لا يزال صدى تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأن غزة ستكون ملكًا أمريكيًا يتردد في الأوساط السياسية. تصريح رأى فيه كثيرون أن مضمونه تكرر عبر التاريخ، فيما بدا كلغة استعمارية جديدة قديمة، لكن مئة عام من تاريخ المنطقة العربية دونت إخفاقات معظم هذه الوعود الزائفة.
نستعرض في السطور التالية نتائج وعود المحتلين في عالمنا العربي، من وعد بلفور، ومرورًا بوعود المحتل في الجزائر والعراق، وصولاً إلى وعود نتنياهو وترامب الذي ينسب غزة لنفسه بعقلية استعمارية بحتة، ونجيب على التساؤل: هل سيكون مصيرها النهائي كمصير سابقاتها من الوعود التي استباحت من خلالها الأراضي العربية؟
الوعد المشؤوم.. وعد من لا يملك لمن لا يستحق
تمثل أول وعود المحتلين في المنطقة العربية في رسالة من 67 كلمة فقط ممهورة بختم بريطاني، من بين سطورها وُلدت “إسرائيل”، كاتبها وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور، والمستلم اللورد ليونيل والتر روتشيلد أحد زعماء الحركة الصهيونية، أما الفلسطينيون، فغابوا عن المتن والهامش.
الرسالة المدفوعة بمصالح بريطانية وأحلام صهيونية التي عُرفت فيما بعد باسم “وعد بلفور” قطعت فيها الحكومة البريطانية تعهدًا بإقامة دولة لليهود في فلسطين، مع احترام حقوق السكان الأصليين، ونصت على أن “بريطانيا تنظر بعين العطف لتأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين، على ألا يجري أي شيء قد يؤدي إلى الانتقاص من الحقوق المدنية والدينية للجماعات الأخرى المقيمة في فلسطين”.
وُصفت هذه الرسالة التي صادرت وطنًا ومنحت أرضًا، بأنها “وعد مَنْ لا يملك لمَنْ لا يستحق”، لأن بريطانيا لم يكن لها أي حق قانوني أو سياسي في فلسطين، وتعتبر هي الممهد الرئيسي لفتح باب هجرة اليهود على مصراعيه وقيام “إسرائيل” لاحقًا.

وعلى مدى 30 عامًا، استخدمت بريطانيا كل ما يمكن لوضع فلسطين في حالة سياسية وإدارية واقتصادية تسمح بإنشاء وطن قومي لليهود، فدعمت شراء الوفود الصهيونية للأراضي الفلسطينية من أجل بناء المستوطنات، وفرضت ممارسات تمييزية واضحة ضد الفلسطينيين أدَّت إلى صعوبة أوضاعهم الاقتصادية ومنعتهم من حمل السلاح، في حين سمحت لليهود بذلك بدعوى أنهم أقلية تحتاج للدفاع عن النفس.
ورغم تأكيد نص الوعد على الحفاظ على الحقوق المدنية والدينية للتجمعات غير اليهودية المقيمة في فلسطين، مهّد حبر رسالة بلفور لتوافد المهاجرين اليهود تزامنًا مع التهجير القسري والقتل الجماعي للفلسطينيين، وأسست كلماتها لقيام “إسرائيل” بعد نحو 3 عقود من الانتداب البريطاني ووقوع النكبة واستمرار ممارسة التطهير العرقي ضد الشعب الفلسطيني باقتلاعه من أرضه ومسح هويته التاريخية والثقافية.
تدريجيًا، حلَّت لعنة الوعد المشؤوم على فلسطين، حيث سيطر الصهاينة على عشرات المدن والقرى الفلسطينية، وطردوا سكانها الفلسطينيين من بيوتهم بالقوة تحت أعين سلطات الانتداب البريطاني، وتحوَّل اليهود من أقلية دينية إلى جماعة لها ثقلها العددي في فلسطين، في المقابل لم تتوقف مقاومة الفلسطينيين للمشروع الصهيوني وتشكلت منظمات فلسطينية سرية شبه عسكرية، كانت إحداها بقيادة عز الدين القسام الذي استشهد على يد قوات بريطانية.
