ترجمة وتحرير: نون بوست
يُقال إنه يمكن أن ترى العالم في حبة رمل. في بعض الحالات، يمكن بالفعل رؤية التغيير الذي يشهده العالم أيديولوجيا من خلال حادثة واحدة. لنأخذ على سبيل المثال موقف رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر الأخير من عائلة فلسطينية جاءت إلى المملكة المتحدة عبر برنامج لجوء مخصص للأوكرانيين.
عبّر ستارمر عن غضبه، وذهب إلى حد الاتفاق بلا تحفظ مع زعيمة حزب المحافظين كيمي بادينوك عندما أثارت القضية في مجلس العموم، ومن النادر أن يمنح رؤساء الوزراء هذا النوع من التأييد غير المشروط لقادة المعارضة.
انتقد ستارمر وبادينوك القاضي الذي أيد طلب العائلة الفلسطينية. وبسبب هذا الهجوم على السلطة القضائية، وبّختهما رئيسة القضاة، البارونة سو كار، قائلة إن مثل هذا الانتقاد يقوض استقلالية القضاء.
وقالت كار إنه إذا كان لدى ستارمر وبادينوك أي مشكلة، فيمكنهما تقديم طلب استئناف عبر الوسائل القانونية، بدلاً من انتقاد قاضٍ غير قادر على الرد علنًا.
وفي هذه الحبة من الرمل، يمكننا أن نرى انهيار الأيديولوجية الاشتراكية الليبرالية بأكملها، والتي من المفترض أنها تقوم على العدل والنزاهة وتطبيق سيادة القانون دون خوف أو محاباة، والدفاع عن النظام الدولي القائم على القوانين.
لقد تعامل ستارمر مع قضية اللاجئين الفلسطينيين بطريقة قوضت القانون الذي من المفترض أن يتمسك به، رغم أنه محامي حقوق الإنسان، وهو ما لا يمل من تذكيرنا به.
الفصل بين السلطات
ليس من المهم ما إذا كان اللاجئون أوكرانيين أو فلسطينيين، فإذا كانوا بحاجة إلى الدعم كما ينص القانون، ينبغي أن يكون لهم الحق في الحصول عليه. إلا أن ستارمر اختار أن يقيّم الأمور على أساس المفاضلة السياسية، وليس على أساس الحاجة الإنسانية أو المساواة أمام القانون.
يفضّل ستارمر أوكرانيا في حربها مع روسيا على الشعب الفلسطيني في نضاله ضد دولة إسرائيل، هذا هو المقياس الذي طبّقه في هذه القضية. وعندما حكمت المحكمة بوجوب معاملة العائلة الفلسطينية بالطريقة ذاتها التي يعامَل بها اللاجئون الأوكرانيون، هاجم المحكمة.
ومن الأركان الأساسية للديمقراطية البرلمانية أن يكون هناك فصل بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية.
لكن ستارمر سيّس هذه القضية وتجاهل ضرورة هذا الفصل، وهذا بالتحديد هو السبب الذي جعل رئيسة المحكمة العليا ترد بقوة وبشكل علني على هجومه على قرار المحكمة.
إن أكثر ما يثير الدهشة في كل هذا هو أن المبدأ الأساسي الذي تقوم عليه انتقادات التيار الديمقراطي الاجتماعي الليبرالي للترامبية، واليمين المتطرف بشكل عام، هو رفض تسييس الوظائف القانونية في الديمقراطيات البرلمانية.
إن التعيينات الحزبية التي قام بها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في المناصب الشاغرة في أعلى هرم النظام القضائي الأمريكي، وإقالاته المسيسة في مؤسسة الدفاع، والطعن في نتائج الانتخابات عبر إجراءات قضائية، كلها أمثلة على ازدرائه المعلن للفصل بين السلطات المنصوص عليه في الدستور الأمريكي، وتصميمه على إخضاع جهاز الدولة، ليس فقط لإرادة النخبة الحاكمة (كما كان الحال دائمًا)، بل لإرادته الشخصية.
وهجوم ستارمر على قرار المحكمة في قضية اللاجئين الفلسطينيين يُظهر أنه على القدر ذاته من الاستعداد لتخطي الإجراءات القانونية العادية، وتجاوز مبدأ الفصل بين السلطات، لتحقيق أهدافه السياسية الخاصة.
استغلال الفشل
تكمن مأساة التيار الاشتراكي وتيار الوسط الليبرالي في أن خطوة ستارمر في هذه الحالة ليست إخفاقا معزولا.
