لليوم السادس على التوالي، يواجه الأسير سامر العربيد في مستشفى هداسا بالقدس المحتلة، وضعًا صحيًا خطيرًا يهدد حياته، وكان الأسير العربيد قد وصل إلى المستشفى قبل ستة أيام، فاقدًا وعيه ومصابًا بكسور في القفص الصدري ويتنفس بصورة اصطناعية من خلال أجهزة التنفس، معانيًا من فشل كلوي شديد ورضوض وأثار ضرب في أنحاء جسده كافة، وهو ما يعكس فجاعة ووحشية التعذيب الذي تعرض له خلال تحقيق مخابرات الاحتلال معه في مركز تحقيق المسكوبية بالقدس المحتلة.
جهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك)، وبعد نقل العربيد بيوم إلى المستشفى أعلن اعتقال الخلية التي نفذت عملية (عين بوبيب)، مدعيًا قيادة العربيد لها، العملية نُفذت يوم 23 من أغسطس/آب 2019، وأسفرت عن مقتل مستوطنة وإصابة آخرين إثر تفجير عبوة ناسفة.
وتفرض سلطات الاحتلال تعتيمًا كبيرًا على حالة العربيد الصحية، ما دفع المؤسسات الحقوقية الفلسطينية للتحذير من الوضع الصحي الذي يمر به العربيد نتيجة تعذيبه، مطالبةً اللجنة الدولية للصليب الأحمر بالتدخل العاجل وزيارة العربيد والاطلاع على وضعه الصحي، وهو الأمر الذي لم يلقَ استجابةً من اللجنة.
شهدت الأيام الماضية حراكًا جماهيريًا مساندًا للعربيد ورفاقه الأسرى، بدأ بمسيرة في رام الله، ومن ثم وقفة تضامنية أمام مستشفى هداسا في القدس، حيث يرقد العربيد، وهي الوقفة التي انتهت بقمع الاحتلال لها واعتدائه على المشاركين فيها واعتقال اثنين منهم
استحث تقاعس الصليب الأحمر شبان فلسطينيين لإعلان اعتصامهم المفتوح في مقر اللجنة وإغلاقه بشكل مستمر، في محاولة لتشكيل ضغط عليها للتحرك بزيارة العربيد وإبلاغ عائلته بتفاصيل حالته الصحية والتأكد من تلقيه العلاج اللازم.
شهدت الأيام الماضية حراكًا جماهيريًا مساندًا للعربيد ورفاقه الأسرى، بدأ بمسيرة في رام الله، ومن ثم وقفة تضامنية أمام مستشفى هداسا في القدس، حيث يرقد العربيد، وهي الوقفة التي انتهت بقمع الاحتلال لها واعتدائه على المشاركين فيها واعتقال اثنين منهم، كما نظم طلاب جامعة بيرزيت وقفة تضامنية تلاها مسيرة باتجاه حاجز بيت إيل، وكذا كان الأمر في نابلس.
سياسات التعذيب: كسر الأسرى ومعاقبتهم
يواجه الأسرى الفلسطينيون منذ أول أيام الاعتقال، سياسات ممنهجة تهدف إلى زعزعة معنوياتهم وتحطيم إرادتهم وعقابهم، وفي القلب من هذه السياسات تقع سياسة التعذيب بأنواعه وصوره المختلفة.
رحلة التعذيب القاسية والمُهينة للكرامة، تبدأ منذ لحظات الاعتقال الأولى بإيقاع الأذى النفسي والجسدي والمادي بحق الأسير وعائلته، إذ تشهد عمليات الاعتقال اقتحام عشرات الجنود للبيوت وتفتيشها وتخريبها وتكسير أبوابها، وسرقة أموال منها أحيانًا، عدا عن التهجم على المعتقل أو أحد أفراد عائلته، وتهدف سلطات الاحتلال من وراء ذلك إلى تحويل عملية اعتقال الفلسطيني إلى شكل من أشكال العقاب والردع الجماعي.