وبعد مرور أكثر من قرن على وعد بلفور، لم يتحقق للفلسطينيين الحد الأدنى في حقوقهم الوطنية حتى اليوم، حيث تحتل “إسرائيل” أكثر من ثلثي أراضي فلسطين، ويستمر توسعها الاستيطاني فيها، أما بريطانيا فترفض الاعتذار عن وعدها وتتجاهل المطالبات الفلسطينية كل عام، لكن عار هذا الوعد سيظل يلاحق الحكومة البريطانية ما لم تساعد الشعب الفلسطيني على العيش حرًا في وطنه القومي.
خدعة الثورة العربية.. وعد بريطانيا للعرب بالاستقلال
لا يمكن الفصل بين وعد بريطانيا المشؤوم في فلسطين ووعدها للعرب بمنحهم الاستقلال مقابل مساعدتها ضد العثمانيين، فقد تزامن الوعد الأول بإنجاح مشروع الصهاينة في فلسطين مع محادثات بريطانية أخرى لتقسيم المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى، التي وقف فيها العثمانيون الذين كانوا يسيطرون على شبه الجزيرة العربية إلى جانب الألمان ضد الإنجليز.
كانت الأسرة الهاشمية التابعة للسلطة العثمانية بقيادة أمير مكة الشريف حسين بن علي ونجله فيصل تدير وقتها منطقة الحجاز، وكان الهاشميون يطمحون للانفصال عن الإمبراطورية العثمانية، وبناء دولة عربية يُتوج الشريف حسين ملكًا عليها.
استغلت بريطانيا ذلك، فأوقعت به عبر مراسلات مع المندوب السامي البريطاني في مصر هنري مكماهون، وعملت على تحريض الهاشميين للثورة على العثمانيين، وأرسلت اثنين من جنودها بدعوى إنجاز مهمة عن الآثار، كان ضابط المخابرات توماس لورانس أحدهما، إلا أن مهمة لورانس الحقيقية تحريض القبائل العربية على التمرد على الإمبراطورية العثمانية التي أسالت مساحتها الشاسعة لُعاب القوى الاستعمارية.
في يونيو/ حزيران 1916، أعلن الشريف حسين من مكة المكرمة اندلاع الثورة العربية على العثمانيين، وقاتل العرب إلى جوار البريطانيين ومعهم لورانس ضد القوات العثمانية على وعد بالاستقلال، لتتمكن بريطانيا بذلك من إضعاف العثمانيين.
في مذكرة مخابرات محررة في يناير/ كانون الثاني عام 1915، وصف لورانس الثورة العربية بأنها “مفيدة لنا لأنها تسير مع أهدافنا الحالية لهزيمة وإسقاط الإمبراطورية العثمانية، ولأن الشريف حسين سيتجه نحو النصر، فإن الأتراك لن يستطيعوا إلحاق الضرر بنا. العرب أقل استقرارًا حتى من الأتراك، إذا تعاملنا مع الأمر بحرص فسيبقون في حالة من الفسيفساء السياسية، نسيج من الإمارات المتحاسدة وغير القادرة على التلاحم”.
بالنسبة للهاشميين، فإن رهانات الثورة العربية لا تتوقف عند سقوط الدول العثمانية، وسيواصل الشريف حسين القتال من أجل السيطرة على شبه الجزيرة العربية، وإنشاء خلافة عربية كبرى، لكنه لم يكن دون منافس، لا سيما وأنه اكتشف في هذه الأثناء وجود اتفاقية سايكس بيكو التي يشبهها كثيرون وما تضمنته من بنود بـ”الرسم على الرمال”، فأساسها الخط الذي يقسم الدول العربية من عكا إلى كركوك، وهدفت سرًا إلى تقطيع أوصال الدولة العثمانية.
رغم أن مراسلات الحسين – مكماهون لم ترد إشارات لجهود تقسيم المنطقة، وصلت أنباء الاتفاقية إلى الشريف الذي سارع للاستفسار، وتعللت بريطانيا بأن كل ما في الأمر أن البلاشفة وجدوا في وزارة خارجية بتروغراد (سان بطرسبرغ قبل الحرب العالمية الأولى) سجلاً لمحادثات قديمة، وتفاهمًا مؤقتًا لا معاهدة رسمية.
