في نهاية عام 2024، سجل العراق رقمًا قياسيًا في عدد سكانه، حيث تجاوز عددهم 46 مليون نسمة وفقًا للإحصاء السكاني الذي أعلنت الوزارة نتائجه مؤخرًا، ويعكس هذا الارتفاع زيادة بنحو 20 مليون نسمة منذ الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003، حيث كان عدد السكان في ذلك الوقت حوالي 26 مليون نسمة.
وأثرت هذه الزيادة الكبيرة سلبًا على قطاع الإسكان، الذي يعاني من ضغط شديد نتيجة الفارق الكبير بين معدل زيادة السكان والعدد المحدود للوحدات السكنية التي يتم بناءها سنويًا في مختلف المحافظات العراقية.
أزمة مستفحلة
وفقًا لما أعلنته وزارة التخطيط العراقية من نتائج الإحصاء السكاني الذي أُجري في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بلغ عدد سكان العراق 46.11 مليون نسمة، حيث يعيش 70% منهم في المناطق الحضرية (المدن) بينما يعيش قرابة 30% في المناطق الريفية. وهذا يشير إلى اكتظاظ سكاني كبير في المدن مقابل وجود كثافة سكانية منخفضة نسبيًا في القرى والأرياف.
على الرغم من أن الإحصاء كشف أن نسبة الأسر المالكة للوحدات السكنية تبلغ 72.15%، إلا أن الواقع يشير إلى حاجة العراقيين إلى ملايين الوحدات السكنية، ويرجع ذلك إلى أن الإحصاء اعتمد على تسجيل الذكور المتزوجين المقيمين في منازل آبائهم كمالكين للوحدات السكنية، وهي مسألة يعتبرها بعض المراقبين ثغرة في الإحصاء السكاني.
وحسب أحدث إحصائية كشفت عنها وزارة الإسكان والإعمار العراقية، فإن البلاد بحاجة لنحو 2.5 مليون وحدة سكنية جديدة في مختلف المحافظات العراقية باستثناء إقليم كردستان، من أجل حل مشكلة السكن في الوقت الراهن دون الأخذ بنظر الاعتبار الحاجة المستقبلية للوحدات السكنية.
أما وزارة التخطيط كشفت من جانبها عن وجود نحو 3.6 مليون عراقي يعيشون في الأحياء والمناطق العشوائية المبنية بطريقة مخالفة أو غير قانونية في المناطق الزراعية وفيما يعرف محليا في العراق بـ”أحياء التجاوز”، إذ لا تزال هذه الوحدات السكنية تفتقر للخدمات الرئيسية وشبكات الصرف الصحي والطرق النظامية.
وكانت الحكومة العراقية الحالية قد تعهدت في برنامجها الحكومي بإيجاد حلول جذرية لمشكلة السكن، حيث ترجمت هذه الوعود بإطلاق العديد من مشاريع المدن السكنية في 5 محافظات عراقية في بغداد ونينوى وكربلاء والفلوجة وبابل، بما يوفر أكثر من 100 ألف وحدة سكنية جديدة في هذه المحافظات خلال السنوات القليلة القادمة.
ويبدو أن الحكومة العراقية متفائلة جدا فيما يتعلق بحل أزمة السكن أو جزء منها على أقل تقدير، فقد أكد حامد عبد حمد رئيس هيئة تنفيذ المدن الجديدة في وزارة الإسكان والإعمار أن 500 ألف وحدة سكنية ستنجز خلال السنوات الخمس المقبلة، في الوقت الذي حدد فيه موعد الإعلان عن 6 مدن جديدة.
وأشار إلى أن برنامج المدن الإسكانية الجديدة يُعد من أبرز المشاريع الحكومية الطموحة لحل أزمة السكن في البلاد، موضحًا أن الهيئة تعمل حاليًا على إحالة 52 مدينة إسكانية جديدة في مختلف المحافظات، وقد تم إحالة 5 منها للاستثمار بينما بدأ العمل في القسم الآخر، حسبما ذكر.
