من التحقيقات إلى الفضائح السياسية والدبلوماسية، مرورًا بدهاليز الحكم وخلافات القصور، وحتى الأرشيف الذي لا يمكن محو غباره، هناك جملة عربية إعلامية بالغة التكرار تظهر في خلفية المشهد، تشي بهيمنة يودّ الإعلامي العربي لو امتلكها، وتكشف تحلله من عبء المعلومة وتبعاتها. تلك الجملة هي: “نقلًا عن الإعلام الإسرائيلي”.
مهما اختلف السياق أو ترتيب الجملة أو التوصيف والتنصيف، سواء “الإعلام العبري” أو “مصادر إسرائيلية” أو “صحف العدو”، إلا أن ما يخرج من الإعلام الإسرائيلي ظلّ مثيرًا للفضول والانتباه في المجتمعات العربية، كاشفًا لما يعتقده العربي غيبًا، وصريحًا جدًا فيما يُرائى به، من الحاكم إلى الفرد. لهذا، دأبت الرقابة الإسرائيلية على توخي الحذر فيما تنشره، درءًا لمخاطر جمهورها، وعبثًا بقلوب وعقول الملايين المترامية على أطراف العالم العربي.
يأتي ملف “هآرتس وأخواتها” في استقصاء دقيق لتاريخ الإعلام الإسرائيلي، أو ما يُعرف بشبكة “الصحافة الصهيونية”، من صحفها ومراكزها الإعلامية، إلى نشأة كلٍّ منها وتحدياتها، وتواطئها العسكري تحت غطاء إعلامي، كما يتناول اتجاهاتها ودورها في التأثير على العقول العربية على مدى عقود من اتفاقيات السلام والثورات والحروب والتحالفات، التي كشفت هشاشة الاتكاء على حروفها.
يسلّط هذا الجزء من السلسلة الضوء على صحيفة “يديعوت أحرونوت“، من لحظة التأسيس إلى لحظة التأثير، مرورًا بمسارها التحريري، وتحولاتها السياسية، وعلاقتها بالمؤسسة الأمنية والعسكرية، وصولًا إلى إلى تموضعها السياسي داخليًا وإقليميًا، وموقعها ضمن ميزان الصحافة وأخلاقياتها.
الظهور الأول لـ “آخر الأخبار”
عند العودة إلى أرشيف المكتبة الوطنية الإسرائيلية وتتبع تاريخ عددٍ من المفاصل السياسية والعسكرية والاجتماعية والرياضية المبكرة في تاريخ الكيان، تبرز تغطية صحيفة “يديعوت أحرونوت” كمرجعية يمكن من خلالها استقراء الحدث وتحليله من زاوية إسرائيلية.
يتأتى ذلك من نشأتها المبكرة، التي سبقت حرب عام 1948 وما ترتب عليها من قيام كيانٍ استعماري إسرائيلي على الأرض الفلسطينية العربية، إضافة إلى معاصرتها لأحداث محلية وإقليمية وعالمية، وتسليط الضوء عليها من منظور إسرائيلي، بأسلوب يتماشى مع المزاج العام، ما أسهم في استمرار صدورها وتطورها حتى اليوم.
تجلى ذلك منذ التفاعلات التي شهدتها فلسطين إبان الانتداب البريطاني، وما رافقه من تصاعد الهجرة اليهودية وتطبيق مخرجات المؤتمرات الصهيونية الأولى (1897-1906)، التي سعت إلى تحقيق وحدة فكرية وثقافية للمهاجرين اليهود، وإحياء العبرية كلغة حديثة جامعة لهم، فأنشأت المكتبات اليهودية في تل أبيب والقدس، واستُقدمت الكتب اليهودية التاريخية من روسيا وألمانيا ومختلف أنحاء أوروبا، كما بدأت الصحف في الصدور، مروّجة لأفكار الاستيطان والهجرة.
من بين هذه الصحف كانت “هآحاد”، التي أصدرها المكتب الصهيوني في يافا عام 1909، وصحيفة “هآرتس” عام 1919، التي كانت أول صحيفة يومية تحمل صبغة يسارية وتتوجه إلى النخبة الثقافية اليهودية، كما برزت صحيفة “دافار”، التي أسسها برل كاتزنلسون عام 1925، للحشد لصالح الهستدروت وتطوير الفعل السياسي والاجتماعي للحركة العمالية الصهيونية، إضافة إلى صحيفة “هابوكر”، التي صدرت عام 1935 كناطق رسمي لحزب الصهيونيين العموميين.
في ظل هذه البدايات وظهور نهمٍ متزايد للصحافة المطبوعة باللغة العبرية في الأوساط اليهودية المهاجرة، ظهرت صحيفة “يديعوت أحرونوت” في 11 سبتمبر/أيلول 1939، لتقدم نمطًا شعبيًا من الإعلام يعتمد على الأخبار السريعة والموجزة، وهو ما عكسه اسمها، الذي يعني “آخر الأخبار”، وكذلك نمط نشاطها، الذي تماشى مع رؤية مؤسسها، المستثمر اليهودي الروسي ناحوم كوماروف.
