تنطلق الروائية سمر سمير المزغني في روايتها الثانية “عشاء لثمانية أشخاص” من تجربة عشاء حقيقي بائس، حيث حضرت السلطات المختلفة بأقنعتها المزيفة، لتحاكي ما شهدته من خلفيتها المهنية المتشعبة عن واقع عربي مؤلم، كاشفةً زيف النخب الحاكمة في السياسة والدين والأعمال والإعلام والفن، في نَفَسٍ من الكوميديا السوداء لا يكف معها القارئ عن الضحك.
تنتمي الرواية إلى ثيمة السلطة والفساد، وتتميز بلغتها الفصحى السلسة في السرد والحوار، وتدور أحداثها حول حفل عشاء فخم يُقام في فيلا الفرخي، حيث ينقسم الفضاء النصي إلى جزأين: الأول يسبق العشاء بـ 24 ساعة ويضم فصلين، والثاني يتناول ما يجري خلال العشاء عبر خمسة فصول، مرتبة وفق تسلسل لائحة الطعام والأطباق المقدمة.
ورغم جدية الموضوع وواقعيته، إلا أن النص، الذي يمتد لنحو مائتي صفحة، لا يغفل أسس الكتابة الأدبية، إذ يوازن بين السرد والوصف لإضفاء الإيقاع المطلوب، كما يتميز بغناه المشهدي وحضوره الحسي، وهو أحد معايير جودة الكتابة، والأهم من ذلك، أنه يحقق متعة القراءة من خلال عنوان مباشر يثير الفضول، وغلاف بسيط ودال، متماشٍ مع أسلوب الناشر في تصميم الأغلفة.
إطار عام
يُقام العشاء التاريخي بتنظيم إحدى أكثر العائلات نجاحًا وثراءً، وسط أزمة جفاف طاحنة تعصف بالبلاد، ومع ذلك لا تُلقي العائلة وضيوفها بالًا لهذه الكارثة المناخية، التي لم تعترف بها الحكومة رسميًا، فيما تصرّ السلطات المختلفة على تجاهلها؛ فلا الإعلام تحدث عنها، ولا الفن عبّر عنها، ولا رجل الأعمال تأثر بها، ولا حتى الشيخ أمّ المصلين في صلاة الاستسقاء، مدعيًا انعزاله في خلوة روحانية للتعوذ من الشيطان.
وفي حين يواجه الناس القحط، تحيا العائلة في عالم موازٍ، فتزين جدران الفيلا العالية بشلالات مياه اصطناعية لترطيب الجو الخانق وإسعاد الضيوف، وكأن لا أزمة تهدد البلاد.
في الحفل، يستضيف ثلاثة أفراد من عائلة الفرخي خمسة مدعوين، يمثلون رؤوس الفساد في مجالاتهم المختلفة، والهدف هو تقديم رامي الابن، أمام الوزير ورجل الأعمال والشيخ والصحفي والفنانة باعتباره ولي العهد الجديد للعائلة، والترويج لمشروعه النخبوي الطموح، الذي يُفترض أن يعالج “أزمة وجودية” يراها في اختلاط الأثرياء بالغوغاء أثناء التسوق.
يصف رامي مشروعه بأنه “ثورة ستفجر وتبني ثروة لا مثيل لها في هذا البلد”، وقد جسده مجسم طويل منتصب كبرج شاهق، مخفيًا خلف ستارة بيضاء بانتظار لحظة الكشف، لكن كما في كثير من الأحيان، تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن.
من جانب آخر، تقدم الكاتبة التونسية-العراقية في روايتها نماذج لقيادات ونخب منعزلة عن مجتمعها، وتفضح التناقض الذي يعيشونه، والأسماء الرنانة المستخدمة للتجارة والبيع الفارغة من المضمون مثل “شركة الصوفية للأملاح المعدنية”، و”شركة الزاهدون للشموع المعطرة”، ومركب “جمال الروح”. صار كل شيء يُباع ويُشترى، بما في ذلك الأثر الذي يتوق الناس لتركه بعد رحيلهم.
حتى النخب الزائفة المدعوّة، التي تحسبهم جميعًا طالما تحالفوا مع السلطة السياسية، لكن قلوبهم شتى، وهو ما يتجلى في الغمز واللمز الذي يمارسونه ضد بعضهم البعض.
أكون أو لا أكون
تبدأ الرواية بمشهد يُجسد ارتباك البطل الثلاثيني رامي، صاحب المشروع، حيث يُوصف بأنه “كأنه في فراش من الشوك، يتقلب يمينًا وشمالًا”. يراهن رامي على مشروعه الغامض، الذي يُعد امتدادًا لمشروعات العائلة المكرسة للفساد وتعميق الانقسام الطبقي في المجتمع، مؤكدًا لوالده بثقة مفرطة: “هذا جبل إيفرست الخاص بي، وستراني قريبًا في قمته”.
