الرصاص الحي والمطاطي والغاز المسيل للدموع، في أولى حركات الاحتجاج المطلبية التي تواجهها الحكومة التي تسلمت السلطة قبل 11 شهرًا.
الشعار الذي تقدم مسيرة المتظاهرين كان أسهل منه تلبية الحكومة طلباتهم، لكنها لم تفعل، لأنه شعار الكادحين الغاضبين ينطبق عليهم: “باسم الدين سرقونا الحرامية”، في إشارة إلى الطبقة الحاكمة في البلد الذي يحتل المرتبة الـ12 في لائحة الدول الأكثر فسادًا في العالم، بحسب منظمة الشفافية الدولية.
مطالب أدنى من إمكانية الحكومة
يقول جعفر، وهو أحد المتظاهرين، ويبلغ من العمر 29 عامًا: “الحكومة العراقية توفر ملاذًا للعصابات، وهي تتقاسم عبر المحاصصة كل شيء فيما بينها”، مضيفًا “الطبقة الحاليّة لم تجلب إلى البلاد إلا الحرب والدمار والفقر”.
أما زهير، وهو أحد حملة الشهادات العليا ويبلغ من العمر 33 عامًا، فدعا إلى إسقاط الحكومة العراقية عبر الاحتجاجات، لأنها لم تغير شيئًا من واقع العراق المتردي، بالإضافة إلى تجاهل مطالبهم كخريجين بتوفير فرص عمل وحياة كريمة لهم.
450 مليار دولار ثمن باهظ يدفعه الفاسدون
في غضون عقد ونصف من السنوات، منذ عام 2003، ثروة عظيمة تختفي من أموال الشعب المنتفض للمطالبة بها اليوم، إذ تكشف تقارير رسمية اختفاء فص الملح العراقي الذي تقدر قيمته بـ450 مليار دولار من الأموال العامة، وهو ما يعادل أربعة أضعاف ميزانية الدولة، وأكثر من ضعف الناتج المحلي الإجمالي للعراق، وفي كل الأحوال، فليست الاحتجاجات الوحيدة التي تهدد مصير الحكومة الحاليّة ورئيس وزرائها، بل إن هناك عوامل أخرى نستعرضها في سياق التقرير الآتي.
الحكومة.. ولادة عسيرة ومولود مشوه
في العراق، لا تسير الأمور بما يتوافق مع القانون، حتى في تشكيل الحكومة التي تعسرت ولادتها في ظل عدم الاستقرار والشكوك في شرعية الحكومة التي تشكلت بتوافق بين كتلتين هما “الفتح – سائرون”، وهذه من أهم ما يجابه هذه الحكومة منذ تشكيلها، لكونها تشكلت على عكس ما نص عليه الدستور العراقي، إذ تنص المادة الـ76 على “يكلف رئيس الجمهورية، مرشح الكتلة النيابية الأكثر عددًا، بتشكيل مجلس الوزراء، خلال خمسة عشر يومًا من تاريخ انتخاب رئيس الجمهورية”، وهو ما لم يحدث بالفعل، حيث تتلاعب الكتل السياسية بالدستور وتفسره وفق ما ترغب في كل انتخابات برلمانية، حتى ولادة الحكومة بالطريقة القيصرية المعقدة تلك في كل مرة.
أساس رملي من التوافق يحمل الحكومة
جبل الصبر المتصدع يكاد ينفلق فيودي بالحكومة التي تستظل بظله، وهي تغفل خطر الزلزال من تحتها، فها نحن نرقب احتضار التوافق بين الكتلتين على عبد المهدي الذي يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة في أي لحظة، لا سيما بعد رعود التهديد والوعيد لرئيس الوزراء لإجباره على الاستقالة أو أن يلبي للمتوعدين ما يريدون.
رئيس المجموعة العراقية للدراسات الإستراتيجية الدكتور واثق الهاشمي يؤكد أن رئيس الوزراء يأتي بتوافق ثلاثة أطراف، هي: إيران وأمريكا والمرجعية الدينية
وأمام ذلك السيل الجارف من التهديدات يقف عبد المهدي في وضعٍ صعبٍ لا يُحسد عليه، وحرجٍ يبدو أنه أخذ مفعوله في رضوخه لتلك التهديدات بالفعل، حتى وصل به الحال إلى أن يغازل الكتل السياسية عبر مراسلتهم بأنه سيقيل خمسة وزراء من حكومته، وكانت تلك الوعود وسيلة لكفهم عن تهديده بالإقالة، وليكسب وقتًا أكثر.
إيران “ستقاتل” لإبقاء عبد المهدي
رئيس المجموعة العراقية للدراسات الإستراتيجية الدكتور واثق الهاشمي يؤكد أن رئيس الوزراء يأتي بتوافق ثلاثة أطراف، هي: إيران وأمريكا والمرجعية الدينية.
يقول الهاشمي لـ”نون بوست” إن عبد المهدي أصبح خيار إيران، وطهران ستقاتل من أجل تثبيته في منصبه، ويشير إلى أن عبد المهدي خسر الجانب الأمريكي، وواشنطن سبق أن حددت له ثلاث زيارات، لكن الجانب الأمريكي كان يلغيها أو يؤجلها.
الاستجواب.. سلاح تجيد استعماله كتل متنفذة
تشهر كتل سياسية متنفذة في السلطة سلاح الاستجوابات داخل البرلمان العراقي، فيما يرى الأكاديمي والمحلل السياسي الدكتور قحطان الخفاجي أن ملف الاستجواب هو قضية سياسية بالدرجة الأولى، والمستجوِب والمستجوَب كلاهما أساءا إلى البلد.
العملية السياسية تحتضر!
يؤكد الخفاجي في حديثه لـ”نون بوست” أن الاستجوابات المرتقبة ستؤثر على شكل الحكومة ومصير رئيس الوزراء، لكنه ينوه إلى أنها ليست أقل خطورة من تناحر الولاءات محليًا.
ويضيف المحلل السياسي أن التناحر بين السياسيين وانقسامهم إلى فريق مؤيد لواشنطن وآخر لطهران، هو الذي سيحدد مصير العملية السياسية برمتها، وعلى أساسه سيعتلي رئيس الوزراء المناسب كرسي الرئاسة، وأنها شارفت على النهاية، وستلفظ أنفاسها الأخيرة، ثم يسدل عليها الستار أمريكيًا.