وتحت عنوان عريض: “البريطانيون يشنون هجومًا على الجبهة الغربية”، وبلا أي صور، انطلقت الصحيفة كإصدار مدفوع الثمن، وبدأ بيعها على رأس شارع هرتزل في تل أبيب. ولتفادي المزاحمة مع الصحف المعروفة، اعتمدت استراتيجية نشر نسختين يوميًا: الأولى بعد الظهر، والثانية في المساء، وهو ما منحها ميزة تنافسية على صحف “دافار” و”هآرتس” و”هابوكر”، حيث استهدفت العمال اليهود أثناء خروجهم من أعمالهم.
توافق ذلك مع ميزة تحريرية تمثّلت في استنساخ نمط الصحيفة اللندنية واسعة الشعبية حينها “لندن إيفنينغ”، وميزة جماهيرية أخرى بابتعادها عن الانضواء الفعلي تحت راية حزب سياسي معين، مخالفةً بذلك النمط السائد في الصحافة العبرية الناشئة آنذاك.
لكن هذا لم يمنعها من التقارب مع حزب “مباي” ومؤسسه ديفيد بن غوريون، الذي تأسس قبل بضع سنوات من ظهورها، وكان يحظى بشعبية واسعة بين صفوف المهاجرين اليهود وعمال الهستدروت (الحزب الذي يُعرف اليوم بـ”حزب العمل”)، ما أسهم في تعزيز قاعدة قرّائها وإثراء محتواها، لكن ذلك لم يُترجم إلى نجاح اقتصادي.
نظرًا لارتفاع ديون الصحيفة، اضطر ناحوم كوماروف إلى إعلان إفلاسها بعد عامٍ واحد فقط من إطلاقها، ليتم بيعها إلى أحد دائنيها، وهو صاحب مطبعة “موسى”، ألكسندر موزيس، الذي حصل على ترخيص الصحيفة مقابل تسوية دينه. وبعد عام، تولّى يهودا موزيس، رائد أعمال صاعد ومطوّر عقارات، إدارتها، وضمّ ابنه نوح موزيس للعمل على تطوير الصحيفة وتعزيز ارتباطها بالعمل الاشتراكي في الكيبوتسات.
مع منتصف عام 1940، ومن خلال شبكة علاقاته المتشعبة، اقترح نوح موزيس اسم عزريئيل كارلباخ، الصحفي اليهودي الألماني الأصل، لتولي إدارة تحرير الصحيفة، إذ بدا كارلباخ خيارًا مناسبًا نظرًا لهجرته المبكرة إلى فلسطين، وتعليمه الديني اليهودي، إلى جانب دراسته الأكاديمية في جامعتي فريدرش فيلهيلم في برلين وهامبورغ، حيث حصل على درجة الدكتوراه في الحقوق.
بتوليه رئاسة تحرير يديعوت أحرونوت، شهدت الصحيفة فورتها الأولى، إذ أضاف كارلباخ لمسته الصحفية الجادة، متبنيًا أسلوبًا أكثر تنوعًا في تقديم الأخبار، مع التركيز على التقارير الحصرية، والقصص الإخبارية الجذابة، ومواكبة الاتجاهات العالمية في الصحافة، وهو ما أكسبها شعبية متزايدة، خصوصًا بين جمهور تل أبيب وضواحيها.
مع توسع نطاق الحرب العالمية الثانية، بدأت الصحيفة الناشئة تحقق تفوقًا على صحفٍ سبقتها في النشأة مثل “دافار” و”هآرتس”، خاصةً من خلال تغطيتها الحصرية لتأثيرات الحرب على الوضع المحلي في فلسطين، وعلاقة الانتداب البريطاني بكلٍّ من الفلسطينيين العرب والمهاجرين اليهود. ومع تصاعد الاضطرابات السياسية آنذاك، ارتفع توزيع الصحيفة ليصل أحيانًا إلى 20 ألف نسخة.
تزامن هذا الصعود مع استقطاب مزيد من الصحفيين اليهود من صحفٍ عبرية وأجنبية، مستفيدًا من سياسة الصحيفة العائمة التي تجنبت الانحياز لحزب دون آخر، وكان من بين هؤلاء الصحفيين: شالوم روزنفيلد، وشموئيل شنيتزر، وأفيزر جولان، وجوزيف فينيتسكي، وغيرهم.
أمام هذه المنافسة المتصاعدة، اضطرت الأحزاب اليسارية إلى إصدار صحفٍ أخرى إلى جانب “دافار”، في محاولة لتخفيف الضغط عنها في مواجهة “يديعوت أحرونوت”، فبرزت “حداشوت هراف”، التي سعت لمنافستها علنًا، وإن لم تتمكن من تحقيق نجاح مماثل.
تحديات “الانقلاب العظيم”
رغم التطور الكبير والمتسارع الذي شهدته صحيفة “يديعوت أحرونوت” على يد كارلباخ، إلا أنه كان مصحوبًا بثمنٍ لم تقبل به عائلة موزيس، التي سعت إلى التحكم الكامل بسياسة الصحيفة وأوجه إنفاقها، ما أدى إلى تفاقم الخلافات بين كارلباخ ونوح موزيس.