اطمأن الشريف، وهنأ الإنجليز على سيطرتهم على القدس، واستمر في دعم السلطات البريطانية التي طمأنته على التزامها بالوعود التي قطعتها معه، وأكمل معاركه ضد الأتراك بالرغم من سايكس بيكو، أملاً في أن يحصل العرب في النهاية على الاستقلال، لكن ما لبث أن اكتشف الخديعة، فقد أصدر بلفور وعده بمنح فلسطين لليهود.
استيقظ العرب على ما كان يُحاك ضدهم سرًا، وشعروا بالغدر من القوى التي حارب بعضهم في صفها ضد الدولة العثمانية، وأصبح الشريف الحسين يعلم أنه ليس بإمكانه الاعتماد على دعم البريطانيين الذين يخفون نواياهم الحقيقية، ويضاعفون الوعود والالتزامات الوهمية التي لا مصداقية لها.
وفي يناير/ كانون الثاني عام 1919، اجتمع المنتصرون في الحرب العظمى لإعادة خريطة أوروبا والشرق الأوسط، لكن القرار بشأن مصير البلاد العربية وتوزيع غنائم الحرب العظمى كان قد اُتخذ منذ وقت طويل، فقد تم تجاهل كل الوعود والتصديق على اتفاقيات سايكس بيكو، ليكون الشرق الأوسط بريطانيًا وفرنسيًا.
ونقضت بريطانيا وعدها، وطبقت الاتفاقية التي تنوعت تبعاتها بين احتلال أو انتداب أو نفوذ داخل الدول العربية، وانكبت بريطانيا على تقسيم تركة العثمانيين بينها وبين فرنسا التي احتلت سوريا، وعزلت فيصل نجل الحسين، فثارت ثائرته ورفض الانصياع لرغبات بريطانيا، وتأزمت العلاقات بينهما، خاصة بعد امتناعه عن التوقيع على معاهدة فرساي عام 1919.
وفي أكتوبر/ تشرين الأول عام 1924، أجبرت بريطانيا الشريف على التنازل عن عرش المملكة الحجازية الهاشمية لابنه الشريف علي، ثم نفته إلى جزيرة قبرص، حيث أبقته تحت رقابتها حتى مرض بعد أن خسر كل شيء، ولم يسمح له الإنجليز بالعودة إلا إلى عمان حيث لفظ أنفاسه طريدًا وحيدًا شريدًا، لتُكتب نهاية حلم أمير مكة بالتربع على عرش مملكة مترامية الأطراف، ممتدة من حلب السورية إلى عدن اليمنية.
وحتى عصرنا الراهن، ما يزال كثيرون في منطقتنا يعتبرون سايكس بيكو نذير شؤم أضعف الدول العربية بعد تقطيعها للُقيمات سهلة الابتلاع، ويزداد الحنق ضدها مع توالي الأزمات السياسية وتوسع دائرة الاضطرابات في المشرق العربي، وتتجدد النقاشات حول وضع العالم العربي بدون حدود رسمها المستعمرون.
وعود بالإصلاحات خلَّفت مليون شهيد
في الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني 1954، وبعد انطلاق الثورة الجزائرية بقيادة جبهة التحرير الوطني التي أسسها شباب مصمم على إنهاء عقود من الاستعمار الفرنسي للبلاد ومحاولة تغيير هويتها، وعدت فرنسا الجزائريين بإجراء إصلاحات سياسية واقتصادية، شملت إغراءات مثل حق الترشح والتصويت وتوزيع الأراضي على المزارعين، وتحدثت في سبتمبر/ أيلول 1959 عن حق تقرير المصير للشعب الجزائري.