خطاب “تجفيف المستنقع” الترامبي كان فعالا على وجه خاص لأن العديد من الناخبين الأمريكيين ينظرون إلى النخبة الليبرالية التقليدية ينظر باعتبارها نخبة فاسدة.
أما في بريطانيا، فإن الانخفاض السريع في شعبية ستارمر يعود تحديدًا إلى أن كثيرين ينظرون إلى سياساته باعتبارها شبه مطابقة للسياسة الفاسدة التي اعتمدها حزب المحافظين في فترة بوريس جونسون، والذي ترأس الحكومة بعد استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
تتعزز هذه الصورة من خلال استعداد ستارمر الكامل للخضوع لترامب، بغض النظر عن تمزيق الرئيس الأمريكي للتوافق الاشتراكي والليبرالي الذي هيمن على التفكير المؤسسي منذ الحرب العالمية الثانية.
والواقع أنه كلما استغل اليمين الشعبوي إخفاقات الوسط الليبرالي التقليدي، فإن الوسط الليبرالي يتكيف بشكل أكبر مع اليمين الشعبوي من خلال التماهي مع مواقفه السياسية.
وبهذه الطريقة، نجد أنفسنا في حلقة مفرغة: يفشل الوسط الليبرالي في كسب أصوات الناخبين ويحقق اليمين المتطرف بعض المكاسب، ثم يفشل اليمين المتطرف، ويستعيد الوسط الليبرالي السلطة، ويفشل مرة أخرى، ويعود اليمين الشعبوي المتطرف بأشكال أكثر خطورة.
هذه هي بالضبط دورة أوباما-ترامب-بايدن-ترامب التي نراها في الولايات المتحدة، ولكنها لا تقتصر بأي حال من الأحوال على الولايات المتحدة.
إن عزلة وانهيار الوسط الليبرالي والاشتراكي تتسارع بسبب حقيقة أنه يعارض اليسار الراديكالي أكثر مما يعارض اليمين الشعبوي. ببساطة، لا يزال ستارمر يكره زعيم حزب العمال السابق جيريمي كوربين أكثر مما يكره ترامب.
تآكل الحريات المدنية
مع ذلك، يملك اليسار الراديكالي بالتحديد أفضل فرصة لهزيمة ترامب واليمين الشعبوي بشكل عام.
إن هوس ترامب بالرسوم الجمركية لن يخلق فرص عمل، كما وعد به قاعدته الانتخابية، بل سيضر بالاقتصاد الأمريكي، وسيؤدي على المدى القصير إلى ارتفاع الأسعار، مما يجعل الأمريكيين من الطبقة العاملة أكثر فقرًا.
وبقدر ما سيتم اعتماد هذه التدابير على الصعيد الدولي، وهذا هو الحال في الوقت الراهن، فإنها ستتسبب في تأثيرات سلبية على الاقتصاد العالمي، تمامًا كما فعلت حروب الرسوم الجمركية المماثلة في عشرينيات القرن الماضي.
سيؤدي تسييس ترامب لأجهزة الدولة إلى تآكل الحريات المدنية والدستورية، مما يقوض ادعاءات اليمين الشعبوي بالدفاع عن حرية التعبير وعن الحرية بشكل عام.
وعلى الصعيد الدولي، قد تؤدي انعزالية ترامب وعدوانيته إلى إنهاء الحروب التي يعتبرها غير قابلة للحسم، مثل الصراع في أوكرانيا، لكنها لن تؤدي إلى عالم أكثر سلامًا أو استقرارًا.
وفي ظل هذه الظروف، فإن اليسار الراديكالي المستعد للدفاع عن حقوق العمال وعن الاقتصاد الذي يضمن وظائف مستقرة وآمنة، والذي يتعهد بإنهاء تآكل الأجور، وإعادة بناء أنظمة الصحة والتعليم؛ والذي يتعهد بإحياء البنية التحتية للنقل، والدفاع عن حرية التجمع وحرية التعبير والتنظيم النقابي الفعال، والذي يلتزم بالسعي إلى السلام العالمي بدلاً من الحرب، هو أفضل ترياق لليمين المتطرف.
سيكون من الجيد أن ينضم بعض من ينتمون إلى الوسط الليبرالي/الاشتراكي المنهار إلى هذا المشروع، بدلاً من الاندفاع المستمر نحو اليمين على أمل التوصل إلى تسوية مع ترامب وحلفائه.
المصدر: ميدل إيست آي