كان أبرز تلك الخلافات حادثة سفر كارلباخ إلى الولايات المتحدة الأمريكية في نوفمبر/تشرين الثاني 1947، لتغطية التصويت في هيئة الأمم المتحدة على قرار تقسيم فلسطين، حين أرسل كارلباخ تقريره إلى الصحيفة عبر جهاز التلغراف في إرسالٍ عاجل، نظرًا لاعتقاده بأهمية الخبر، ما أثار غضب مالك الصحيفة، نوح موزيس، عندما لاحظ التكلفة العالية للإرسال.
تزامن ذلك مع سياسة تحريرية لكارلباخ اتجه من خلالها لاستخدام مقصه التحريري، ومنع نشر الأنباء التي قد تضر شركائه من رجال الأعمال، ما أشعل النزاع وأوصله إلى طريقٍ مسدود، ففي مساء يوم 13 فبراير/تشرين الثاني، وضع كارلباخ رسالة على مكتب يهودا موزيس عرض فيها شراء ملكية الصحيفة، مهددًا إياه بأن استقالته ستعرض مستقبل الصحيفة للخطر، ولما رفض المالك العرض، أسس كارلباخ صحيفة في اليوم نفسه، فيما عُرف في تاريخ الصحافة العبرية بـ “الانقلاب العظيم”.
شكّل انقلاب كارلباخ وتأسيسه صحيفة “يديعوت معاريف”، مصحوبًا بنخبة التحرير وأبرز أقلامه، ضربةً قويةً لصحيفة “يديعوت أحرونوت”، ما دفع مالكها إلى تجنيد جميع أفراد عائلته، إضافة إلى متقاعدين يهود من ذوي الخبرة في العمل الصحفي، وعاطلين عن العمل، لضمان استمرار الصحيفة في الطباعة والتوزيع.
شملت الإجراءات الاستثنائية بيع أفراد العائلة نسخ الصحيفة بأنفسهم، واستقطاب وجوه الصحف القومية، ومن بينهم الدكتور هرتزل روزنبلوم، مسؤول العلاقات العامة في صحيفة “هابوكر”، حيث عرض عليه موزيس منصب رئيس تحرير الصحيفة.
كما لجأت العائلة إلى بيع أصول عقارية لمواصلة تمويل الطباعة والنشر، وإيقاف توزيع الأرباح على المساهمين، إضافةً إلى الدفع للأطفال للترويج للصحيفة بالركض في الشوارع والصراخ باسمها بصوتٍ عالٍ، للحفاظ عليها في وعي الجمهور.
ورغم الضربة القوية التي تلقتها “يديعوت أحرونوت” جراء انقلاب كارلباخ، والتي استمرت آثارها لأكثر من عقدين، إلا أن الصحيفة حافظت على سياستها في الحصول على الأخبار الحصرية والسبق الصحفي، كما حاول كلٌّ من دوف يودكوفسكي وروزنبلوم التركيز على جوانب تحريرية مختلفة، بدءًا من كتابة المقال اليومي، مرورًا باستقطاب المواهب الصحفية، وانتهاءً بأخبار الصحف الصفراء، مع مكافأة الكُتاب الذين تفوقوا على “معاريف”.
وبعد عشرين عامًا من “الانقلاب العظيم”، ومع تفوق “معاريف” بفارق توزيع بلغ ثلاثة أضعاف، بدأت جهود “يديعوت أحرونوت” للخروج من أزمتها تؤتي ثمارها بداية الستينيات، وقد تمثل ذلك في تبنيها سياسة الانفتاح على جميع الآراء، والتصدي للهموم الاجتماعية، والتكيف مع رغبات الجمهور اليهودي، خصوصًا في دعمها للحروب.
كما أصدرت الصحيفة ملحقات مؤقتة متنوعة، منها ما تناول السياسة، وأخرى للسخرية والفن والترفيه والرياضة، وكان بعضها موجهًا لليمين، وأخرى لليسار، وكان يُطلق على الأخيرة “أرض الفتح”.
“النكبة كرنفال”.. ثلاثية الحرب والإقصاء والتبرير
على مدى سنوات نشأتها، ما بين عام 1939 وحتى مطلع الستينيات، حافظت صحيفة “يديعوت أحرونوت” على خطٍ وسطي يوازن بين طموحاتها الاقتصادية وأهدافها الإعلامية، فقد نقلت تصريحات وأخبار الانتداب البريطاني دون أن تعلن دعمه صراحة، بل تبنت النظرة السائدة لدى جمهورها الصهيوني، الذي كان يرى أن الانتداب لا يوفر لـ”الأقلية اليهودية” الإمكانات المناسبة لتحقيق وطنهم القومي في فلسطين.
في الوقت ذاته، دخلت الصحيفة على خط الاشتراكية العمالية، من خلال تغطيتها أخبار اليشوف والكيبوتسات، دون أن تنضوي بشكل مباشر تحت مظلة الهستدروت، خاصةً أن مالكها، يهودا موزيس، كان رأسماليًا ليبراليًا يرفض المبادئ الاشتراكية المجتمعية.
داخليًا، قدمت “يديعوت أحرونوت” تغطيةً قوميةً صهيونية، مجّدت الحروب وقللت من أهمية الخسائر، كما صنّفت العالم إلى حلفاء وأعداء، وأسهمت مقالاتها في تشكيل رؤية عامة تُعزز التفوق العسكري الإسرائيلي على محيطه، ما انعكس لاحقًا في دعم سياسات إقصاء الأقليات، مثل الدروز والشركس والمسيحيين وغيرهم.