في النهاية، تبين أن وعود فرنسا مجرد محاولة لاحتواء ثورة التحرير، لكن الجزائريين رفضوها، واستمروا في المقاومة على مدار قرابة 8 سنوات من الكفاح المسلح والعمل السياسي في مواجهة حرب مريرة استخدمت فيها فرنسا كل أنواع الأسلحة، حتى المحرمة دوليًا، حتى حصلوا بدمائهم على الاستقلال عام 1962 بعد 132 عامًا جثم خلالها الاستعمار الفرنسي على أنفاس الجزائريين.
لكن نفاق باريس ونكثها بالوعود بدأ قبل ذلك بكثير، فقد تعهدت في معاهدة دي بورمن أو معاهدة الاستسلام في مايو/ أيار 1830 باحترام معتقدات الجزائريين وأملاكهم الشخصية والعامة، وبدلاً من ذلك، بدت الجزائر مقبلة على ليل طويل، إذ لم تنظر فرنسا لاستعمارها على أنه احتلال بل هي مقاطعة فرنسية حسب دستور فرنسا عام 1848، قسَّمهما البحر المتوسط كما قسَّم نهر السين باريس.
وعاش الفرنسيون حياة الأسياد، بينما عاش الجزائريون على الهامش، وعُوملوا كأشياء، ومَنْ أراد منهم أن يحصل على الجنسية الفرنسية، كان عليه التنازل عن هويته الإسلامية، وخدم آلاف الجزائريين بالجيش الفرنسي، وحاربوا حربوب فرنسا في جنوب آسيا وغيرها من المستعمرات.
لم يكن الأمر إذًا مجرد احتلال يهدف إلى فرض نفوذ عسكري فحسب، بل كان استعمارًا إحلاليًا حقيقيًا يرمي إلى سلب الهوية العربية الإسلامية الجزائرية واستبدالها بهوية فرنسية وأوروبية مسيحية، عبر ترسانة من القوانين والتشريعات التي سُخرت لمحاربة العقيدة الإسلامية واللغة العربية، وعملت على تزوير التاريخ والعبث بالتراث ونهب آثار البلاد، كوسيلة تضمن ضم الجزائر إلى الرقعة الفرنسية.
وبالتوازي مع اعتماده على الآلة العسكرية الوحشية، أرسى الاستعمار الفرنسي سياسة استيطانية عنصرية استقدم بموجبها أفواجًا متتالية من الفرنسيين والأوروبيين لتمكينهم من مقدرات الجزائر وحرمان أصحاب الأرض من أبسط حقوقهم، مع إباحة كامل التراب الفرنسي أمام جحافل القساوسة ورجال الدين المسيحيين من أجل تنصير الجزائريين، ومن ثم تنصير القارة الإفريقية برمتها، ليعايش الجزائريون تاريخًا قاسيًا تخضَّبت سطوره بدماء مليون ونصف شهيد، وصنعته إرادة شعب أقسم أن تحيا الجزائر.
وامتدت تلك الوعود الفرنسية الواهية إلى سوريا ولبنان، اللتين كان الجنرال الفرنسي شارل ديغول وعدهما بالاستقلال، لكنه لم ينجز سوى نصف ما وعد، فقد اعترفت باريس بسيادتهما مع الإبقاء على الوصاية عليهما، وأصدر ديغول الأمر بقصف دمشق لإخماد الثورة، ودمرت القوات الجوية الفرنسية عشرات المباني، وقُتل وجُرح آلاف الأشخاص، ولم تستفد فرنسا شيئًا لأنها ستنسحب من الشرق الأوسط في كل الأحوال، تحت ضغط البريطانيين المتعطشين للانفراد بحكم المنطقة.
وهم “حرب الحرية من أجل العراق”
في فبراير/ شباط 2003، وقبل أيام من بدء الغزو الأمريكي للعراق، وعد الرئيس الأمريكي جورج بوش بجلب الديمقراطية والحرية للشعب العراقي، والعمل على بناء عراق جديد سيكون مثالاً يحتذى به في الشرق الأوسط بأكمله.
استمرت سنوات الحصار الذي فرضته الولايات المتحدة على العراق قرابة 13 عامًا مع كل ما حملته تلك السنين من بؤس وعناء للشعب العراقي، لتشن بعد ذلك مع الحلف الذي تقوده أولى هجماتها على العراق مع بزوغ فجر 20 مارس/ آذار 2003، وأُطلق على العمليات العسكرية اسم “الحرية من أجل العراق”، وجرى التمهيد لها بمبررات عديدة ثبت زيفها مع مرور الوقت.