يظهر رامي كشخصية مضطربة مأزومة ومتسرعة، يعاني من انعدام الثبات في قراراته ومن آثار عقد طفولية مترسخة، خاصة في علاقته المعقدة مع والده، إذ يناديه دومًا بصفته المهنية “دكتور” بدلًا من أن يناديه بصفة الرحم “بابا”، ورغم هذا الجفاء الظاهري، يحلم رامي خلال العشاء بأن يحتضنه والده أمام الجميع.
يزداد توتر رامي كلما اقترب موعد العشاء، الذي يعلّق عليه آماله في صنع إنجاز تاريخي يطمح من خلاله إلى تجاوز عقدة الأخ الأكبر وعقدة النقص التي تلاحقه، والتخلص من لقب “الابن الفاشل” الذي لا يملك شهادة أو وظيفة، ولم يحقق حتى حلمه بأن يصبح لاعب كرة قدم. يبدو أن إنجازه الوحيد حتى الآن، بعد سنوات من العُقم، هو الابن الذي ينتظر قدومه من أحشاء مها.
يستيقظ رامي قبل الحفل بثلاث ساعات، بعدما أفرط في النوم الذي لم يعد يستجلبه إلا بالأقراص والحشيش منذ رحيل أمه وأخيه الأكبر، المهندس، وفي لحظة من الهلع، يدور كالمسعور، يركض في أنحاء الفيلا بالبيجامة، حافي القدمين، صارخًا بالأوامر.
نقرأ في الرواية: “يجتمع بعازف البيانو ليطلب منه عزف سوناتات تشجع على التمويل، ويؤكد على رئيس الطهاة أهمية فتح الأطباق لشهية الاستثمار، ويذكر مها بالرسائل المبطنة في تقديم لوحات تحث على بناء المشاريع”.
ثمّة رابط بين عمل مها ككاتبة سيناريو وبين مخطط العشاء وما وراءه؛ فهي، إلى جانب صديق عمرها، الذي أوصلته إلى العمل كمساعد خاص لزوجها رامي، أشرفت على الحفل ودبّرت تفاصيله، لكن المفاجأة الأخيرة جاءت لتخدم ما كانا يخططان له، حيث ينمو في أحشائها رسميًا الحفيد الأول لعائلة الفرخي، تلك العائلة التي يقودها رأسا حربة مليونيرية مستقلة: الدكتور والأستاذ.
الدكتور أنجب رامي، وابنًا أكبر فقده مع زوجته في حادث مأساوي، بينما الأستاذ لم يُرزق بأي أبناء. هذا الإرث العائلي المشحون يعكسه رامي في واحدة من لحظات اعترافه المريرة، إذ يقول:
“كلاهما استنزف مخزون الحظ في عائلة الفرخي ولم يتركا لي شيئًا. ولكن، لا أحد يتجرأ على وصف دكتور عبقري بالمدمن السكير، أو اتهام محامٍ ممتاز بالتحايل والفساد. فالخطايا كلها تبهت تحت بريق النجاح. أما أنا، فيتجرؤون على توهم غبائي وفشلي”.
“فات الميعاد”
نقترب من الدكتور عبر صوت الراوي العليم تارة، والمونولوج الداخلي أو حديث النفس له أو لرامي تارة أخرى. إنه نموذج الأب العصامي الذي راكم نجاحات متتالية، ليس من أجل نفسه فقط، بل ليمنح أسرته ما حُرمت منه في صباها، حتى لو كلفه ذلك الغياب عن أحب الناس إليه: زوجته وابنه الأصغر، رامي.
كان في حياتهما شبحًا لا يُرى، يختفي في ظلال انشغاله المستمر ببناء أكبر مركب صحي عربي متخصص في عمليات التجميل، بجناح حصري لكبار الشخصيات. لم يكن يدرك حجم المسافة التي نمت بينه وبين أسرته، وحين أراد تعويضهما، كان “فات الميعاد”، كما يصله صوت أم كلثوم من آلة الفونوغراف، فيعيش مأساة الفقد، ويلازمه تأنيب الضمير.
الدكتور هو الأصل في العائلة، هو من بنى صرحها وثروتها الطائلة من العدم، ابن فلاح معدم حتى كُرّم من قائد البلاد، وحين تحققت نبوءته بتهافت الناس على جراحات التجميل، كان قد أصبح صاحب العيادة الأشهر التي تقصدها الطبقة المخملية، فانتشل عائلته من دركات الفقر إلى قمة جبل الثراء، حتى صارت اليوم لا تأكل إلا الطعام الطازج والنادر، يُستورد خصيصًا من الخارج.