فيما يتعلق بالفلسطينيين، حافظت “يديعوت أحرونوت” على اصطفاف صهيوني، وإن بدرجة أخف مقارنةً بالصحف الحزبية والقومية الأخرى، ففي الفترة ما بين 1947-1949، امتلأت صفحاتها بسردية الانتصار، مستخدمةً مصطلحات مثل: “القوات الصهيونية”، و”جيشنا”، و”سلاحنا”، و”أعمال شغب” عند الإشارة إلى العصابات الصهيونية، كما روّجت لروايات وشهادات تزعم أن العرب هربوا وتنازلوا عن أراضيهم طوعًا.
ومن بين أكثر مقالاتها إثارةً للجدل، كان مقال “كرنفال النكبة” لأساف جيفن، الذي دعا القراء إلى “التوقف عن إنكار وجود النكبة والبدء في الاستمتاع بها”.
كذلك، نقلت الصحيفة تصريحات رسمية لجنود إسرائيليين على خطوط القتال، زعموا فيها أن التهجير كان نتيجة وعودٍ عربية للفلسطينيين بمغادرة المناطق الساخنة عسكريًا بشكل مؤقت، إذ دعمت الصحيفة بهذه التغطية الرواية الرسمية الإسرائيلية التي تُحمِّل الفلسطينيين والعرب مسؤولية اللجوء، ما عزز خطابًا يدعو إلى اعتبار الفلسطينيين المهجّرين داخليًا أعداءً وخونة، وهو ما ساهم في تبرير استمرار الحكم العسكري الإسرائيلي بحقهم حتى عام 1966.
أما على المستوى الدولي، فبعد قيام “الدولة”، انخرطت “يديعوت أحرونوت” في جهودٍ حثيثة للتشبيك مع الصحافة الدولية، حيث أطلقت صحافييها وكتابها لنشر مقالاتهم في صحف أوروبية وأمريكية، بهدف الترويج لـ”إسرائيل” كدولة ديمقراطية وسط محيطٍ معادٍ ومتخلّف، مثل إيمانويل باركادما وشيكا ليفيت وأهارون فايس وأهارون بيخور وموشيه فيردي وغيرهم.
ونتيجةً لهذا النشاط، طغت السردية التي تروّج لبناء “إسرائيل” وتماسك مجتمعها في الصحافة الأوروبية والغربية، حتى أصبحت الصحيفة مصدرًا معتمدًا للأخبار الإقليمية لدى وكالات الأنباء الغربية مثل “أسوشيتد برس” و”رويترز”.
وفي الفترة ما بين 1956 و1973، لعبت الصحيفة من خلال كُتّابها دورًا بارزًا في تصدير وجهة النظر الإسرائيلية إلى الغرب، حيث أصدرت سلسلة تقارير مشتركة مع الصحافة الفرنسية والبريطانية، برز فيها أسماء مثل يشعياهو بن بورات وآدم باروخ ورام أورن، الذين عملوا على ربط التهديدات العربية بمفهوم الأمن القومي الإسرائيلي، وتصوير العلاقة بين المحور العربي السوفييتي والمعسكر الرأسمالي الغربي بقيادة “إسرائيل”، بما يبرر ظهور رأي عام داخلي يدعم المجهود الحربي وتوسيعه.
ونتيجةً لحالة عدم الاستقرار في الشرق الأوسط، والرؤية الأوروبية-الإسرائيلية المشتركة تجاه العرب، وجدت الصحف الغربية ضالتها في “يديعوت أحرونوت”، فاعتمدت عليها لنقل وجهة النظر الغربية إلى الإعلام الأوروبي، كما أسهمت الصحيفة في إنتاجٍ إعلامي مشترك مع مؤسسات بارزة مثل “لوموند” و”لوفيغارو” و”نيويورك تايمز”.
شكلت حرب عام 1973 لحظة التغيير الكبرى في تاريخ الصحيفة، حيث أقدم دوف يودكوفسكي على توزيعها مجانًا على جميع مجندي الجيش، مع تخصيص مساحات واسعة لنشر التحيات المتبادلة بين الجبهة الداخلية وجبهة القتال وبالعكس، إلى جانب تغطية حصرية وسريعة لأخبار الجبهة.
انعكست هذه الخطوة على جمهور الصحيفة، الذي توسع ليشمل الجيش، بعدما كان يقتصر في الغالب على العمال وأفراد الطبقات المهنية المتوسطة، ما جعلها متاحة لشريحةٍ أوسع من القراء.
وبخطابٍ يبرر الحرب ويجعل من الهجوم والتوسع أساسًا لجذب الجمهور، مع انتقادها في الوقت ذاته للإخفاق الاستخباري والعسكري للحكومة، نجحت الصحيفة في خلق حالة من الدفع السياسي ساهمت في استقالة حكومة غولدا مائير، ما أكسبها مزيدًا من المصداقية على المستوى العالمي.