كما لا يتردد جنود الاحتلال بإطلاق النار في أثناء اقتياد الأسرى واعتقالهم، فقد تعرض العديد منهم لجروح وإصابات خطيرة خلال عمليات اعتقالهم، فشهد العام الماضي مثلاً، استشهاد الشاب ياسين السراديح من مدينة أريحا بعد اعتقاله والاعتداء عليه بشكل وحشي، حيث كشفت عملية تشريح جثمانه أن استشهاده جاء برصاصة في أسفل البطن أطلقت عليه من مسافة صفر.
أبرز أساليب التعذيب المتبعة من محققي الشاباك، تكون بتكبيل الأسرى في وضعيات مؤلمة تمتد لساعات وحتى أيام بينما تتم تغطية رؤوسهم بأكياس ذات رائحة كريهة تحجب الرؤية
يُقتاد الأسرى بعد اعتقالهم إلى مراكز التحقيق، وهناك يخوضون معركة قاسية وصعبة ضد الاحتلال وجهاز مخابراته الذي لا يتورع عن استخدام أي وسيلةٍ كانت لانتزاع الاعترافات، والأمر لا يقتصر على جلسات التحقيق وما يتخللها من حفلات تعذيب نفسي وجسدي يُقيمها محققو الشاباك وضباطه، بل يمتد ليشمل ظروف زنازين الحجز وأساليب الترهيب في المركز وغرف العصافير، وغيرها من الممارسات التي يسلكها الاحتلال لكسر الأسرى وعقابهم وإجبارهم على الاعتراف.
أبرز أساليب التعذيب المتبعة من محققي الشاباك، تكون بتكبيل الأسرى في وضعيات مؤلمة تمتد لساعات وحتى أيام بينما تتم تغطية رؤوسهم بأكياس ذات رائحة كريهة تحجب الرؤية، إضافةً إلى عزلهم في زنازين منفردة وضربهم وشتمهم وحرمانهم من الأكل والنوم وتعريضهم للبرد القارص أو الحر الشديد، هذا عدا عن التكبيل على كرسي صغير مائل وتعريضهم لموسيقى صاخبة جدًا، وتهديدهم وعائلتهم، كما يُحرم الأسرى من أساسيات النظافة ويُعزلون عن العالم الخارجي بما في ذلك المحامي والعائلة لمدة طويلة غالبًا تمتد لأشهرٍ متواصلة.
إضافةً إلى ما تخلفه أساليب وممارسات التعذيب السابقة من إعاقاتٍ جسدية وما تتركه من آثارٍ نفسية صعبة على الأسرى، فقد أشار نادي الأسير الفلسطيني أن 73 فلسطينيًا استشهدوا نتيجة تعرضهم للتعذيب خلال اعتقالهم والتحقيق معهم في سجون الاحتلال الإسرائيلي، منذ احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967.
ويبلغ عدد الأسرى رهن الاعتقال في سجون الاحتلال نحو 5700 أسير وأسيرة، منهم نحو 230 طفلاً، و48 أسيرةً، ونحو 500 معتقل إداري، تعرض 95% منهم للتعذيب، سواء خلال اعتقالهم أم التحقيق معهم أم حتى بعد نقلهم للسجون والمعتقلات. وكانت المحكمة العليا للاحتلال قد أصدرت قرارًا في العام 1999، حدت فيه من صلاحيات جهاز الشاباك القانونية في استعمال التعذيب الجسدي ضد المعتقلين الفلسطينيين، لكن القرار شرّع في ذات الوقت التجاء المحققين للتعذيب في حالتي القنبلة الموقوتة (التحقيقات العسكرية التي يكون هدفها منع العمليات الفدائية)، ودفاع الضرورة، وتحت ظلال هاتين الحجتين يمارس محققو الشاباك عمليات تعذيب الأسرى وقتلهم، وبالتالي فإن قرار محكمة الاحتلال لم يأتِ لنقض مشروعية التعذيب كما قد يُرى، بل جاء ليقنن التعذيب وينظمه، جاعلاً منه سلوكًا قانونيًا ذا جدوى أمنية.
