تعتبر السينما “ذاكرة الشعوب” التي تجسد مراحل الأمم التاريخية وأبرز محطاتها التي أثرت في حياة مواطنيها، كما أنها تعد الأرشيف الخالد الذي ينقل هذا التاريخ بتفاصيله للأجيال التالية، في ظل مساعي الدول لتخليد وتوثيق تاريخها حفاظًا من الضياع في ظل الفوضى التكنولوجية التي يحياها العالم في السنوات الأخيرة.
وفي هذا التوقيت من كل عام، تعج الفضائيات المصرية بالأعمال السينمائية التي تجسد حرب الـ6 من أكتوبر/تشرين الأول 1973، وتحتوي المكتبة السينمائية المصرية على ما يقرب من 12 فيلمًا أو أكثر قليلاً، ألقت الضوء على بعض ملامح هذه الحرب التي تمثل علامة فارقة في تاريخ مصر الحديث والمعاصر.
ومع الاحتفال بالذكرى الـ46 لهذا الانتصار العظيم بات التساؤل بشأن قدرة هذه الأعمال على تجسيد الحرب بشكل كامل سؤالاً يطرح نفسه على الساحة الفنية، في ظل موجة انتقادات كبيرة تتهم السينما المصرية بالفشل في القيام بهذه المهمة نظرًا لعدة عوامل على رأسها قلة الدعم وغياب الشفافية وتزوير التاريخ.
مكتبة ضعيفة
رغم مئات الأفلام السينمائية التي تثري المكتبة المصرية على مدار المئة عام الأخيرة، فإن الأعمال التي تطرقت إلى حرب العاشر من رمضان لم تكن على المستوى المطلوب، كمًا وكيفًا، وهو ما دفع بعض النقاد إلى وصف السينما المصرية بأنها في حالة عداء واضح لهذا الحدث التاريخي.
ويعد فيلم “الرصاصة لا تزال في جيبي” الذي أنتج بعد عام واحد فقط من الحرب، أشهر تلك الأعمال التي باتت وجبة دائمة العرض في هذا التوقيت من كل عام، الفيلم قام ببطولته محمود ياسين، صاحب النصيب الأكبر من الأفلام التي أُنتجت عن الحرب، وشاركته البطولة الفنانة نجوى إبراهيم.
تدور أحداثه حول شاب حديث التخرج يعيش قصة حب مع ابنة عمه، يُستدعى للتجنيد، يعود في إجازته فيجد حبه الأول اُغتصب وفي طريقه إلى الضياع بسبب شخص انتهازي استغل غيابه، فيحاول استردادها، فيجدها فاقدة للثقة في كل المحيطين بها حتى حبيبها، فيبذل كل ما في وسعه ليعيد لها الأمان الضائع، وبعد الانتصار يجدها إنسانة أخرى عادت لها روحها المرحة، فيعدها بأنه سيظل محافظًا على مكان الرصاصة في جيبه لأن الحرب لم تنته بعد رغم الانتصار.
وفي العام ذاته أنتجت السينما المصرية فيلم “أبناء الصمت” الذي شارك في بطولته نخبة كبيرة من الفنانيين، على رأسهم محمود مرسي ونور الشريف وميرفت أمين ومحمد صبحي ومديحة كامل وأحمد زكي والسيد راضي وسيد زيان، وإخراج محمد راضي.
تقع أحداث هذا العمل خلال السنوات الستة التي سبقت حرب أكتوبر ”حرب الاستنزاف”، والعمليات القتالية التي كان يقوم بها الجيش لاستنزاف طاقة وقوة العدو، إذ يركز على بطولة الجنود الذين دفعوا دماءهم ثمنًا لتحرير أرضهم، كما يُظهر نماذج أخرى سلبية، منها رئيس تحرير إحدى الصحف الذي يعيش منفصلاً عن مرارة هزيمة 67 ولا يفكر إلا في صالحه وعلاقاته الخاصة، وتتوالى الأحداث إلى أن تأتي لحظة العبور، ويتحقق النصر.
السينما التسجيلية نجحت أكثر من الروائية في تناول تفاصيل الحرب، وباتت أكثر إقناعًا للمشاهد، لا سيما الأعمال التي قدمها صلاح التهامي وهاشم النحاس
كذلك فيلم “حتى آخر العمر” المنتج عام 1975، الذي اختلف النقاد في مدى تجسيده لحرب أكتوبر، إذ ذهب فريق إلى أن العمل لم يتطرق بشكل مباشر إلى هذا الحدث، فيما رأى آخرون أنه ألقى الضوء على البُعد الإنساني الناجم عن المشاركة في هذه المعركة، على هامش قصة حب بين البطل محمود عبد العزيز الذي يعمل طيارًا في الجيش، وزوجته نجوى إبراهيم، وكيف وقفت إلى جواره رغم تغير معاملته لها، بعد إصابته في الحرب، التي بسببها أصبح قعيدًا على كرسي متحرك.