ما بين حرب أكتوبر 1973، وحركة “الفهود السود” والاضطرابات السياسية في عام 1977، مرورًا ببداية الثمانينيات والاجتياح الإسرائيلي للبنان، ازدهرت صحيفة “يديعوت أحرونوت” مستفيدةً من خطابها الممجّد للحروب والتوسع، وقد ارتفعت مبيعاتها، خصوصًا في ذروة يوم الجمعة، إلى نحو 500 ألف نسخة، لتصبح “صحيفة البلاد وعينها” بغض النظر عن اتجاه الحزب الحاكم، ما رسّخ مكانتها كأكثر الصحف الإسرائيلية مقروئيةً وتوزيعًا.
تميزت الصحيفة أيضًا بالسبق التكنولوجي، حيث أصدرت أول مجلة تلفزيونية بعنوان “يديعوت تيكفاكس”، واستقلت في نظام الطباعة بتأسيس مطبعتين منفصلتين، كذلك دخلت مجال الكابلات المدمجة، واشترى مالكوها حصصًا في الشبكات التلفزيونية، مثل القناة الثانية، كما أطلقت موقعًا إلكترونيًا أصبح اليوم الأكثر شعبية في “إسرائيل” وهو “Ynet”.
ورغم غياب أرقام دقيقة بشأن معدلات توزيع الصحيفة، فإن مجموعة “يديعوت أحرونوت” الإعلامية، المملوكة لعائلة موزيس، تُعد اليوم أكبر مؤسسة إعلامية في “إسرائيل”، إذ تسيطر على ما بين 50% إلى 75% من سوق الصحافة المطبوعة، إلى جانب حضورها القوي في مجالات إعلامية أخرى.
ولا يقف في وجهها إلا صحيفة “إسرائيل هيوم”، التي تأسست عام 2007 بدعم من رجل الأعمال الأمريكي شيلدون أديلسون، ورغم أنها تُوزّع مجانًا، فإنها تُعد اليوم الصحيفة الأكثر توزيعًا والمنافس الوحيد لهيمنة “يديعوت أحرونوت” التقليدية.
الخداع والتزييف: أدوار وسياسات
لم يكن التفوق الكبير لصحيفة “يديعوت أحرونوت” نزيهًا أو إنسانيًا، حتى على المستوى الإسرائيلي الداخلي، فقد التزمت الصحيفة بوصلة واحدة، وهي تحقيق الهيمنة في التوزيع وضمان ارتفاع الأرباح بأي وسيلة كانت، ما جعل أساليبها بعيدة في كثير من الأحيان عن معايير “الشرف الصحفي” أو مصلحة الجمهور.
نتيجة لذلك، لم يتردد مُلاك الصحيفة في اللجوء إلى وسائل غير مشروعة للحفاظ على مكانتهم المتفوقة، ففي سبتمبر/أيلول 1995، كُشف عن تورط قسم التحرير في “يديعوت أحرونوت” في عمليات تجسس على هواتف مديري صحف يومية منافسة.
وبرز اسم صحيفة “معاريف” في سياق الحادثة، وبينما تضاربت الأنباء حول وجود تجسس متبادل بين الطرفين، أُجبر رئيس تحرير “يديعوت أحرونوت” على تقديم استقالته بعد ثبوت تورطه المباشر في القضية. في المقابل، تم اعتقال مسؤول بارز في “معاريف” بعد تخطيطه لعملية اغتيال استهدفت منافسيه.
حتى في فترات حديثة، واصلت صحيفة “يديعوت أحرونوت” إثارة الجدل بأساليبها، ففي عام 2009، نشرت تحقيقًا مستندًا إلى تقارير مضللة حول الحالة الصحية للجندي الإسرائيلي الأسير جلعاد شاليط لدى المقاومة الفلسطينية، زعمت فيه أنه مصاب بجروح خطيرة، ليتبين لاحقًا عدم صحة هذا الادعاء.
وخلال الانتخابات الإسرائيلية، سواء البرلمانية أو الرئاسية، تعرضت الصحيفة، المعروفة بملكيتها الخاصة، لانتقادات بسبب انحيازها ضد بعض الأحزاب، لا سيما الأحزاب اليمينية وحزب الليكود، ما أثار تساؤلات حول موضوعيتها ومصداقيتها.
وفي عام 2014، وُجهت إليها اتهامات بالتلاعب في أرقام توزيعها بهدف تضخيم حجم انتشارها بما يخدم استقطاب إيرادات إعلانية أكبر، وكشفت التحقيقات أن الصحيفة قامت بتضخيم أرقام المبيعات والتوزيع لتبدو أكثر انتشارًا مما هي عليه في الواقع، ما دفع الجهات الرسمية إلى فتح تحقيقات وجر إليها انتقادات واسعة من وسائل إعلامية منافسة.
لم تكن “يديعوت أحرونوت” بمنأى عن الفضائح الأخلاقية، إذ واجهت في عام 2016 اتهامات لأحد كبار صحفييها بالتحرش الجنسي بزميلاته في العمل، ما أثار موجة حقوقية وإعلامية سلطت الضوء على قضايا التحرش في بيئة العمل داخل المؤسسات الإعلامية الإسرائيلية.
وفي مطلع عام 2017، كشفت تحقيقات الشرطة الإسرائيلية عن اتفاق سري بين رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ومالك الصحيفة أرنون موزيس، يقضي بتقديم تغطية إعلامية إيجابية لنتنياهو وحكومته، مقابل تقليص نفوذ صحيفة “إسرائيل هيوم” والتحكم في مساحات توزيعها، وقد عُرفت هذه القضية إعلاميًا بـ”الملف 2000″، وما زال نتنياهو يخضع للمساءلة بشأنها حتى اليوم.
