أصبحت تركيا ملاذًا آمنًا لملايين العرب الذين سرّهم مشروعها التحديثي خلال العقدين الأخيرين، فقرروا أن يكونوا جزءًا منه وشاهدين عليه باستثماراتٍ ضخمة وإقاماتٍ سياحية، أو لأولئك الفارين من سياط الجلادين بعد موجة الربيع العربي التي اندلعت عام 2011.
وقد بات لدينا مؤخرًا إحصائيات مُعبرة بوضوح عن هذه الظاهرة الجديدة: الأولى هي أن عدد الجالية العربية في تركيا وصل إلى 9 ملايين نسمة، والثانية أن نحو 150 ألف إنسان من هذا العدد، ملتحقون فعليًا بالمراحل الدراسية المختلفة في المؤسسات التعليمية التركية.
وإدراكًا منها أن الروابط الحقيقية التي تربطها بالعالم العربي تنتمي في الأساس إلى المجال الإنساني، حيث اللغة والأدب والفن والتاريخ والهجرات، فقد دشنت تركيا لجاليتها العربية الضخمة معرضًا سنويًا للكتاب، تقطع خلاله أحدث الإصدارات الثقافية حدود العالم العربي، متجهةً إلى أيادي الطيور المهاجرة بإسطنبول.
وقد أطل علينا المعرض في نسخته لهذا العام بإطلالة جديدة، على مستوى الشكل والمضمون، نتعرف ملامحها معًا من خلال هذا التقرير.
اهتمام حكومي كبير
خططت الحكومة التركية لجعل هذا العرس الثقافي الكبير متاحًا لجميع الفئات، وبأفضل الإمكانات والتجهيزات، اتساقًا مع شعار المعرض في نسخته لهذا العام: “الكتابُ يجمعُنا”.
بعد أن يصل الزائر إلى المعرض باستخدام إحدى الحافلات المجانية، سيكتشف أيضًا أن الدخول مجاني بلا أي رسوم، بالإضافة إلى توافر كل الخرائط التي تشرح جغرافيا المعرض للزائرين الجدد بشكل سلس
ومن أجل تيسير الوصول إلى المعرض، خصصت بلدية إسطنبول حافلات مجانية ضخمة بالقرب من محطة “يني كابيه” للمترو، وصولًا إلى مقر انعقاد فعاليات المعرض في “مركز أوراسيا للمؤتمرات”، وبعد أن يصل الزائر إلى المعرض باستخدام إحدى الحافلات المجانية، سيكتشف أيضًا أن الدخول مجاني بلا أي رسوم، بالإضافة إلى توافر كل الخرائط التي تشرح جغرافيا المعرض للزائرين الجدد بشكل سلس.
وفور العبور من إحدى بوابات الدخول الرئيسية، سيعرف الزائر أن المنظمين رتبوا دور النشر ترتيبًا رقميًا، يُسهل على الزائر العارف وجهته مسبقًا الوصول إلى الدار التي تبيع كتبه المفضلة بشكل سريع.
ونتيجةً للإلمام بجيولوجيا إسطنبول الحساسة، وسعيًا لطمأنة الجمهور الوافد إلى المعرض، فقد أوضح المنظمون على لسان سنا شيفتشي في حديث لـ”TRT – عربي”، أن القاعة الكبرى التي تحتوي معظم الفعاليات بُنيت حديثًا بشكل مخصوص لاستيعاب أعداد أكبر من الزائرين، وتم تحصينها هندسيًا وإداريًا من خطر الكوارث، على غرار الزلزال الذي ضرب العاصمة يوم الخميس الماضي.
لقي المعرض في يومه الأول اهتمامًا رسميًا كبيرًا، على مستوى مستشار الرئيس التركي ياسين أقطاي الذي زار المعرض مع القنصل المغربي والملحق الثقافي الإيراني في إسطنبول، وبرفقة أحمد أغري أقجة رئيس جامعة مردين وجوكوش يلماز مدير ثقافة إسطنبول.
حضور عربي واسع
لا يقتصر الحضور العربي في المعرض على الورق والزائرين فقط، وإنما يعتبر المعرض تظاهرةً ثقافية عربية، منذ أول يوم في افتتاحه، السبت الماضي، وحتى نهايته في الـ6 من أكتوبر/تشرين القادم. وقد اُفتتح المعرض بفرقة أوركسترا فلسطينية من مدينة القدس المحتلة، أدت واحدة من أشهر أغنيات التراث الشعبي التركي.
