ترجمة وتحرير: نون بوست
مرت معلومتين مفاجئتين مرور الكرام هذا الصيف. ففي 15 آب/ أغسطس الماضي، كشفت وسائل إعلام أمريكية عن تنظيم الولايات المتحدة محادثات سرية بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة بهدف حثهما على تعزيز العلاقات الدبلوماسية والعسكرية وتبادل المعلومات بينهما لمواجهة التهديد الإيراني المشترك. بعد مضي بضعة أيام، وتحديدا يوم 20 آب/ أغسطس، اعترف كل من دونالد ترامب ونيكولاس مادورو بعقد محادثات سرية بين الإدارة الأمريكية والنظام الفنزويلي منذ عدة أشهر، في الوقت الذي تشهد فيه العلاقات الدبلوماسية بين البلدين قطيعة.
كشفت هذه التسريبات عن أمر هام تختص به العلاقات الدولية يتمثل في أن الدول تفضل التكتم عن سرية تحركاتها إذا ما تعلق الأمر بالدبلوماسية، أو بصفة عامة بالسياسة الخارجية، وهي حقيقة ترجمتها “القضية الأوكرانية” التي زعزعت هذه الأيام دونالد ترامب.
في الوقت الذي تتعالى فيه الأصوات المنادية بالشفافية والتحذير من نظريات المؤامرة، يتساءل الكثيرون عما إذا كانت الدبلوماسية لا تزال لديها مصلحة في الحفاظ على أسرارها
إن هذا السر أقدم من الدبلوماسية في حد ذاتها، إلا أنه لا يمثل مشكلا في الوقت الذي تطالب فيه المجتمعات بحقها في الاطلاع عن السياسة الدولية. ولكن السر الدبلوماسي يخالف مبدأ الشفافية الديمقراطية المثالية، إذ أنه يغذي الأخبار المغالطة ونظرية المؤامرة بجميع أنواعها. ولعل أبرز مثال على ذلك، معاهدة التعاون الثنائي بين فرنسا وألمانيا التي وُقعت في مدينة “آخن” خلال شهر كانون الثاني/ يناير 2019، بين كل من إيمانويل ماكرون وأنغيلا ميركل، وهي معاهدة اعتبرها البعض بمثابة “بيع منطقة الألزاس” لألمانيا أو “مشاركة فرنسا لمقعدها في مجلس الأمن مع ألمانيا”.
في الوقت الذي تتعالى فيه الأصوات المنادية بالشفافية والتحذير من نظريات المؤامرة، يتساءل الكثيرون عما إذا كانت الدبلوماسية لا تزال لديها مصلحة في الحفاظ على أسرارها. في الحقيقة، ليس لهذا السؤال معنى كبير، فعلى الرغم من العديد من التطورات الأخيرة التي طرأت على اللعبة الدبلوماسية، يبقى السر مرة أخرى اليوم شرطا من شروط تحقيق النجاح في العديد من المفاوضات.
أولوية السلطة التنفيذية
لماذا في العديد من الديمقراطيات، تُتخذ أغلب القرارات المتعلقة بالسياسة الخارجية داخل مكاتب رؤساء الدول سرا وليست في البرلمان، الذي يعتبر رمزا لا غبار عليه للممارسة الديمقراطية؟ للإجابة عن هذا التساؤل، لابد بالعودة بالذاكرة إلى أيام توماس هوبز الذي فصل بين السياسة الخارجية التي يعتبرها فوضوية وعنيفة لأنها تدخل ضمن صراعات بين كيانات ذات سيادة لا تعترف بأي سلطة عليا، وبين السياسة الداخلية التي تتسم بالهدوء نظرا لأنها ترتكز على سلطة تحتكر ممارسة العنف الجسدي المقنن.
لا تتوافق طبيعة البرلمان، الذي يعد مكانًا للتحدث علنا وليس للتكتم، مع الضرورات الموجهة للسياسة الخارجية
يقر هذا الفصل فكرة تلقى رواجا في العديد من الديمقراطيات، تتمثل في أن قضايا الدبلوماسية والدفاع والاستراتيجية تكوّن مشتركة “قطاعا محجوزا” من قبل السلطة التنفيذية بما يتوافق مع قانون الدولة، التي يسمح لها بالتدخل بحذر على الساحة الدولية لحماية المصالح العليا للأمة. وبما أن السياسة الدولية تتسم بالفوضى والطوارئ، فهي تتطلب أيضا اتخاذ قرارات سريعة في كنف السرية. وبالتالي، لا يمكن التوفيق بينها وبين روح تداول الديمقراطيات، التي تتطلب وقتًا وشفافية.
