في الـ8 من أبريل 2016 وقعت كل من مصر والسعودية اتفاقية تعيين الحدود البحرية بين البلدين، تنازلت القاهرة بمقتضاها عن سيادتها على جزيرتي تيران وصنافير للرياض، على هامش زيارة العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز لمصر، الأمر الذي أشعل الاحتجاجات في الشوارع وأثارت اتهامات من الشارع المصري للحكومة بالتنازل عن الجزيرتين مقابل استمرار تدفق المساعدات السعودية.
موجة الاحتجاجات الواسعة التي شهدتها الساحة المصرية في هذا التوقيت لم تكتف عند حاجز الجزيرتين فقط، إذ أثير في تلك الأثناء العديد من التساؤلات عن مستقبل بعض الجزر الأخرى، في مقدمتها جزيرة “خيوس” الواقعة على الحدود اليونانية، التي فرضت نفسها على الساحة الإعلامية طيلة العامين الماضيين.
تباين وجهات النظر بشأن أحقية مصر بهذه الجزيرة ومدى صحة التنازل عنها لصالح اليونان عبر اتفاقية مشابهة لتيران وصنافير أجج مشاعر المصريين الذين باتوا يحبسون أنفاسهم خشية التفريط في تراب وطنهم يومًا تلو الآخر، في مقابل مغريات سياسية أو اقتصادية، وهو ما يتطلب تسليط الضوء على البُعد التاريخي والجغرافي لتلك الجزيرة التي انقسم حيالها الباحثون إلى قسمين: أحدهما يرى أحقية مصر بها جغرافيًا، فيما يعتبرها آخرون حقًا تاريخيًا لليونانيين.
تاريخ الجزيرة
تعد جزيرة “تشيوس” أو “خيوس” – باليونانية – واحدة من أكثر الجزر السياحية شهرة في بحر إيجة، وتحتل المرتبة الخامسة من حيث المساحة، حيث تصل مساحتها إلى 50 كيلومترًا مربعًا إذا تم مقارنتها بالجزر اليونانية، وتبعد 7 كيلومترات عن الساحل التركي، ويبلغ عدد سكانها قرابة 50 ألف شخص.
تعود شهرة الجزيرة تاريخيًا إلى أنها كانت موطنًا لعشرات كبار الفلاسفة والأدباء، على رأسهم الشاعر الملحمي اليوناني هوميروس، صاحب رائعتي الإلياذة والأوديسيا، كما تضم أيضًا كوكبة متميزة من الآثار التركية واليونانية القديمة، التي ظلت حتى اليوم أحد أبرز معالم الجزيرة.
خضعت الجزيرة للحكم العثماني في منتصف القرن التاسع عشر، وفي أثناء التمرد الذي قاده اليونانيون في محاولة للاستقلال عن العثمانيين، استعان السلطان آنذاك بوالي مصر “محمد علي باشا” للقضاء على هذا التمرد، فيما عرف تاريخيًا باسم “حرب المورة”.
وبالفعل أرسل محمد علي قوة جرارة من الجيش المصري بقيادة “إبراهيم باشا” ساهمت في وأد هذا الحراك، فمنح السلطان العثماني لوالي مصر حكم جزيرتي “خيوس” و”كريت” بجانب حكم مصر بفرمان رسمي، وذلك عام 1824 لتصبح الجزيرة مصرية منذ هذا التاريخ.
إلا أنه ووفق اتفاقية “لندن 1840” سحب السلطان الجزيرتين من محمد علي، كذلك تجريده من السيادة في الجزيرة العربية وجدة وبعض مدن اليمن، وذلك بعدما بات يمثل تهديدًا لوحدة الإمبراطورية العثمانية، لتبقيا بعد استقلال اليونان ملكية خاصة للدولة اليونانية وإن كانتا موطنًا للعديد من المعالم المصرية.
وكان محمد علي قد أقام المسجد العثماني القديم فوق الجزيرة، وقلعة محمد علي، وفي العصر الحديث تحولت ملكية هذه المعالم إلى وزارة الأوقاف المصرية التي أجرتها إلى اليونان عام 1997 مقابل مليون دولار سنويًا، إلا أن هذا المبلغ توقف عن السداد مع بداية عام 2015، وهو ما أثار الشكوك لدى الشارع المصري، خاصة أنه تزامن مع اتفاقية ترسيم الحدود المصرية السعودية.
تصريحات أثارت الشك
في أغسطس 2016 وخلال حوار شامل له مع رؤساء تحرير الصحف القومية “الأهرام والأخبار والجمهورية”، قال الرئيس المصري: “هناك مساعٍ مصرية لعقد اتفاقات تعيين الحدود البحرية مع الدول المجاورة لسواحلها، وأن ذلك يعطى فرصة حقيقية للبحث عن الثروات والموارد المتاحة في المياه الاقتصادية، بقضية الجزية”.
