يختلف الفائز بالمرتبة الأولى في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية التونسية، قيس سعيد، عن بقية المترشحين الآخرين وذلك على مستويات عدة. لم يشتغل سعيد على صورته لسنوات، مثلما فعل نبيل القروي الفائز بالمرتبة الثانية في الدور الأول، فقد سجّل القروي حضوره وبقوة خلال السنوات الثلاث الأخيرة عبر ذراعين أساسيين، الذراع الأول إعلامي من خلال ظهوره المكثف في قناة “نسمة” وهو مساهم في رأس مالها والذراع الثاني “خيري” من خلال جمعية “خليل تونس” عبر توزيع التبرعات التي تستهدف الجهات المحرومة -قبل الثورة وبعدها- وهو لم يكتف بعمل الجمعية فقط بل جعل اسمه ملتصقًا بها وتجوّل هو أيضًا حاملًا المساعدات متبنيًا دور “المنقذ”.
وليس قيس سعيد كالصافي سعيد مثلًا، بالرغم من نقاط الالتقاء والتشابه الكثيرة بينهما على مستوى أسلوب الخطاب وارتداء “ثوب” الثقافة والتمسك بالعروبة، لأن الصافي سعيد كان قد ترشح في الانتخابات السابقة سنة 2014 وحظي هذه المرة بدعم حزب حركة الشعب. أما بقية المترشحين، فإما ينتمون إلى أحزاب كبيرة أو صغيرة أو مستقلون لم يتمكنوا من تجاوز عتبة بضعة مئات من الأصوات.
يمثل قيس سعيد شخصًا بعيدًا عن منظومة الأحزاب والحكم ولكنه في الآن ذاته شخص مثقف ويطرح أفكارًا مختلفة وجريئة
وكل ذلك ربما ما جعل من قيس سعيد ظاهرة، لأنه يختلف عن كل هؤلاء نظرًا إلى أن فكرة ترشحه كانت حديثة ولم يأخذها كثيرون على محمل الجد وهو لا ينتمي إلى حزب ولا يحظى بدعم حزبي معلن –إلا بعد الترشح إلى الدور الثاني حيث أعلنت أحزاب دعمه على حساب منافسه نبيل القروي- كما أن الفئة الاجتماعية التي انتخبته شابة ومتعلمة. وهنا نتساءل عن السبب الذي صنع من قيس سعيد ظاهرة وجعله يفوز بالمرتبة الأولى في الدور الأول ويكون مرشحًا للفوز بمنصب الرئيس إن “صدقت” استطلاعات الرأي.
نستند في هذا التحليل إلى كتاب « The Tipping Point : How Little Things Can Make a Big Difference » أو “نقطة التحول: كيف تحدث الأشياء الصغيرة فارقا كبيرا” للكاتب مالكوم غلادويل الذي صدر سنة 2000. يتحدث الكتاب عن كيفية تحوّل أمور عادية أو غير عادية إلى ظواهر اجتماعية مثل انتشار منتج أو فكرة أو نمط موسيقي أو موضة معينة أو ارتفاع معدلات الجرائم أو انخفاضها وغيرها على طريقة الأوبئة. بمعنى آخر، دراسة العوامل والمراحل التي يمر بها شيء ما للتحول من أمر يخص عددًا محدودًا من الناس إلى أمر ينتشر مثلما تنتشر الفيروسات بطبيعتها المعدية. وللكتاب قدرة على مساعدتنا في تفسير صعود قيس سعيد إلى حد ما.
فأولا علينا أن نبدأ بتفكيك مسار الانتقال من شيء أو شخص عادي إلى صرخة في عالم الموضة أو شخصية شعبية تحظي بتأييد الكثيرين لأن غلادويل يتحدث في كتابه عن 3 عوامل تحقق التغيير وهي “قانون البعض” “The Law of the Few ” و”عامل الالتصاق” “The Stickiness Factor” “وقوة السياق” “The Power of Context” وهي تنطبق في حقيقة الأمر جميعها على كيفية صعود ظاهرة قيس سعيد.
الاتساق Consistency
لا يتحدث غلادويل عن الاتساق كأحد محفزات تحقق التغيير والانتشار. ولكن يبرز الكاتب ضرورة أن يكون في المنتج أو الشخص أو التوجه الفكري أمرًا مميزًا ومختلفًا يؤهله لأن يصبح ذا شعبية واسعة وينتشر انتشار الفيروسات. ويعد الاتساق من وجهة نظرنا عنصرًا أساسيًا في تشكيل هوية قيس سعيد كما يدركها من انتخبوه. فقيس سعيد هو قيس سعيد منذ أن عرفه التونسيين كأستاذ القانون الدستوري يتحدث بالطريقة ذاتها كرجل آلي يتقن اللغة العربية ولا يغير أسلوبه أو رؤيته طوال سنوات وسنوات بالرغم من أنه حينها لم يكن يخطر بذهن أحد أنه يمكن أن يترشح سنة 2019.
خطاب قيس سعيد هو خطاب مختلف لا يقوم على الأدوات التسويقية التقليدية أو الحديثة التي استدعت في الآونة الأخيرة معجم التلميع أو حتى في حالة بعض المترشحين والقياديين السياسيين التونسيين
ويمثل قيس سعيد شخصًا بعيدًا عن منظومة الأحزاب والحكم ولكنه في الآن ذاته شخص مثقف ويطرح أفكارًا مختلفة وجريئة في قدرتها على أن تواجه الخطاب النخبوي العام الذي “يقدّس” الحريات الفردية ويقدّم المساواة في الإرث على الحق في العمل ويجعل الانفتاح وحتى تطبيق النموذج الفرنسي بحذافيره المخرج لوحده ودون غيره من مشاكل تونس والضغوطات التي تمر بها.