وبشكلٍ منتظم، يستضيف المعرض إحدى الشخصيات العربية الرائدة في ميادين الفكر والعلم والأدب، عبر لقاء مباشر مع الشباب، يستمر لمدة ساعة، ففي يوم الأحد الماضي، خطفت محاضرة الدكتور طارق السويدان، المفكر الكويتي المعروف بآرائه المجددة، أنظار الحاضرين، حيث كانت المحاضرة رحلةً فريدةً بين الشخصي والعام، الديني والدنيوي، بعنوان “في مدرسة الحياة”.
ومن ليبيا، حضر الباحث في التاريخ الإسلامي الدكتور علي الصلابي، من خلال محاضرة دينية من دروس تاريخ الأنبياء، ألقاها يوم الإثنين الماضي، بعنوان “نوح بين عصرين”.
وبطبيعة الحال، كان للثورة المصرية حضورها البارز في المعرض العربي من خلال محاضرة قدمها الثلاثي الباحث: محمد إلهامي وأحمد فريد مولانا وعمرو عادل، بعُنوان “الثورة المصرية.. تطورات وتقلبات”.
شملت أجندة المعرض اهتمامًا واسعًا باللغة العربية، حيث حرصت بعض الجامعات التركية الكبرى على تقديم خلاصة تجاربها في تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها
ويُقدم ياسين أقطاي، بحكم موقعه السياسي، محاضرةً مهمة بعنوان “مستجدات ملف اللاجئين في تركيا”، بالإضافة إلى ندوة تعريفية عن “حقوق اللاجئين وواجباتهم” من إعداد الجمعية الدولية للحقوقيين في تركيا.
كما شملت أجندة المعرض اهتمامًا واسعًا باللغة العربية، حيث حرصت بعض الجامعات التركية الكبرى على تقديم خلاصة تجاربها في تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها (لغة ثانية)، مثل جامعة إسطنبول إشهير وجامعة مرمرة (كلية الإلهيات).
يعتبر المعرض، بحسب ما ذكره صهيب الفلاحي المسؤول الإعلامي عن هذه النسخة، الحدث الثقافي العربي الأبرز في تركيا على الإطلاق، وأكبر معرض كتاب في تركيا بشكل عام، بالإضافة إلى منافسته عددًا من أهم المعارض العربية في بلدانها، وتستهدف تركيا في نسخة هذا العام عدد زوار يناهز الـ100 ألف عربي، بحلول الساعة العاشرة من مساء يوم الإثنين (موعد نهاية المعرض)، وقد وصل عدد الزائرين حتى كتابة التقرير نحو 50 ألف زائر، معظمهم من العرب.
الأجيال الجديدة
بينما يستمر الزوار من الفئات العمرية المتوسطة في التدفق الطبيعي على المعرض، تتحول الهوامش المكانية إلى خلايا نحل لا تكل، من الشباب والأطفال على حد سواء، فالكتاب العربي “يجمع” كل الفئات.
وبحسب عماد كوسا المسؤول عن الأنشطة الطلابية في المعرض، فإن دور الشباب لم يقتصر على تنظيم المعرض من الداخل وتسهيل الوصول من الخارج، وإنما أخذ الشباب الجامعي على عاتقه أيضًا عملية التواصل مع الفئات الأقل عمرًا، خاصة تلك المقبلة على المراحل التعليمية التخصصية ذات التأثير في المجال المهني مستقبلاً، من خلال تعريفهم بالفروق الدقيقة بين المجالات وآليات الاختيار والفرص المتاحة في كل مجال.
أحد أبرز المفاجآت التي أعلنتها المنظمة خلال المعرض، كان تطبيق “شريان الحياة” الذي يتضمن محتوى تعليميًا عمليًا لعلاج اضطراب “كرب ما بعد الصدمة”
وعلى سبيل المثال، يشرح طلاب كليات الطب الحاضرون في المعرض بعض المهارات الطبية بشكل مباشر وتفاعلي، كطرق قياس السكر والضغط والوزن، وأساسيات الحياة الصحية بشكل عام.