السيسي ذكر أن اتفاق تعيين الحدود مع دولة قبرص، أتاح لمصر الكشف عن حقل “ظهر” للغاز الطبيعي، مؤكدًا بأنه مصدر كبير للدخل من النقد الأجنبي عند بدء إنتاجه بحلول عام 2018، مشيرًا إلى أن مصر ماضية في مباحثاتها لترسيم الحدود البحرية مع دولة اليونان، قائلًا: “بدأنا بالفعل في إجراءات وخطوات في هذا الشأن”.
الدعوى تضمنت أن الجزيرة ملك للدولة المصرية وتقع ضمن أراضي الأوقاف المصرية، حيث إنها كانت هبة من السلطان العثماني إلى محمد علي باشا أوقفها فيما بعد للأعمال الخيرية
سبقت تلك التصريحات قمة ثلاثية عقدت في القاهرة تضم بجانب مصر كل من قبرص واليونان، وذلك لتفعيل أوجه التعاون والمشروعات التي تم الاتفاق عليها في القمتين السابقتين للدول الثلاثة، وهو الأمر الذي أثار توجس لدى الكثير من المصريين الذين عبروا عن قلقهم حيال مستقبل جزيرة خيوس.
انتقل هذا التخوف من الشارع إلى ساحات البرلمان والقضاء، حيث طالب النائب المعارض هيثم الحريري، الحكومة المصرية بتوضيح حقيقة تنازل مصر عن الجزيرة بناءً على اتفاقية موقعة بين مصر واليونان لترسيم الحدود، فيما تقدم المحاميان، حميدو البرنس وعلي أيوب، مقيم دعوى بطلان التنازل عن “تيران وصنافير”، بدعوى جديدة لإثبات مصرية جزيرة “تشيوس” بعد رفض الحكومة اليونانية، سداد مبلغ مليون دولار قيمة إيجارها من وزارة الأوقاف المصرية طبقًا للعقد المبرم بين الحكومتين سنة 1997.
الدعوى تضمنت أن الجزيرة ملك للدولة المصرية وتقع ضمن أراضي الأوقاف المصرية، حيث إنها كانت هبة من السلطان العثماني إلى محمد علي باشا أوقفها فيما بعد للأعمال الخيرية ولهذا اتفق الطرفان على سداد الجانب اليوناني مبلغ سنوي يقدر بمليون دولار إلى الأوقاف المصرية.
في أول رد برلماني على طلب الحريري أشارت وكيل لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب، بأن الجزيرة تابعة للسيادة اليونانية ولا تمتلك مصر أي جزء من أراضيها إلا بعض المعالم الأثرية – تقع على الجزيرة – التابعة لوزارة الأوقاف
المحاميان اختصما في الدعوى التي قدمت إلى رئيس محكمة القضاء الإداري ونائب رئيس مجلس الدولة كل من “عبد الفتاح السيسي رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء – آنذاك – شريف إسماعيل ووزير الأوقاف محمد مختار جمعة ووزير الخارجية سامح شكري” بصفتهم مسؤولين عن ذلك الأمر.
الجزيرة يونانية
في أول رد برلماني على طلب الحريري أشارت وكيل لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب، بأن الجزيرة تابعة للسيادة اليونانية ولا تمتلك مصر أي جزء من أراضيها إلا بعض المعالم الأثرية – تقع على الجزيرة – التابعة لوزارة الأوقاف، وهو نفس ما أشار إليه رئيس مجلس الأعمال المصري اليوناني هاني برزي، مؤكدًا أن تشيوس يونانية وتقع شمال شرق اليونان، وأن اتفاقية ترسيم حدود المياه الإقليمية الموقعة عام 2015، استهدفت تحديد مواقع الغاز في البحر المتوسط ولم تُعطِ أي دولة جزرًا خارج نطاق أراضيها.
الدكتور عاصم الدسوقي، أستاذ التاريخ الحديث، أشار في تصريحات صحفية له أن الجزيرة يونانية بحكم التاريخ، مفسرًا دفع اليونان إيجار سنوي عن الجزيرة بقوله: “هوه كل واحد عنده بيت في بلد بيمتلك البلد كلها”، وتابع قد يكون هناك أوقاف تابعة للدولة المصرية مثل المساجد أو أثر، ولكن هذا لا يعني أن الجزيرة مصرية.
فيما أشار أشرف داوود الباحث في التاريخ اليوناني، أن الجزيرة من الناحية التاريخية تتبع اليونان، وذلك قبل أن يمنحها السلطان العثماني لوالي مصر، غير أن محمد علي بات يمثل تهديدًا للتوازن الدولي في هذا الوقت، الأمر الذي دفع قوات أوروبا للتصدي له عبر المؤتمر الشهير لندن 1840، ليصدر السلطان فرمانًا بتجريده من تلك الجزر بعد الضغوط التي مورست عليه من دول أوروبا بأكملها.