وعلى الرغم من النتائج الأولية التي أسقطت نظام الرئيس العراقي صدام حسين، وأعطت انطباعًا بأن هذا الغزو كان سريعًا وحاسمًا إلا أنه تسبب بتداعيات وتغييرات جذرية مستمرة في العراق والولايات المتحدة ودول المنطقة على مدار أكثر من 20 عامًا عجافًا.
وسرعان ما أتت رياح التغيير الأمريكية بنتائج معاكسة، إذ تشير دراسة أعدها المركز الدولي للعدالة الانتقالية عام 2013 أن رئيس الإدارة المدنية للإشراف على إعادة إعمار العراق بول بريمر اتخذ فور تعيينه في مايو/ أيار 2003 عدة قرارات تسببت بأزمات وتصدعات متراكمة مثل قرارات اجتثاث حزب البعث وحل الجيش العراقي والاستعجال في تأسيس نظام الانتخابي قائم على المحاصصة الطائفية.
ورغم تكرار بوش وعده بمساعدة العراقيين بناء دولة حرة، وتعزيز الحرية في الشرق الأوسط الأوسع، كان ذلك عام الانزلاق إلى الفوضى، إذ تشير الإحصاءات التي تبنتها دراسة وضعها المركز الديمقراطي العربي إلى أن أعمال العنف في العراق كانت تحصد أرواح نحو 30 قتيلاً كل يوم خلال عامي 2003 و2004، ثم أخذت في الارتفاع مع نهاية عام 2005 لتصل إلى 50 قتيلاً، وازدادت إلى أكثر من 100 جثة في اليوم مع منتصف عام 2006.
ونتيجة لانعدام الأمن في البلاد، تأثرت كافة أشكال الحياة في العراق، فعلى مستوى التعليم مثلاً، تشير الدراسة التي نشرها مركز جنيف العالمي للعدالة في عام 2013 إلى أن 84% من المؤسسات التعليمية في العراق قد دُمرت أو طالها الدمار، كما تم اغتيال 467 محاضرًا واستنادًا منذ عام 2003 العراق.
بالمقارنة، وخلال السنوات التي سبقت الحصار الذي فرضته الولايات المتحدة عام 1990، عاش العراق بحسب العديد من الإحصاءات الرسمية العالمية سنوات من الازدهار في شتى مجالات الحياة.
وبحسب تقرير اليونيسف الصادر عام 2014 عن التعليم في العراق، فان العراق ما قبل عام 1991 كان يمتلك أحد أفضل الأنظمة التعليمية في المنطقة، وكانت نسبة الأمية للفئة العمرية من 15 إلى 45 عامًا أقل من 10% حتى عام 1984، وكان معدل الإنفاق الحكومي على التعليم يبلغ 20% من معدل إجمالي الميزانية الحكومية لتستمر مؤشرات جودة التعليم في العراق في التراجع منذ عام 1991 حتى عام 2003.
وعلى المستوى الاقتصادي، يشير التقرير الذي أعدته خدمة أبحاث الكونجرس عام 2003 إلى أن العراق في الثمانينيات كان يمتلك أحد أفضل الاقتصادات في العالم العربي.
وبعد 8 سنوات من الوجود الأمريكي العسكري في العراق، أعلن الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما قرارًا بانسحاب القوات الأمريكية المقاتلة من العراق في ديسمبر/ كانون الأول 2011، بعد أن تكبدت الولايات المتحدة خسارات كبيرة على المستوى المادي والمعنوي، وترك العراق في حالة من عدم الاستقرار السياسي والتراجع الاقتصادي غير المشهود.