وفي ختام حديثه، أكد رئيس هيئة تنفيذ المدن الجديدة أن البرنامج الحكومي يتضمن تسهيل حصول المواطنين على الوحدات السكنية من خلال تقديم تسهيلات مصرفية، تشمل منح قروض ميسرة يمكن سدادها على فترات زمنية طويلة.
مشاكل مركبة
يبدو أن التفاؤل الحكومي يواجهه رأي آخر من مجلس النواب الذي يرى أن المشاريع الاستثمارية الإسكانية لم تفلح في إيجاد حلول ناجعة لأزمة السكن في البلاد، إذ أن لجنة الإسكان والإعمار النيابية أكدت أن مشكلة السكن في العراق مستمرة.
ووصفت عضو اللجنة سوزان منصور بناء المجمعات السكنية بحجة معالجة مشكلة السكن بـ”أكذوبة” يشهدها واقع العراق الاستثماري، معللة ذلك بأن المجمعات السكنية التي اكتملت أو التي في طور البناء تعد مشاريع استثمارية ربحية.
وأكدت منصور أن أسعار الوحدات السكنية في هذه المجمعات السكنية لا تتناسب مع الدخل المالي لغالبية أفراد المجتمع العراقي، حيث تعد باهظة الثمن إلى الدرجة التي لا يمكن شراؤها إلا من قبل قلة قليلة.
وأضافت بالقول: “من الصعب على أي فرد سواء كان من الطبقة الفقيرة أو المتوسطة أو عالية الدخل شراء وحدة سكنية في هذه المجتمعات التي يصل سعر بعضها إلى 500 ألف دولار، لا سيما أن غالبية المشاريع الاستثمارية السكنية تضم شققا فارهة ومنازل VIP بأسعار خيالية”.
وأكدت منصور وجود تقصير كبير من قبل هيئة الاستثمار، التي اتجهت إلى الاهتمام ببناء منازل و(فلل vip) تبدأ أسعارها من 800 مليون دينار، ويسكن فيها فقط الوزراء والنواب والقضاة، وهذا الأمر يعتبر إهانة للفقير، وصناعة للفوارق الطبقية في المجتمع، وفق قولها.
وتعد مشكلة السكن في العراق متراكبة ومعقدة إلى الدرجة التي يصعب حلها، إذ تقول المهندسة الاستشارية زينب الحمداني إن مشكلة السكن في العراق تعد متشابكة، تبدأ من أن جميع المحافظات العراقية باستثناء إقليم كردستان لم تشهد تحديث التصميم الأساس للمدن منذ عام 2000 وبالتالي فإن عدد سكان المدن والمحافظات تضاعف مرة واحدة على الأقل خلال هذه المدة.
وفي حديثها لـ “نون بوست”، بينت الحمداني أن بغداد فيها ما لا يقل عن 43 مجمعًا سكنيًا أقيم مؤخرًا عن طريق الاستثمار، مشيرة إلى أن هذه المجمعات جاءت دون تخطيط فعلي حيث زادت من حدة الاختناقات المرورية والضغط على البنية التحتية التي تعاني قصورًا كبيرًا بالأساس.
إضافة إلى أن جميع المشاريع الاستثمارية السكنية التي أقيمت داخل العاصمة تعد بعيدة المنال عن متناول البغداديين من ذوي الدخول المتوسطة والعالية وباتت مقتصرة على الأغنياء والأغنياء جدا، وفق قولها.
وتقارن الحمداني الوضع في بغداد والمحافظات العراقية مع إقليم كردستان، حيث عمدت الحكومات المحلية في محافظات أربيل ودهوك والسليمانية لتحديث التصميم الأساس لهذه المحافظات واستحداث المجمعات السكنية على أطراف المدن مع استحداث طرق سريعة لهذه المجمعات وفق نظام مروري مدروس.