كما واجهت الصحيفة انتقادات حادة بشأن التلاعب في تغطيتها للاحتجاجات الإسرائيلية ضد الحكومة مطلع عام 2023، حيث وُجهت إليها اتهامات بتضخيم أعداد المحتجين تارةً، والمبالغة في تصوير مستوى العنف المتبادل مع الشرطة تارةً أخرى، ما جعلها في عين الاتهامات والتساؤلات حول مصداقيتها وموقفها التحريري المتذبذب.
من الجدير بالذكر أن موقف الصحيفة تجاه التحقيقات والفضائح التي طالتها لم يُترجم إلى اعتذار أو تراجع، باستثناء حادثة التجسس، وحتى عندما أثرت تلك التحقيقات سلبًا على نزاهتها وحياديتها، لم تجد إدارة الصحيفة ضرورةً في مراجعة سياساتها أو تعديل نهجها التحريري.
العربي بحروف عبرية
على المستوى العربي والإقليمي، ومع صعود صحيفة “يديعوت أحرونوت” نهاية الستينيات ومطلع السبعينيات، بدأ خطابها يتحول تدريجيًا ليصبح أقل عدوانية وأكثر توافقًا مع المعايير الإعلامية والسياسية الدولية، حيث تبنت الصحيفة نهجًا أكثر توازنًا في تغطية حرب لبنان، خاصة بعد خروج مقاتلي الثورة الفلسطينية منه، إذ انتقدت المجازر الإسرائيلية بحق العرب والفلسطينيين، ودعت إلى انسحاب إسرائيلي من لبنان.
مع ذلك، دعمت في الوقت ذاته وجود وكلاء محليين لـ”إسرائيل” في كلٍ من لبنان وسوريا للحفاظ على أمنها، كما ربطت بين ضعف الدول العربية وهشاشة اقتصادها وبين قوة الكيان الإسرائيلي.
ومع بروز تيار إقليمي من “الحمائم” الذين لا يمانعون وجود كيان استعماري على أرض فلسطين، تغيّر خطاب الصحيفة تدريجيًا مقارنة بخطابها إبان النكبة، حيث انتقلت من تحميل الأنظمة العربية مسؤولية تهجير اللاجئين الفلسطينيين إلى تصوير بعض الدول العربية كشركاء سلام ومعتدلين.
كما اتجهت إلى تسليط الضوء على كواليس الأنظمة العربية وكشف علاقاتها السرية مع جهات إسرائيلية، ولو بغطاء دولي، لكنها حافظت في الوقت ذاته على خطاب أمني مرتاب من العرب.
ومما يُذكر عن تغطيتها لاتفاقية كامب ديفيد وما تلاها من زيارة الرئيس المصري أنور السادات وخطابه في الكنيست الإسرائيلي، إفراد الصحيفة مساحة واسعة لمقابلة مع رئيس الأركان مردخاي غور، تحت عنوان “ما الذي دفع السادات إلى زيارة القدس؟“ للتحذير من أن الزيارة قد تكون “عملية احتيال” تهدف للتغطية على هجوم مصري محتمل.
لكن يوم الزيارة، غيّرت الصحيفة لهجتها، ووصفت الزيارة بأنها “مُثيرة”، واستعرضت استعداداتها الأمنية والطبية والإعلامية غير المسبوقة، بما في ذلك 21 طلقة تحية عسكرية، واستعارة سيارة ليموزين مصفحة من السفارة الأمريكية، وتجهيز وحدات دم وإخلاء طابق كامل في مستشفى هداسا تحسبًا لأي محاولة اغتيال. كما أبرزت الصحيفة تداعيات الحدث على العالم العربي بوصفه “الصدع الكبير”.
هذا النهج المتغير تكرر في تغطيتها المتشككة لمحادثات السلام في مدريد وأوسلو ووادي عربة، قبل أن تتحول لاحقًا إلى كشف تفاصيل تلك المفاوضات في تقارير حصرية نُقلت عنها في وسائل الإعلام العربية، التي كانت تواجه آنذاك ظمأً معلوماتيًا وتعتيمًا رسميًا، فصدر عنها أول خبر عن اتفاقيات أوسلو بقلم الصحفي شمعون شيفر، بالإضافة إلى مقابلات -غير مباشرة- مع ممثلين عن منظمة التحرير الفلسطينية.
الطعنة الأكبر التي وجهتها الصحيفة للعالم العربي كانت عبر المقابلة الأولى للإعلام الإسرائيلي مع العاهل الأردني الملك حسين، التي أجرتها الصحفية سمدار بيري، وقد انتشرت المقابلة بصورةٍ يظهر فيها الملك حسين يُشعل سيجارًا للصحفية، ما أعاد للأذهان صورة سابقة التقطتها وكالة الصحافة الفرنسية تُظهر الملك يشعل سيجارة لرئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين، ووصفت الصحيفة السلام مع الأردن بأنه “فريد من نوعه”، معتبرةً أن الأردن بمثابة “مرآة لإسرائيل” وفق وصف الصحفية.