وأضاف الباحث في تصريحاته لـ”نون بوست” أنه رغم تبعية الجزيرة لليونان تاريخيًا، فإن العديد من المعالم الإسلامية والأثرية هناك كالمساجد والقلاع تخضع لملكية المصريين، ولعل هذا ما يفسر دفع الجانب اليوناني مقابل مالي سنويًا جراء الاستفادة من هذه المعالم التي تدر دخولًا سياحية عالية على الدولة اليونانية.
رسميًا.. أعلنت مصر أنها لا تملك جزيرة “خيوس” الواقعة بالبحر المتوسط وأن الأخيرة ملك لليونان، مشيرة إلى أنه لم يتم ترسيم أي حدود بحرية مع الجانب اليوناني، إذ نقل “مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار” التابع لمجلس الوزراء المصري، في بيان عن وزارة الخارجية المصرية قولها: “جزيرة خيوس تعود ملكيتها من الأصل للدولة اليونانية وليست ملكًا للدولة المصرية على الإطلاق”، مضيفًا أن الجزيرة “ملتصقة جغرافيًا بالحدود اليونانية وبعيدة كل البُعد عن الحدود المصرية ولم تكن في يوم من الأيام ملكًا لمصر أو خاضعة للسيادة المصرية”.
أحقية مصرية
في الجهة الأخرى، هناك من يرى أحقية مصر بالجزيرة، وهو ما أشار إليه مدير عام إدارة الأوقاف والمحاسبة السابق، بوزارة الأوقاف المصرية، عاطف عثمان، في أكثر من مرة، حيث يرى أن “مصر تملك جزيرة تشيوس في اليونان وقصر محمد علي في قولة، وعدد من الأوقاف خارج مصر”.
عثمان في لقاء تليفزيوني له على قناة “النهار” المصرية أشار إلى أن الجزيرة التي تبلغ مساحتها 50 كيلومترًا مربعًا، كانت هبة من السلطان العثماني لمحمد علي باشا وأوقفها فيما بعد للأعمال الخيرية، مؤكدًا أن هناك إهدارًا لمئات الملايين في أوقاف مصر الموجودة باليونان، كما تملك مصر مَحمّل الركب الشريف في السعودية.
وكانت وزارة الأوقاف قد أصدرت بيانًا نفت فيه ما أثير بشأن تنازلها عن بعض أملاكها بالجزيرة، وأنها لم تتنازل عن أي من أملاكها في أي مكان، موضحة أن وفدًا منها (ممثلاً عن وزارة الآثار وهيئة التنمية السياحية وبعض الجهات الأخرى بالدولة)، سافر إلى اليونان لدراسة الاستثمار الأمثل لأملاك الهيئة هناك، وترميم ما يحتاج إلى ترميم من الآثار المملوكة لها بمدينة كافالا وجزيرة خيوس.
الموقف ذاته تبناه الباحث الجغرافي أحمد فضالي، الذي طالب بالرجوع إلى محرك البحث العالمي “جوجل”، حيث كشف أن الموقع ذهب إلى أن الجزيرة جغرافيًا تابعة للسيادة المصرية في بحر إيجة، وهي خامس جزيرة من حيث المساحة في اليونان وكانت تسمى بـ”ساقز” في أثناء الحكم العثماني لها.
تبقى اتفاقية تيران وصنافير شبحًا يؤرق مضاجع المصريين حيال مستقبل جزيرة خيوس وغيرها من المناطق الأخرى
وأضاف لـ”نون بوست” أن مراجعة ملكية الجزيرة تاريخيًا وجغرافيًا أمر في غاية الأهمية، تجنبًا لوقوع أي مناوشات من شأنها أن تعكر صفو العلاقات بين الدولتين أو الشعبين مستقبلاً، لافتًا إلى أن مصر واليونان وقبرص وقعوا بالفعل علي اتفاقية قانون البحار عام 1982، تحت رعاية الأمم المتحدة،
وشدد على أن ترسيم الحدود البحرية أمر مهم للدول التي تمتلك سواحل مثل مصر واليونان، وإعادة ترسيم الحدود يتم عن طريق الأمم المتحدة، ولا يستطيع فرد أو حكومة ترسيم الحدود بشكل عشوائي كما يعتقد البعض، فهناك اتفاقيات دولية يجب على الدول احترامها.
وفي الأخير.. تبقى اتفاقية تيران وصنافير شبحًا يؤرق مضاجع المصريين حيال مستقبل جزيرة خيوس وغيرها من المناطق الأخرى، في ظل انقسام الرؤى بشأن ملكيتها، هذا في الوقت الذي تلتزم فيه اليونان بالصمت حيال هذا الحراك الإعلامي والشعبي، ليبقى الوضع على ما هو عليه، سيادة يونانية تفرضها بالقوة في وجه حلم يداعب خيال أبناء المحروسة.