واعتبرت الحمداني: “تجربة أربيل في بناء المجمعات السكنية تعد رائدة، حيث أن المدينة تشهد طفرة عمرانية في مجال الإسكان مع الأخذ بنظر الاعتبار أن أسعار الوحدات السكنية في متناول الجميع، فضلا عن وجود قوانين تنظم السكن في المجمعات التي تعرف بالشقق والتي تعد جديدة على الشعب العراقي الذي يفضل السكن الأفقي المتمثل بالمنازل الأرضية”.
وترى أن هناك العديد من المشكلات التي يتوجب على الحكومة العراقية الحالية أو المستقبلية معالجتها، وتتمثل باستحداث مدن جديدة خارج مراكز المدن الحالية للتخفيف من وطأة الاختناقات المرورية والضغط الهائل على البنى التحتية، مع ضرورة تعديل قانون الاستثمار رقم (13) لعام 2006 المعدل الذي يمنح المستثمر تملك الأرض في المجمعات الاستثمارية السكنية بالمجان، حيث يتوجب تعديل القانون بما يسهم في جعل الوحدات السكنية في متناول يد العراقيين، لا أن تزيد هذه المجمعات من وطأة الأسعار التي باتت بعيدة عن متناول العراقيين.
غسيل الأموال
وتشهد أسعار العقارات في العراق ارتفاعًا كبيرًا لا يتناسب مع وضع البلاد بصورة عامة، حيث وصل سعر المتر المربع الواحد في منطقة اليرموك لنحو 10 آلاف دولار أميركي، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن غالبية مناطق العاصمة بغداد سواء النظامية أو الزراعية لا يقل سعر المتر الواحد فيها عن 3 آلاف دولار في الحد الأدنى، ما قد يشير لوجود تضخم غير مبرر في الأسعار أو وجود غسيل للأموال عن طريق شراء العقارات.
وكان قاضي محكمة تحقيق النزاهة وغسل الأموال “إياد محسن ضمد” قد أكد في تصريحات صحفية سابقة أن قطاع العقارات يعد من أكثر القطاعات استهدافا بجرائم غسيل الأموال.
وأوضح أنه “بسبب الرقابة الشديدة التي تفرضها الأنظمة المالية على المستويين المحلي والدولي على حركة الأموال وضرورة معرفة مصادرها قبل قبول إيداعها في المصارف أو إجراء الحوالات البنكية بخصوصها يلجأ مرتكبو الجرائم الأصلية إلى إتباع أساليب كثيرة تهدف إلى قطع صلة الأموال بالجريمة التي أنتجتها وإظهار الأموال القذرة وكأنها أموال مشروعة وناتجة عن مشاريع وأعمال قانونية”.
ولجأت الحكومة مؤخرا إلى تفعيل البنك المركزي لقرار يلزم كل من يبيع وحدة سكنية يتجاوز ثمنها 67 ألف دولار أميركي بإيداع مبلغ الوحدة السكنية في المصارف العراقية لحساب البائع ثم إتاحة سحب هذا المبلغ من قبل البائع دون أي عائد مالي، حيث تطمح الحكومة من خلال هذه الآلية للسيطرة على آلية ومافيات غسيل الأموال ومعرفة مصادر الأموال المستخدمة في شراء الوحدات السكنية.
تحاول الحكومة العراقية عبر العديد من الإجراءات الإسهام في حل أزمة السكن المستفحلة في البلاد، وذلك عبر المشاريع الاستثمارية الخاصة والحكومية، إضافة إلى توفير قروض مالية عن طريق المصرف العقاري وقرض الإسكان مع إعفاء شامل من أي فوائد ربوية.
ورغم هذه الإجراءات، إلا أن حلّ أزمة السكن المستفحلة تتطلب جهدًا مضاعفًا وسنوات من العمل المستمر لسد حاجة البلاد التي تقدر بنحو 2.5 مليون وحدة سكنية في الواقت الراهن.