على مرأى العالم، أزالت السلطات في مدينة نيويورك الأمريكية العام الماضي تمثال الطبيب، جيمس ماريون سيمز، من حديقة “سنترال بارك”، بعد 7 سنوات من الانتقادات و الجدالات حول ممارساته العنصرية في مجال الطب، فلقد أجرى ماريون سيمر الذي لُقب بـِ “أبو طب أمراض النساء والولادة” عشرات العمليات الجراحية على النساء المستعبدات (لوسي، أناركا، بيتسي، وغيرهن) دون تخدير، ورغم أن البعض اعتبر أفعاله “نتاج عصره” ولا سيما أن ابتكاراته ساهمت في وضع أساسيات فرع الطب النسائي، إلا أن المعارضين رؤوا أن أخلاقه لا تليق بشرف المهنة وترمز لاستغلال النظام الطبي الأمريكي للأفارقة.
في كتابها، “التاريخ المظلم للتجارب الطبية على الأميركيين السود”، تقول المؤلفة هارييت واشنطن: “إن هناك تاريخًا طويلًا من التجارب الطبية على السود والسكان الأصليين لأمريكا بغرض أن تعود فائدتها على البيض فقط، وبغض النظر عن الألم والشقاء الذي تعرضت له النساء السود خلال مشاركتهن دون خيارهن في تجارب ماريون سيمز، إلا أنه ظل لفترة طويلة مُبجلًا بين الأطباء؛ لما أنجزه بتلك الطريقة القاسية والمظلمة”.
لم يكن ماريون سيمز المتهم الوحيد، فلقد امتلأت القائمة بأسماء أخرى، إذ لم تكن هذه التجاوزات القانونية والأخلاقية تجري فقط على مستوى أفراد فقط، بل كانت تُمارس أيضًا على شعوب كاملة وفئات مجتمعية معينة مثل الأقليات المستضعفة كالمساجين ومرضى المستشفيات والأيتام. المثير للأسى أن هذه التجارب الاستغلالية لم ينته عصرها بعد ولا زالت حتى يومنا الحاضر تُعامل الناس وكأنهم فئران تجارب باسم العلم، فلقد تم إجراء أكثر من 200 ألف تجربة لعقار أو لقاح أو مُعدة طبية على البشر في كافة أنحاء العالم، دون إتباع القوانين الصارمة التي تحمي صحة الإنسان من أي آثار جانبية خطيرة، فكيف فقد الطب أمانته؟
أفريقيا الضحية الأبدية
في كثير من الحالات، ارتبط اسم قارة أفريقيا بالأمراض والأوبئة المميتة، ما دفع بعض التقارير العالمية تصف هذه المنطقة بـ “مستنقع الأوبئة” لكونها موطنًا لـ 25 وباء قاتلًا تقريبًا. وبحسب وكالة “سبوتنيك”، قالت مجلة “ساينتفيك أمريكان” العلمية إن شركات الأدوية الكبرى هي ما حولت سكان ومواطني القارة السمراء إلى “فئران تجارب” لأدويتهم الجديدة، التي يتمحور معظمها ليظهر مرضًا “جديدًا غريبًا” يصبح فيما بعد “وباء قاتلًا”. ومن أبرزها، الكوليرا والحصبة والملاريا والإيدز وإنفلونزا الخنازير والطيور.
رغم أن منظمة الصحة العالمية تحظر هذه الانتهاكات، إلا أنها أوصت عام 2014 باستخدام عقاقير تجريبية لعلاج مرضى مصابين بفيروس إيبولا، معتبرةً إياه أمر أخلاقي في ظل تفشي المرض وارتفاع عدد ضحاياه في غرب أفريقيا
كما ذكرت أن صحيفة “لوموند” الفرنسية نشرت تقريرًا بعنوان “فضيحة شركات الأدوية الكبرى في المجتمعات الفقيرة”، والتي كشفت بدورها عن استغلال بعض شركات العقاقير العملاقة للشعوب الفقيرة في أفريقيا والهند لإنجازها أبحاثها العلمية على حساب صحة مواطينها، فعدا عن كونها ممارسات غير قانونية أو أخلاقية، فهي تساهم في ظهور المزيد من الأمراض التي تحصل على مناعة أقوى وبالتالي تصبح أكثر شدة وفتكًا.