تمتد مظاهر الترف داخل فيلا الفرخي إلى ما هو أبعد من الطعام والشراب، فتشمل الكراسي والأواني المذهبة، واللوحات الفنية، والتحف، والتماثيل الرخامية، والمقتنيات النادرة، حتى الحدائق والبساتين، التي تغطي مساحات شاسعة، لا تعرف شيئًا عن ترشيد المياه التي يصلي من أجلها الناس في صلاة الاستسقاء.
لكن هذه الصلاة، التي بدأت بطقس ديني، تتحول في ظل السخط الشعبي إلى مظاهرة معارضة، يطلق فيها المحتجون اللعنات والشماريخ التي تضيء السماء، كفضاء دلالي مشترك بين عالمين لا يلتقيان. وبينما تعكس الأضواء في السماء صدى الغضب الشعبي، يُطمئن آل الفرخي ضيوفهم بأن هذه مجرد ألعاب نارية أُعدت خصيصًا لإمتاعهم خلال الحفل.
من المعروف أن دول المغرب العربي تشهد تغيرات مناخية ملحوظة منذ عدة سنوات، حتى رفعت لافتات تحذيرية تقول: “الجفاف تهديد لبلادنا”، ما أدى إلى احتجاجات شعبية مطالبة بالتحرك العاجل، فاستجابت السلطات باتخاذ عدة إجراءات لمواجهة شحّ المياه، فتم إعلان “الطوارئ المائية”، وفرض نظام حصص صارم لمياه الشرب، مع حظر جزئي أو كلي لاستخدام المياه في الزراعة، وري الحدائق، وغسل السيارات، وتنظيف الشوارع، وملء المسابح الخاصة.
لكن، كالمعتاد، هناك استثناء واحد: مسبح فيلا الفرخي.
رأسًا على عقب
تكبر مظاهرة الجفاف وتشتبك معها القوات الأمنية، فتعلو الهتافات: “ثورة! ثورة! نهد قصور! مُتنا عطش! الحي يثور!” في صرخة جماعية للانتقام من المستفيدين من أزمات البلاد المتعاقبة، دون أن تجد صدى في الإعلام التقليدي، بينما تنتشر أخبارها على وسائل التواصل الاجتماعي، كما حدث في الثورات العربية خلال العقد الماضي.
في خط آخر للثأر الفردي، ينتقم رئيس الخدم في الفيلا من سيده بأبسط الأدوات المتاحة، محدثًا تأثيرًا عميقًا بعد صفعة مدوية لم يحتملها كبرياؤه ولا وطنيته، ما يمثل نقطة تحول محورية في الرواية.
حدثٌ آخر سابق ومحوري، قبل بدء العشاء، يتلقى الدكتور مكالمة تحمل نبأً عظيمًا، لكنه يسقط جثة هامدة بعد سماع الخبر، وهنا تتوالى المواقف الساخرة والعبثية، التي قد تذكّر المشاهدين بفيلم “الحفلة” الأيقوني للفنان بيتر سيلرز.
وبحسب الخطة الأصلية، كان من المفترض أن يُلقي الدكتور خطاب الافتتاح أمام المدعوين، ولا يمكن بأي حال الإعلان عن موته في هذا التوقيت الحرج، إذ سيؤدي ذلك إلى إلغاء الحفل بأكمله.
تحت هذا الضغط، يجد رامي نفسه، برفقة مساعده وزوجته مها، مضطرين إلى اللعب بالجثة وتحريكها كما تقتضي الحاجة، مع الحرص على عدم لفت انتباه الضيوف أو الخدم.
قد يُنظر إلى الحفل كإسقاط رمزي على فساد النخب الحاكمة، لكن الكاتبة سمر سمير المزغني تؤكد في حديث قصير مع “نون بوست” أن الرواية، التي قدّمها الروائي الأردني جلال برجس، الفائز بـ الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر العربية)، ليست مجرد عمل رمزي، بل “تقيؤ لهذا العشاء المسموم”، و”عملية استشفاء وتشفي من أصحاب العشاء الحقيقيين”، الذي تصفه بأنه “أكثر كارثية من وقائع الرواية”.
وتضيف الكاتبة أن بعض القرّاء تفطنوا إلى هويات بعض الشخصيات، إذ استوحت بعضها مباشرةً من الواقع، بينما مزجت بين الحقيقة والخيال في رسم شخصيات أخرى، لكنها لن تفصح عن الأسماء الحقيقية احترامًا للخصوصية.
تعالج الرواية قضايا عدة، منها نهب الغرب لآثار الحضارات، وتراكم الديون نتيجة الاقتراض بفوائد عالية، لتكون بذلك شهادة أدبية تكشف عالم النخب الفاسدة وتسلط الضوء على واقع يتجاوز في كارثيته ما قد يتخيله القارئ.