أعقبت ذلك سلسلة من المقابلات التي أجرتها الصحيفة مع زعماء عرب وفلسطينيين، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، منهم محمد بن زايد، وعبد الله بن زايد، ويوسف بن علوي وزير خارجية سلطنة عمان، وأحمد أبو الغيط أمين عام جامعة الدول العربية، وعبد اللطيف الزياني وزير الخارجية البحريني، وياسر عرفات، وصائب عريقات، ومحمد دحلان وآخرون.
وما زالت الصحيفة حتى اليوم تواصل طعناتها في الجسد العربي والفلسطيني، عبر تسريبات تكشف مواقف عربية داعمة للاحتلال، من خلال مقالات وتحليلات تحمل عناوين مثل: “موافقة السعودية على اتفاقية كامب ديفيد”، و”هل أنت يهودي؟ مرحبًا بك“، و “مذكرات الحرب”، و”الصعوبات مع سوريا”، و”مقترح إسرائيلي جديد: مصر تستوعب لاجئين ويُشطب دينها للبنك الدولي” وغيرها.
بروباغندا الإبادة
منذ بداياتها حافظت صحيفة “يديعوت أحرونوت” على تغطية شديدة العدوانية تجاه الفلسطينيين في جميع أماكن وجودهم، مهما كان فعلهم، فبدت أقلام كُتّابها أشبه بحراب، بدءًا بتبرير طرد الفلسطينيين إبان نكبة 1948 باعتباره “نتيجة طبيعية للحرب”، واعتبار اللاجئين “فارّين” وليسوا ضحايا للتطهير العرقي.
اعتمدت الصحيفة زوايا عسكرية حادة في تناولها لحقوق الفلسطينيين، من خلال تكليف مراسلين عسكريين بمتابعة الشأن الفلسطيني، ونشر فضائح سياسية وأخلاقية تزعزع النضال الفلسطيني، مع التركيز على الاحتفاء المفرط بالسيطرة على أراضيهم وبلداتهم.
ووفقًا لأرشيف الصحيفة، وفي إطار إحياء ذكرى مراسلها العسكري إيتان هابر، الذي بدأ سجله الإعلامي ناقلًا لهجمات عصابة “أرغون” على الفلسطينيين وبلداتهم، فقد أصدرت الصحيفة عددًا خاصًا في كل حرب خاضها الكيان الإسرائيلي بحق الفلسطينيين والعرب.
يظهر ذلك بوضوح في العنوان الرئيسي للصحيفة بعد الاستيلاء على القدس إثر حرب 1967، حيث كتب إيتان تحت عنوان: “الحرم القدسي في أيدينا”، وعلّق قائلًا: “لم أشعر قط بالإثارة كما شعرت في اللحظة التي تلقيت فيها النبأ بأن قوات جيش الدفاع الإسرائيلي استولت على البلدة القديمة”.
لم تتوقف الإثارة عند أبواب الحرم القدسي، بل امتدت إلى محادثات أوسلو في النرويج، ومصافحات السلام بين إسحاق رابين وياسر عرفات في واشنطن، فضلًا عن زيارات التنسيق مع المسؤولين الفلسطينيين.
ورغم الحبور الذي أبدته الصحيفة في تغطيتها لمسار السلام مع الفلسطينيين، لم يُثنها ذلك عن نهجها العدواني في فضح ما تعتبره “تجاوزات” فلسطينية، فلطالما تصدّرت الصحيفة الكشف عن فضائح وفساد ومؤامرات طالت شخصيات فلسطينية وعربية، كان أبرزها مقابلة نشرتها مع وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني، زعمت فيها تورط عدد من المسؤولين الفلسطينيين، من بينهم ياسر عبد ربه وصائب عريقات، في تجاوزات أخلاقية بهدف ابتزازهم أو الحصول على معلومات تخدم المصالح الإسرائيلية.
كما كشفت الصحيفة عن فضيحة صفقة لقاحات كورونا منتهية الصلاحية مع السلطة الفلسطينية، ما دفع الحكومة الفلسطينية إلى عقد مؤتمر صحفي أعلنت فيه إلغاء الاتفاق مع الجانب الإسرائيلي بعد اكتشاف عدم مطابقة اللقاحات للمواصفات.
وفي سياق متصل، تتبعت الصحيفة جولات التنسيق الأمني والمفاوضات السرية، ونشرت تقارير كشفت اتفاقات ولقاءات وتنازلات مؤلمة جماهيريًا وشعبيًا، إضافة إلى كشفها عن عمليات غسيل دماغ برعاية السلطة الفلسطينية تستهدف موظفين وأفراد شرطة فلسطينيين من خلال لقاءات تطبيعية مع الأجهزة الأمنية والحكومية الإسرائيلية.
عسكريًا، حافظت الصحيفة على خطابها العدائي منذ النكبة وحتى اليوم. بل تفاقمت نبرتها العدوانية مع تفاقم حدة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، فقد تبنّت الصحيفة خطابًا يدعم الجيش الإسرائيلي وعملياته العسكرية الوحشية في القطاع، حيث روّج كُتابها لفكرة “التهجير الطوعي” كبديل عن الاعتراف بحقيقة التهجير القسري للفلسطينيين.