ورغم أن منظمة الصحة العالمية تحظر هذه الانتهاكات، إلا أنها أوصت عام 2014 باستخدام عقاقير تجريبية لعلاج مرضى مصابين بفيروس إيبولا، معتبرةً إياه أمر أخلاقي في ظل تفشي المرض وارتفاع عدد ضحاياه في غرب أفريقيا، إذ قالت: “في ضوء الظروف الخاصة بهذا المرض المتفشي، وبشرط استيفاء شروط معينة، توصل الفريق بالإجماع إلى أنه من الأخلاقي تقديم علاجات ذات فعالية غير معروفة أو آثار سلبية، كعلاج محتمل أو للوقاية من المرض”.
وعقب هذا التصريح، أعلنت ليبيريا أنها سوف تستخدم عقار “زماب” التجريبي لعلاج مواطنيها المصابين بفيروس إيبولا، وقد توفى على إثره الكاهن الإسباني ميغيل باجاريس الذي أصيب بالفيروس بينما كان يعمل في غرب أفريقيا ويُعتقد أنه تناول عقار “زماب” التجريبي. وهي العلاجات التي يحظر استعمالها في الدول الأمريكية والأوروبية بسبب أعراضها الجانبية غير المعلومة، ما يفسر ندرة ظهور الأمراض في تلك البلدان.
حصة العالم العربي من الفساد الطبي
كشفت عدة تحقيقات استقصائية وأفلام وثائقية مثل “فئران بشرية”: تحت التجربة”، و“تجارب دوائية خلف أبواب موصدة”، و“هل يصنع القتلة الأدوية؟”، عن فضائح تجارب غير أخلاقية أو مهنية قامت بها شركات دواء متعددة الجنسيات في دول العالم الثالث، وأبرزها كانت الأردن وتونس ومصر، التي استخدمت كمختبرات لأبحاثهم وتساؤلاتهم الطبية.
احتلت مصر المرتبة الثانية كأكبر دولة أفريقية تستضيف التجارب السريرية وكأكثر الدول اختيارًا للاختبارات العقاقير التجريبية في الشرق الأوسط، وذلك لانخفاض تكلفة البحث وتوفر شريحة واسعة من المتطوعين، كنتيجة طبيعية لسهولة التحايل على القانون المصري وللظروف الاقتصادية المتردية في البلاد وتفشي الفساد في النظام المصري، وقلة وعي هذه الفئة بالآثار الجانبية لهذه التجارب على حالتهم الصحية، لكن من جانب آخر، يستعرض الفيلم الثاني نموذجًا عن مواطنين مصريين خضعوا لتجارب دوائية دون علمهم.
أما بالنسبة لتونس فلقد تلقت نصيبها خلال حرب العراق حين أصيب 3 آلاف جندي أمريكي تقريبًا بداء “اللشمانيا” الجلدية، ما دفع السلطات الأمريكية لتفكير بعلاج، ولم تختر سوى مدينة سيدي بوزيد في تونس كخيار أمثل لتجربة مرهم “باروموميسين” الذي صنعته شركة إسرائيلية مقابل منح 50 دينار لكل متطوع، وهو ما كان متوافر في تلك المدينة التي نخر الفقر في أساساتها ومقوماتها.
أكثر من 13.6% من الأدوية الأساسية المتداولة في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، يمكن تصنيفها تحت فئة “الأدوية المزيفة”، كما تعتقد أن حجم هذه الصناعة يتراوح ما بين 10 إلى 100 مليار.
جدير الذكر أن البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل تواجه خدعة طبية أخرى، فلقد ذكرت منظمة الصحة العالمية أن واحدًا من كل 10 عقاقير تباع في الدول النامية، يكون مزيفًا أو لا يتمتع بمواصفات الجودة المطلوبة ما يؤدي إلى وفاة عشرات الآلاف من الأشخاص، غالبيتهم من أطفال قارة أفريقيا الذي يبحثون عن علاج لأمراض الالتهاب الرئوي والملاريا، ولكن بدلًا من شفائهم من هذه السموم تسوء حالتهم الصحية أو ينتهي بهم الحال في قائمة الوفيات، ولا سيما مع ازدهار تجارة الأدوية المغشوشة التي تقدر بـ 30 مليار دولار أمريكي.
أكدت مجلة الجمعية الطبية الأمريكية (JAMA) على صحة هذه الواقعة، فلقد أظهرت نتائج دراسة أجراها فريق بحثي من جامعة نورث كارولينا، بأن أكثر من 13.6% من الأدوية الأساسية المتداولة في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، يمكن تصنيفها تحت فئة “الأدوية المزيفة”، كما تعتقد أن حجم هذه الصناعة يتراوح ما بين 10 إلى 100 مليار.