وحتى اليوم، ما يزال العراقيون يعيشون تبعات ذلك الغزو، ولم تقدم “حرب الحرية من أجل العراق” حتى اليوم ما وعدت به العراقيين من بلد مستقر ومستقبل زاهر، ولم تُمح آثار استراتيجية الصدمة والترويع التي تبناها الأمريكان في عملياتهم باحتلال هذا البلد، وبدلاً من وعودهم للعراقيين بالحرية والديمقراطية، خلَّفوا وراءهم خسائر بشرية بمئات الآلاف وأخرى مادية تُقدر بتريليونات الدولارات، وتغييرات جذرية في العراق والمنطقة وحتى في الولايات المتحدة.
الجدير بالذكر أن مثل هذه الوعود رافقت الجيش الأمريكي في حروبه التي شنها في فيتنام وأفغانستان، فقد وعد المسؤولين الأمريكيين شعوب كلا البلدين بجلب الديمقراطية والازدهار، وتحسين البيئة الاقتصادية والعلمية والصحية في البلاد، والحماية من المد الشيوعي، لكن الحلم الأمريكي تحول إلى كابوس مرير بفعل المقاومة التي أجبرت الأمريكان على الخروج بعدما عجزوا عن الوفاء بوعودهم.
وعود نتنياهو العصية على التحقيق
قد لا تختلف الوعود الأمريكية التي تطلقها مع كل حرب تدخلها عن وعود نتنياهو الذي لم يتوقف على مدار 15 شهرًا من القتال عن تكرار تعهده بتحقيق أهدافه في هذه الحرب، والتي حصرها في “تحقيق النصر المبين وإعادة الأسرى الإسرائيليين والقضاء على حركة حماس سلطويًا وعسكريًا”، وهو الهدف الذي وضعه نتنياهو على رأس قائمة أولويات الحرب منذ السابع من أكتوبر، متعهدًا بأن غزة لن تشكل تهديدًا لـ”إسرائيل” بعد اليوم، وأُضيف إليه لاحقًا هدف آخر وهو تعزيز الردع الإسرائيلي واستخدام القوة العسكرية ضد حماس ومنع التهديد الأمني من غزة.
للوفاء بهذه الوعود، فتحت “إسرائيل” أبواب الجحيم على غزة، فقد صبَّت القوات الإسرائيلية أكثر من 90 ألف طن من المتفجرات على كل شبر في القطاع المحاصر، وتوغَّلت الآليات العسكرية الإسرائيلية في عمق غزة لأول مرة منذ الانسحاب منه عام 2005، واعتقلت آلاف الفلسطينيين في كل منشأة احتلتها ومن كل حي دخلته، ونزح أمام هيجانها العسكري غير المسبوق كل سكان غزة الذين يزيدون على مليوني إنسان، والأهم من كل ذلك أن “إسرائيل” بقرار سياسي واضح قتلت أكثر من 45 ألف إنسان، وأخفت قرابة 10 آلاف.
هكذا كانت هذه الحرب بالنسبة إلى “إسرائيل” سعيًا وراء الوفاء بوعود أطلقها رئيس حكومتها وحلفاؤه في اليمين ومَنْ انضم إليهم لاحقًا في مجلس الحرب الذي آثر – بدلاً من المفاوضات – حسمًا عسكريًا أراد نتنياهو أن يحقق فيه أهداف الحرب ليرسم صورة للنصر على غزة.
بعد 15 شهرًا، انسحب الاحتلال من غزة ومن المدن التي سيطرت عليها قواته لفترة وجيزة، وترك رحيلهم في النهاية فراغًا ملأته حماس وجماعات المقاومة المسلحة الأخرى بسرعة، وأعلن عن صفقة تبادل أسرى بشروط المقاومة التي أجبرت نتنياهو على توقيعها بعد فشل العملية البرية في تحقيق أهداف تل أبيب المعلنة، فيما اُعتبر أكبر فشل استراتيجي واستخباراتي وأمني وعملياتي وإعلامي لـ”إسرائيل” منذ تأسيسها.
وذاك فشل تؤكده بيانات إسرائيلية أخرى تحدثت عن أخطاء في التقديرات والمعلومات بشأن تصفية قيادي القسام، وترك مجددًا ظلالاً من الشك وأثار أسئلة عدة حول وعود نتنياهو الذي حدد لنفسه أهدافًا عصية على التحقيق، ليس أقلها تحقيق “نصر مطلق” وصفه الداعون له لاحقًا بأنه “هراء”.