وفي اليوم التالي لهجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، نشرت الصحيفة افتتاحية جاء فيها أن “هجوم حماس هو نقطة البداية لكل ما يتوقع أن تقوم به إسرائيل بعد ذلك”، متجاهلة تمامًا تصوير الفلسطيني كإنسان أو كجزء من المجتمع. بدلاً من ذلك، ركّزت الصحيفة على توحيد المجتمع الإسرائيلي المتشظي خلف آلة الحرب.
وانطلقت في سردية ناعمة تقف بالمنتصف بين “هآرتس” و”معاريف”، أي بين اليسار المنفصل في مثاليته الزائفة واليمين المتطرف، مواصلةً تبرير العمليات العسكرية، بالقول إنه “من المستحيل معرفة كيف فكر صناع القرار الإسرائيليون في ظل الضغط الهائل الذي تطور داخل إسرائيل وخارجها عندما رأى العالم الأحداث المروعة في غزة”.
في الوقت ذاته، ركزت الأضواء على فوائدها إسرائيليًا، وكذلك على صور وحياة الجنود الإسرائيليين بصفتهم “وطنيين” و”مغامرين” و”شجعان” إلى حدٍ يشابه الصحافة الشعبية الصفراء.
ناهيك عن استخدامهما مصطلحات مموّهة لتزييف الواقع مثل “أحياء جديدة” بدلًا من “مستوطنات غير شرعية”، و”توسيع نطاق الخدمات” بدلًا من “الضم”، و”العودة إلى القطاع” بدلاً من “احتلاله”، و”التطهير” بدلاً من “التهجير”، ما جعل خطابها أكثر قبولًا على الساحة الدولية رغم عنصريته الواضحة.
تزامن ذلك مع تحولٍ في الأدوات الإعلامية ما بين النكبة والإبادة، حيث انتقل كُتابها من الظهور الصحفي إلى ظهورٍ إعلامي على القنوات التلفزيونية، للترويج المتواصل للتدمير والوحشية في مواجهة الفلسطينيين، بدعمهم إبادة جميع الفلسطينيين أو تهجيرهم قسريًا مختفين وراء مصطلح “التهجير الطوعي”.
شارك عدد من مراسلي الصحيفة وكتابها في تغطية الحرب على غزة من خلال مرافقة قوات الاحتلال الإسرائيلية في مدرعات وآليات حربية، وتفاخروا بسبقهم الصحفي في تغطية الدمار والموت والحرق
كما روّجت الصحيفة لفكرة أن مشفى الشفاء في غزة هو مقر قيادة للمقاومة الفلسطينية دون تقديم أدلة قاطعة، ما جعلها عرضة لانتقادات منظمات حقوقية عديدة، كذلك قللت من أعداد الشهداء الفلسطينيين، وعزفت على الوتر الأمريكي نفسه بالتشكيك في حقيقة إبادة عائلات فلسطينية بأكملها.
وفي إطار حملتها الدعائية، نشرت الصحيفة رواية مضللة عن “ثروة قادة حماس”، ووضعت صورة خالد مشعل القيادي في الحركة على غلاف مجلة “فوربس”، زاعمة أن ذلك يعكس انفصاله عن هموم شعبه، ليُثبت لاحقًا زيف تلك الصورة وتؤكد المجلة أنها لم تصدر أي عدد يتضمن تلك الصورة.
خلال الإبادة ظهر أيضًا عزمها تحقيق صدوع أخرى في البناء العربي المتهالك، فارتدت ثوب الاعتدال في وصفها للأنظمة العربية الحليفة لـ”إسرائيل” بأنها “صديقة ومعتدلة ومنفتحة”، وبأن اتفاقات أبراهام “خطوات استراتيجية”، والتطبيع “اختراق تاريخي”.
كما شارك عدد من مراسلي الصحيفة وكتابها في تغطية الحرب على غزة من خلال مرافقة القوات الإسرائيلية في مدرعات وآليات حربية، وتفاخروا بسبقهم الصحفي في تغطية الدمار والموت والحرق، مع دعوات صريحة لتكثيف الهجمات بدعوى تصفية القضية الفلسطينية.
برز ذلك فرديًا أو جماعيًا، بالمشاركة في تفجير بيوتٍ ومنشآت في كلٍ من قطاع غزة وجنوبي لبنان، وبزيارات تنسيق جمعت جيش الاحتلال الإسرائيلي مع صحافيين في جولة إلى أنفاق اكتشفها جنوب قطاع غزة، وعثر فيها على جثث ستة أسرى في الأول من سبتمبر/أيول 2024، في مقابل منع منظمات الإعلام الأجنبية من تغطية الحرب وتداعياتها.
في المحصلة، فإن تاريخ “يديعوت أحرونوت” الذي يزخر بمحاولاتها المستمرة لتحقيق التفوق الصحفي، سواء عبر كشف فضائح داخلية وخارجية، أو من خلال استهداف رموز سياسية فلسطينية وعربية، جعل منها نموذجًا للصحافة التي تضرب دون هوادة، رغم أنها فعليًا تنطلق من منظومة استعمارية وتخضع لرقابة مشددة، تمر من بين أسنان مقص رقيب، ولا تُخرج الحقيقة من طرفيه إلا بما يخدم الأمن الإسرائيلي وصورته.