لهذا السبب، لا تتوافق طبيعة البرلمان، الذي يعد مكانًا للتحدث علنا وليس للتكتم، مع الضرورات الموجهة للسياسة الخارجية. ويضفي هذا التعارض شرعية على استمرار هذه المخلفات “المورثة عن الأنظمة الملكية” في صنع القرارات الدبلوماسية – الاستراتيجية.
التكنولوجيا في خدمة الشفافية
تطورت اللعبة الدبلوماسية كثيرا منذ النهضة الإيطالية، وهي الفترة التي ركزت أسس الدبلوماسية المعاصرة. وتقع الدبلوماسية الحالية في قلب مجتمع المعلومات، ولهذا السبب لا يمكن للدبلوماسيين أن ينأوا بأنفسهم تمامًا عن مطالبة المجتمعات بالشفافية.
ساهم ظهور تكنولوجيا المعلومات في إحداث تجديد لم يسبق له مثيل على الممارسات الدبلوماسية، وتغيير عميق في سلوك الدبلوماسيين. فقد ساهم الاستخدام المكثف لشبكات التواصل الاجتماعي، على وجه الخصوص، في توسيع نطاق تبادل سياسات الدبلوماسية العامة، أي الدبلوماسية التي لم تعد تقتصر فقط على العلاقات بين الدبلوماسيين أو غيرهم من ممثلي الدولة، وإنما تستهدف المجتمعات الأجنبية أيضا.
تتجلى الشفافية في الدبلوماسية بظهور ممثلين جدد على الساحة الدولية، على غرار المنظمات غير الحكومية، والمؤسسات الدولية، هذا بالإضافة إلى شخصيات استثنائية على غرار جوليان أسانج وإدوارد سنودن
فضلا عن ذلك، ساهمت تكنولوجيا المعلومات الجديدة في تقريب المسافة بين الدبلوماسيين وبين المجتمع المدني. لقد أصبحت الإمكانات مضاعفة، فمن جهة، يمكن لهذه التكنولوجيات الجديدة أن تساعد في وضع استراتيجيات غير مسبوقة للتأثير على الرأي العام، ومن جهة أخرى، يمكن أن تساهم أيضا في إقامة حوار أعمق مع المجتمعات وبالتالي ظهور دبلوماسية أكثر شفافية.
تتجلى الشفافية في الدبلوماسية بظهور ممثلين جدد على الساحة الدولية، على غرار المنظمات غير الحكومية، والمؤسسات الدولية، هذا بالإضافة إلى شخصيات استثنائية على غرار جوليان أسانج وإدوارد سنودن. وتُعبّر كل هذه الجهات الفاعلة الجديدة عن آرائها بكل أريحية حيال التقليد الذي تتبعه الدولة فيما يخص السرية في الدبلوماسية.
في هذا الإطار، تعد تسريبات ويكيليكس في سنة 2010 لأكثر من 250 ألف برقية دبلوماسية أمريكية المثال الأكثر مدعاة للقلق لهذا الموقف الجديد. فقد أوضحت قضية ويكيليكس بوضوح “العلاقة الحصرية” بين الدبلوماسيين وصناع القرار: فمع انتشار التقنيات الجديدة، حدثت تغييرات جذرية وأصبحت الدبلوماسية تتسم أكثر بالشفافية.
السرية، شرط النجاح
مع ذلك، ستكون الرغبة في أن تُحرر الدبلوماسية نفسها بالكامل من السرية بلا معنى وغير مجدية. فعندما يتعلق الأمر بالمفاوضات الدبلوماسية، تلعب السرية دورًا مهما في ذلك: فهي تسمح للدبلوماسيين بتحرير أنفسهم من القيود السياسية الداخلية ناهيك عن خلق بيئة مواتية لإجراء مناقشات فعالة. فعلى سبيل المثال، إن زيارة أنور السادات إلى القدس في سنة 1977، التي أدت إلى إبرام اتفاق سلام رسمي بين مصر و”إسرائيل”، مُهّد لها من خلال اللقاء السري الذي جمع بين وزير الخارجية الإسرائيلي موشيه ديان، ونائب رئيس الوزراء المصري حسن التهامي.