فيما خطفت القاعة رقم (45) من الزاوية الشمالية للمعرض انتباه جميع الأطفال والمراهقين، نظرًا لحجم وفرادة وتنوع الأنشطة التي تتيحها منظمة “لأنك إنسان” للدعم النفسي والاجتماعي هناك. فالأنشطة التي تقدمها المنظمة للفئات الأصغر سنًا تعتمد في الأساس على نظام المشاركة والمكافأة، تعزيزًا لروح العمل الجماعي وتشجيعًا لجميع الأطفال على المغامرة، وقد تنوعت مجالات التسابق من أدب الطفل والشطرنج إلى المعلومات العامة، كما تخللها ندوات توعوية، كان أبرزها ندوة عن “مخاطر إدمان الإنترنت”.
أحد أبرز المفاجآت التي أعلنتها المنظمة خلال المعرض، كان تطبيق “شريان الحياة” الذي يتضمن محتوى تعليميًا عمليًا لعلاج اضطراب “كرب ما بعد الصدمة”، عبر 12 خطوة معدة من المتخصصين، وموجهةً بالأخص للأطفال الناجين من دوامات العنف في منطقة الشرق الأوسط.
دلالات مهمة
يحقق المعرض بالنسبة لأنقرة طيفًا واسعًا من الأهداف، ويحمل في طياته دلالات عميقة، يعتبر أهمها على الإطلاق، ما سماه الدكتور طارق السويدان بـ”سياسة الأبواب المفتوحة” التي تنتهجا تركيا.
ففي الوقت الذي تحاول “إسرائيل” اليهودية ترويج نفسها واحةً للديمقراطية، في إقليم يعج بفوائض العنف والكراهية، تستطيع تركيا، ذات البعد العربي الإسلامي، تقديم نموذج سياسي يقارع الديمقراطيات العريقة في العالم.
وبحسب حمزة تيكن الباحث في الشأن التركي، فإن تركيا استطاعت الحفاظ على مناخ ديمقراطي معتدل، تُقام فيه انتخابات رئاسية ونيابية بشكل مستمر، ويخسر الحزب الحاكم في جانبها البلدي أكبر مدينتين في البلاد (أنقرة وإسطنبول)، ويحافظ الجمهور خلاله على حجم مشاركة قياسي يتخطى 80% في بعض الأحيان.
في هذا السياق، يرى تيكن معرض إسطنبول دليلاً عمليًا على الحرية والتنوع الثقافي في تركيا، حيث يمكن للزائر أن يلاحظ مشاركة دور نشر مسيحية، وبسهولة يعثر على إصدارات تهاجم أردوغان وتنتقد الدولة العثمانية نفسها.
يعتبر المعرض ملتقى مهمًا لكيانات مؤسسية ضخمة مثل اتحاد الناشرين الأتراك وجمعية الناشرين الأتراك من ناحية، والجمعية الدولية لناشري الكتاب العربي من ناحية أخرى
وعلى المستوى الإداري، تنظر أنقرة إلى المعرض باعتباره فرصة مثالية لتوطيد العلائق بين منابع الثقافتين العربية والتركية في شكلها الورقي المكتوب: دور النشر، كما يقول ياسين أقطاي مستشار الرئيس التركي.
ومن هذه الناحية، يعتبر المعرض ملتقى مهمًا لكياناتٍ مؤسسية ضخمة مثل اتحاد الناشرين الأتراك وجمعية الناشرين الأتراك من ناحية، والجمعية الدولية لناشري الكتاب العربي من ناحية أخرى، وجميعها جهات مشرفة على التنظيم في نفس الوقت، وقد وصلت عدد دور النشر المشاركة في المعرض إلى 160 دارًا، تمثل أكثر من 15 دولة عربية.
ويشير محمد أغري أقجة المنسق العام للمعرض إلى أن اختيار شعار “الكتاب يجمعنا” لم يكن اعتباطيًا في هذا التوقيت، وإنما يدل على أن الكتاب بمقدوره توحيد الأمة الإسلامية رغم كل الخلافات التي يقر الجميع بوجودها، وعكر بعض منها “العنصرية” أجواء تركيا نفسها خلال الأيام الأخيرة.