أفلام أخرى قدمت نفسها على أنها تأتي في إطار تجسيد الحرب وإن أنتجت قبل عام 1973، من بينها فيلم “أغنية على الممر” الذي تم إنتاجه قبل الحرب بعام تقريبًا، لكنه واحد من أهم الأفلام التي تناولت حرب الاستنزاف، ويحكي كيف ظل جنود فصيلة مشاة، صامدين رافضين الاستسلام رغم نفاد الماء والطعام وانقطاع الصلة بينهم وبين القيادة، وإغراءات العدو الذي يعدهم بالحفاظ على حياتهم في حال استسلامهم.
علاوة على عدد من الأعمال الأخرى التي جسدت مرحلة الاستنزاف الممهدة للانتصار العظيم منها: ”حكايات الغريب” بطولة محمود الجندي، و”الطريق إلى إيلات” بطولة عزت العلايلي ونبيل الحلفاوي، وهما من أفلام التليفزيون وأخرجتهما المخرجة إنعام محمد علي، و”الوفاء العظيم” و”بدور” من أوائل الأفلام التي أُنتجت عن الحرب، بطولة نجلاء فتحي ومحمود ياسين.
يتصدر فيلم “الرصاصة لا تزال في جيبي” قائمة الأعمال التي جسدت الحرب
5 أسباب وراء الفشل
الناقد الفني أحمد عبد الرازق، أشار إلى أن السينما المصرية فشلت وبشكل واضح في الأفلام التي قدمتها عن حرب أكتوبر، لافتًا إلى أنها لم تعبر عن الحرب بشكل مباشر، لكنها تطرقت لأبعاد أخرى أفقدتها قيمتها، وهو ما سطح محتواها الفني حتى إن صنفت أنها سينما حرب.
وأضاف عبد الرازق في تصريحاته لـ”نون بوست” أن ضعف الإمكانات هو السبب الأول وراء هذا الفشل، ملمحًا إلى أن السينما التسجيلية نجحت أكثر من الروائية في تناول تفاصيل الحرب، وباتت أكثر إقناعًا للمشاهد، لا سيما الأعمال التي قدمها صلاح التهامي وهاشم النحاس.
المجتمع يتحمل دورًا محوريًا في فشل سينما الحرب، كونه يشارك في تشكيل الوعي الفردي بصورة خاطئة، وهو ما يدفع المنتجون الهادفون للتربح بأي طريقة إلى استغلال هذا التردي للترويج لأعمالهم الفاسدة
كما لفت إلى غياب وعي المنتجين بشأن مسألة إنتاج الأفلام التي تتناول الحروب، إذ إن البُعد التجاري غير موجود بالمرة، في ظل تغليب الجانب التوعوي، وهو ما دفع المنتجين إلى الخلط بين الإنتاج التجاري والتوثيقي، وهو السبب وراء فشل تلك الأعمال في توثيق هذه المرحلة مقارنة مثلاً بالنجاح الذي حققته السينما العالمية في توثيق الحرب العالمية الثانية على سبيل المثال.
المخرج السينمائي محمد كامل القليوبي يرى هو الآخر أن السينما في مصر سينما تجارية بامتياز، وحرب أكتوبر موضوع لا يعود بمقابل مادي، وموضوع هذه الحرب أصبح في طور النسيان، ونحن شعبٌ بلا ذاكرة وبلا تاريخ، ونرى ذلك فيما يتم تدريسه في المدارس، فأغلب التاريخ الذي يتم تدريسه تاريخ مزور، أو حذف منه مراحل تاريخية كثيرة.
أفلام عدة تناولت حرب الاستنزاف من بينها “الطريق إلى إيلات”
فيما ذهب الناقد أحمد مقلد، أن المجتمع يتحمل دورًا محوريًا في فشل سينما الحرب، كونه يشارك في تشكيل الوعي الفردي بصورة خاطئة، وهو ما يدفع المنتجون الهادفون للتربح بأي طريقة إلى استغلال هذا التردي للترويج لأعمالهم الفاسدة، وتعد عائلة “السبكي” على رأس هذه الفئة من خلال الأفلام التي تقدمها وساهمت بشكل كبير في التسويق للمخدرات والبلطجة والجنس، ومن نماذج تلك الأعمال “عبده موتة” و”قلب الأسد” للفنان محمد رمضان.
وأضاف في تصريحاته لـ”نون بوست” أن افتقاد المعلومة وغياب الشفافية أحد أسباب الفشل، مما يدفع المؤلف إلى الاستعانة بخياله دون الاستناد إلى أرضية معلوماتية قوية، ما ينجم عنه أعمال مسطحة لا ترتقي لتجسيد مرحلة تاريخية بهذه الأهمية، مطالبًا المسؤولين بالسماح بتداول القصص والمعلومات المتعلقة بالحرب وتفاصيلها.
علاوة على ذلك ذهب فنانون إلى أن معظم الأعمال التي تناولت الحرب ركزت على البُعد الحربي فقط، دون التطرق إلى الجانب السياسي والإنساني والعلاقات العربية والدولية والاستعدادات المتعلقة بالحرب ودور الشعب في الانتصار ونتائج الحرب على المستويات كافة، وهو ما كان يمكن أن يزيد من ثقلها حال التطرق إلى هذه الجوانب.