وفي شمال غزة، وعلى مساحة أقل من 100 كيلو متر مربع، وهي المناطق الأشد كثافة بالسكان والمحاذية لمستوطنات الاحتلال، فيما يعرف بغلاف غزة، أُصيب الاحتلال بالجنون، فأسماء المدن الصغيرة العادية – مثل بيت حانون وبيت لاهيا وجباليا وجحر الديك وغيرها – كبرت كأنها كيانات عالمية كانت من أبرز مواقع المقاومة التي كان الاحتلال يزعم السيطرة عليها.
وكانت المعضلة الكبرى أمام جيش الاحتلال فرض السيطرة وكسر شوكة المقاومة، لكنه أخفق في ذلك، وما تزال عملياتها التي نفَّذتها خلال الحرب تُبث صورها بعد الاتفاق على وقف إطلاق النار، مخلِّفة أكثر المشاهد التي تسبب قلقًا للمؤسسة الأمنية في “إسرائيل”.
كما أثبتت المقاومة حضورها بمختلف أنحاء غزة، وأنها لا تزال موجودة وتقاتل جيش الاحتلال بأدواته وبما غنمه مقاتلوها من جنوده، وهو ما حدث في كل مرة سلَّمت فيها أسرى إسرائيليين، وزحف السكان لمشاهدتها حيث كان الاحتلال يخطط لمنطقة ممسوحة عازلة خالية.
وبعثت برسائل ورمزيات هامة ومحورية يُراد لها أن تصل ويفهمها الجانب الإسرائيلي الذي أثارت حفيظته هذه المشاهد، فخرق الهدنة، وعطَّل تسليم الأسرى الفلسطينيين، وأعاق دخول المساعدات إلى غزة بسبب الارتياب من سطوة الصورة التي ستلي صور خروج الأسرى بين يدي المقاومين المسلحين,
كما شكَّلت عودة سكان غزة إلى شمال القطاع إحباطًا لأحد أهم أهداف الحرب الإسرائيلية التي تجسدت في “خطة الجنرالات” التي بدأها الاحتلال في الخامس من أكتوبر/ تشرين الأول 2024، بهدف السيطرة على شمال القطاع وإفراغه بشكل كامل من سكانه، وتحويله إلى منطقة عسكرية مغلقة، لكنها عكست كغيرها من الخطط الساعية لكسر المقاومة، فشل الاحتلال في تحقيق أهداف الحرب وعجزه عن تحقيق أي انتصار عسكري ميداني على المقاومة .
ومع كل خطوة يخطوها الفلسطينيين عائدين إلى الشمال يتهشم مخطط الاحتلال بالاقتلاع والإبادة بالقتل والتجويع والحصار قبل أن يتخذ ربما أشكالاً أخرى من قبيل اقتراحات دولية بنقل السكان طوعًا خارج غزة، وهنا يبرز السؤال: فيم إذًا كان ذلك الصمود والتضحيات؟ وهل مّنْ جرب اللجوء يعود إليه؟
“ريفيرا الشرق الأوسط”.. الوعد الزائف بغزة جديدة
مع تعثر نتنياهو وقوات الاحتلال في تحقيق أي من الأهداف التي وعد بها منذ السابع من أكتوبر، طرح ترامب تصورًا غامضًا وخارجًا عن سياق الدبلوماسية التقليدية للولايات المتحدة بشأن ما بدا أنه “احتلال أمريكي لقطاع غزة” الذي وعد بإخلائه من سكانه مؤقتًا، وأكد رغبته بتهجيرهم عنها إلى مصر والأردن وأماكن أخرى لم يسمها، لتستلم الولايات المتحدة إدارتها وتطويرها وتحويلها إلى ما يشبه بـ”الريفيرا” على حد قوله، في انتهاك صارخ للقانون الدولي الذي يحظر نقل السكان قسرًا.