ما بعد توصيات لجنة أردان
ازدادت حدة الانتهاكات ضد الأسرى الفلسطينيين في الشهور الأخيرة بعد صدور توصيات لجنة (أردان) التي شكلها وزير الأمن الداخلي للاحتلال في شهر يونيو/حزيران 2018، هدفت اللجنة إلى تقييم ظروف احتجاز الأسرى في السجون وإيجاد سبل لتقليص هذه الظروف إلى الحد الأدنى الممكن.
كانت الأسيرات الفلسطينيات في سجن هشارون أول من طالهم حُزمة الإجراءات العقابية الجديدة، حيث قررت إدارة السجن إعادة تشغيل الكاميرات بعد تعطيلها لسنوات
دعت توصيات اللجنة الصادرة إلى فرض مزيد من التضييق على الأسرى عبر تقليص عدد الزيارات العائلية لهم للحد الأدنى، وإلغاء الفصل بين سجناء أسرى الفصائل المختلفة، إضافةً إلى منعهم من شراء منتجات اللحوم والأسماك والفاكهة ومنتجات الخضار من خارج السجون، وإخلاء العنابر والمعتقلات والأقسام من أدوات المطبخ ومنع الأسرى من طهي وجباتهم بأنفسهم، بالإضافة إلى تحديد نوعية القنوات التليفزيونية التي يسمح لهم متابعتها وتقليص عددها، كما أوصت اللجنة بإغلاق مقاصف السجن.
وكانت الأسيرات الفلسطينيات في سجن هشارون أول من طالهم حزمة الإجراءات العقابية الجديدة، حيث قررت إدارة السجن إعادة تشغيل الكاميرات بعد تعطيلها لسنوات، وهو الأمر الذي رفضته الأسيرات لما يشكله من انتهاك لخصوصيتهن، ومع استمرار احتجاج الأسيرات جرى نقلهن إلى سجن الدامون الذي يفتقر لأدنى مقومات الحياة الإنسانية.
وإلى جانب الاعتقال الإداري والتعذيب والمضايقات المستمرة وحملات التفتيش الاستفزازية واقتحام الأقسام والغرف، فإن الأسرى في سجون الاحتلال يعانون كذلك من سياسة الإهمال الطبي الذي هو بمثابة إعدام بطيء، فوفقًا لمركز الدفاع عن الحريات والحقوق المدنية “حريات” بلغ عدد الأسرى والأسيرات المرضى في سجون الاحتلال أكثر من 750 أسيرًا، ووصل عدد ممن استشهدوا نتيجة سياسة الإهمال الطبي 65 أسيرًا، كان آخرهم الأسير بسام السايح الذي استشهد الشهر الماضي، وفوق ذلك كله، تُمعن سلطات الاحتلال بمعاقبتها للأسرى الشهداء وذويهم عبر احتجازها لجثامين الشهداء.
الكف الدامي في مواجهة المخرز
في مقابل سياسات تعذيبهم وقمعهم وقتلهم، يشرع الأسرى بشكلٍ دائم في خوض حراكات وإضرابات عن الطعام داخل السجون، سواء كانت فردية أم جماعية تنظيمية، كان آخرها إضراب الكرامة الثاني قبل شهورٍ عديدة، احتجاجًا على توصيات لجنة أردان، ورفضًا للعقوبات التي فرضتها مصلحة السجون على الأسرى خلال الشهور الماضية، إلا أن خطوات الحركة الأسيرة في سجون الاحتلال أصبحت تفتقد بشكلٍ صارخ ومؤسف للإسناد الفصائلي والشعبي على حد سواء، الذي لا يحضر إلا خجولًا، إسناد لا يليق لا بعذابات الأسرى وتضحياتهم ولا باستحقاقهم لحريتهم.