فضلت بعض الدول العربية، مثل المملكة العربية السعودية، ومؤخرا الإمارات العربية المتحدة، الحفاظ على سرية علاقاتها مع” إسرائيل”، حتى لا تثير غضب الدول العربية الأخرى والسلطة الفلسطينية، التي يمكن أن تندد “بخيانتهم”
علاوة ذلك، صرح هنري كيسنجر بأن تطبيع العلاقات بين واشنطن وبكين، الذي يرمز إليه بزيارة الرئيس نيكسون التاريخية للصين في سنة 1972، يعزى إلى الاتصالات الدبلوماسية السرية التي أجراها مع الزعماء الصينيين.
أثناء نزاع دولي أو أزمة دولية، يواجه القادة تحديات تتعلق بالسمعة التي تدفعهم إلى التوافق مع تفضيلات الرأي العام أو حلفائهم. ومن المحتمل أن يكون التعاون بشكل علني مع خصم باهظ الثمن من حيث الصورة، وذلك لأسباب متنوعة ذات صبغة تاريخية أو أيديولوجية أو استراتيجية. أحيانا، يتعرض رؤساء الدول الذين يختارون التفاوض علنًا مع عدو قديم لخطر الظهور في صورة “الضعيف” في نظر الرأي العام، فضلا عن جعل أنفسهم محل انتقادات لاذعة من قبل جهات فاعلة وطنية أو دولية.
تبعا لذلك، فضلت بعض الدول العربية، مثل المملكة العربية السعودية، ومؤخرا الإمارات العربية المتحدة، الحفاظ على سرية علاقاتها مع “إسرائيل”، حتى لا تثير غضب الدول العربية الأخرى والسلطة الفلسطينية، التي يمكن أن تندد “بخيانتهم”. وهذا ما يفسر سبب قلة الدول التي تخاطر بالتفاوض علنًا مع المنظمات الإرهابية، خوفًا من اتهامها بعدم قدرتها على اتخاذ موقف حازم حيالها.
الانخراط علنا مع الشعب
يشجع تطرّق وسائل الإعلام للمفاوضات رؤساء الدول على تقديم التزام عام لشعبهم للحصول على تنازلات من قادة آخرين. وبالتالي، يمكن للدبلوماسية الشفافة أن تؤدي إلى طريق مسدود في المفاوضات، حيث من المحتمل أن يتبنى كل من الطرفين مواقف متعنتة وحافظة لماء الوجه من خلال رفض تقديم تنازلات. وعلى الساحة الدولية، تحمي عملية إجراء مفاوضات بشكل سري سمعة الحكومة من الوقوع في الحرج، وتقلص من حجم التصعيد الذي قد يكون خطيرًا على استقرار العالم.
تقلل السرية من خطر فشل المفاوضات عن طريق توفير الحد الأدنى من الأمن للأطراف، وإتاحة مجال للمناورة وإمكانية “حفظ ماء الوجه”. ويعد هذا الخيار مناسبا، لاسيما عندما يكون هناك معارضة داخلية قوية لاتفاق تسوية. ودون إجراء مفاوضات سرية، لما كان هناك اتفاق أوسلو الذي أبرم سنة 1993 لأنه لا “إسرائيل” ولا منظمة التحرير الفلسطينية كانت ستختار التفاوض بصفة علنية بسبب الضغط الداخلي الشديد المسلط على زعماء كلا الجانبين.
لم يكن التوصل إلى اتفاق سنة 2015 بشأن الطاقة النووية لإيران ممكنًا إلا عن طريق المحادثات السرية التي جرت في سنة 2013. بعد أكثر من 30 سنة من العلاقات الدبلوماسية المتوترة بين إيران والولايات المتحدة، ظل كلا الجانبين يشككان في مصداقية الطرف المقابل. في هذه الظروف، لاقت عملية إجراء مفاوضات تمهيدية رسمية فشلا. وبالتالي، تسمح السرية ببناء الثقة بين الطرفين، فدون وجود الثقة لا يمكن إجراء أي مفاوضات.
المصدر: ذا كونفاسيشن