وقبل أيام قليلة، نشر ترامب مقطع فيديو دعائي معد بواسطة الذكاء الاصطناعي، تحت عنوان “غزة 2025 – ما التالي؟”، يصور غزة حال تنفيذ مخطط تهجير أهلها، وتحويلها لمنطقة سياحية ومنتجع فاخر، بعد إعادة إعمارها إثر تدميرها بالكامل وتهجير سكانها ومنعهم من العودة إليها، في تجسيد بصري لرؤية ترامب التي تدعمها “إسرائيل”، والتي تقوم على محو الوجود الفلسطيني في القطاع والاستيلاء عليه.
ويظهر الفيديو الذي انتشر على نطاق واسع أطفالاً يخرجون من بين الركام، ويفرون من مسلحين في إشارة للمقاومة قبل أن يتحول قطاع غزة لمنطقة ساحلية بشواطئ غريبة تحاذيها ناطحات سحاب، وبالخلفية برج لترامب وتمثال كبير ذهبي للرئيس الأمريكي وتماثيل صغيرة مذهبة، وبرج يحمل اسم “ترامب غزة”.
وأظهر الفيديو ترامب يرقص في حانة، بالإضافة إلى رجل الأعمال، الملياردير المقرب من ترامب، إيلون ماسك، يأكل الحمص ويرمى النقود للناس، في مشهد يعكس تحويل المأساة الفلسطينية إلى مشروع استثماري، كما ظهر نتنياهو وهو مستلق إلى جانب ترامب على شاطئ المتوسط، وأرفق المقطع بأغنية تحمل دلالات استعمارية، وتشيد بـ”ترامب غزة – نمبر وان” (رقم واحد)، وتحمل كلمات مثل “دونالد قادم لتحريركم”، في محاولة لتصوير مخططه الذي طرحه ترامب بشأن غزة.
يُطلق على هذا النوع من المحتوى “طُعم الغضب”، لأنه يستغل خوارزميات منصات التواصل الاجتماعي التي تعطي الأولوية للمحتوى الذي يزيد من التفاعل، لكن قدرة هذا النوع من المحتوى على إثارة ردود فعل تعني أن الخوارزميات تزيد من انتشاره، مما يزيد من عدد المشاهدات، وبالتالي يعزز أرباح شركات التواصل الاجتماعي، إذ تعمل هذه المواقع بهذه الطريقة.
قبل ذلك، بدا ترامب متراجعًا بشأن خطته في غزة، التي قال إنها جيدة لكن لن يفرضها وإنه يوصي بها فقط، وقال إن ما طرحه بشأن غزة كان من زاوية تجارية تجلب السلام، وإنه لا داعي للعجلة بشأن الوضع هناك، فيما بدت تصريحاته مجرد محاولة للتخفيف من وقع الصدمة.
وبينما يخطط ترامب لمستقبل غزة لكن دون أهلها، يبدو أن آخر ما سيكتبه التاريخ عن وعده بجعلها “ريفيرا الشرق الأوسط” هو الفشل كغيره من الوعود الزائفة التي سبقته، فقد أفشل الفلسطينيون على مدار عقود كل خطط التهجير والوطن البديل.
وليس ثمة أكثر دلالة على ذلك من رفض الفلسطينيون ومعهم دول عربية لهذا المخطط، واعتباره يهدف إلى طردهم من أرضهم، ويصل لحد التطهير العرقي، وتأكيدهم على تمسكهم بالبقاء على أرضهم، وهو ما تعكسه مشاهد عودة النازحين من جنوب القطاع إلى شماله، حيث تقبع منازلهم المدمرة التي خرجوا منها قسرًا على امتداد الحرب بحثًا عن ملاذ مما توصف بأعتى هجمة عسكرية في التاريخ الحديث، ليلاقوا من بقي هناك، أولئك من قالوا أن لم يكن من الموت بد فليكن في بيتي وعلى أرضي.
وسيكتب التاريخ في قادم الأيام أن لا شيء للفلسطيني سوى أرضه، وذلك التراب المجبول بالدم والانتظار، ولأنها كذلك يتشبث بها تشبث الطفل بأمه، وتلك معادلة الفلسطيني وأرضه التي تعيد تأكيد نفسها وسط أمواج القتل والسياسة، انه باق وإن خرج فهو لا محالة عائد.