هذا الخطاب، وإن كان في نية البعض ذا أهداف إيجابية يسعى إلى التقدم بتونس وتحسين وضع الحقوق والحريات فيها، إلا أن قيس سعيد -الذي يعد جزءًا من النخبة- لم ينخرط فيه بل هو في حقيقة الأمر يخالفه تمامًا ويقدم طرحًا لا يتماشى مع توجهات النخبة وقادة الرأي وقد يتقاطع مع توجهات عدد واسع من المواطنين التونسيين الذين وإن كانوا في غالبيتهم غير معنيين بنمط مجتمعي إسلامي، فإنهم لا يترددون في الانخراط في نمط محافظ ولو في ظاهره على الأقل.
وخطاب قيس سعيد هو خطاب مختلف لا يقوم على الأدوات التسويقية التقليدية أو الحديثة التي استدعت في الآونة الأخيرة معجم التلميع أو حتى في حالة بعض المترشحين والقياديين السياسيين التونسيين الإغراق في الكذب وتزييف الحقائق والتفاني في الممارسات الاتصالية التي ليس لها أية علاقة بقواعد الاتصال السياسي أو حتى التسويق السياسي الناجع لأنها في مجملها تقوم على الاتصال حول أشياء غير موجودة أصلًا. كما أنه شخصية ثابتة غير متحولة وتحظى باستمرارية على مستوى حديث وتفكير متسق ومتواصل.
فصنعت بذلك الاستمرارية والاختلاف الهوية السياسية لسعيد، على عكس سياسيين تجولوا بين الأحزاب أو لعبوا مرة دور الحازم المقاوم لما يعرّض الدولة للخطر، لينتقلوا بنا بعدها إلى السياسي الذي يقدم نفسه في صورة “المواطن العادي” القريب من الشعب الذي يشجع فريق كرة قدم محلي ويبكي مثلما نبكي نحن تماما ويثني كمي قميصه على طريقة باراك أوباما.
هؤلاء المترجمون يلعبون دورا في تحسين الأفكار وتطويرها وإعطاء بعد جديد لها
وهنا تكتمل صورة “المنتج ” الذي يتسم بما يسمح له أن يتحول إلى ظاهرة.
“البعض” ..المحيطون بسعيد
يتحدث كتاب “نقطة التحول” عن نظرية اجتماعية معروفة وربما تكون قد تعرضت لها عند مشاهدتك سلسلة تلفزيونية أمريكية تحمل اسمها وهي Six Degrees” “الدرجات الست” و(لنكون أكثر دقة هي نظرية “Six Degrees of Separation“) وتقول هذه النظرية إن الناس مرتبطون بشبكات علاقات بين بعضهم البعض قد تفصلهم فيما بينهم ست خطوات أو أقل. ولتبسيط ذلك فلنفترض أنك كنت موظفا عاديًا بإحدى الوزارات تقدم ملفًا إلى مدير ديوان الوزير الذي تربطه علاقة عمل بالوزير الذي يقابل رئيس الحكومة بصفة دورية والذي يقدم لرئيس الجمهورية تقريرًا أسبوعيا عن أداء الحكومة، فبذلك تربطك 4 خطوات برئيس الجمهورية.
وقس على ذلك المنوال، فانطلاقًا من هذه النظرية كلنا مرتبطون بطريقة أو بأخرى. هذا الترابط هو الذي يسهل انتشار الأفكار والمنتجات وهو الذي يسمح بمساعدة المهتمين الأوائل بموضوع معين إلى جانب من يسميهم الكاتب بالمترجمين بنشر فكرة ونقلها من أمر عادي إلى أمر “يستحق” أن يصبح شعبيًا. فهؤلاء المترجمون يلعبون دورًا في تحسين الأفكار وتطويرها وإعطاء بعد جديد لها. فمثلًا إذا قرر أحد المراهقين في حي شعبي ارتداء قميص يحمل صورة “باربي” يلتقط هؤلاء الفكرة ويقدمون ربما قمصانًا جديدة باستبدال صورة “الباربي” بصورة أخرى ويحوّلون الأمر من خيار شخصي إلى خيار شعبي، وهذا ما حدث بالنسبة إلى قيس سعيد.
هؤلاء الذين يرتبطون بشكل مباشر أو غير مباشر بسعيد هم القادرون على ترجمة أفكار قيس سعيد التي قد تبدو نخبوية أو غير قابلة للتطبيق في نظر البعض إلى أمور يمكن أن تفهم عند فئة أوسع من الناس
وهذا الأمر قد تم قبل صعوده ولكن أصبح واضحًا للعين المجردة انطلاقًا من الزخم الذي لقيه بعد الفوز بالمرتبة الأولى في الدور الأول، وعشرات القصص التي تروى عن الرجل، فيتحدثون عن الأستاذ والمواطن الشريف النظيف الذي لم يتورط في ما يخالف القانون الذي يدرّسه. وهي كلها تقييمات انطباعية شخصية قد لا تعكس بالضرورة واقعًا أو قد تعكسه.
هؤلاء الذين يرتبطون بشكل مباشر أو غير مباشر بسعيد، هم القادرون على ترجمة أفكار قيس سعيد التي قد تبدو نخبوية أو غير قابلة للتطبيق في نظر البعض إلى أمور يمكن أن تفهم عند فئة أوسع من الناس، كما أن سعيد بقوله إنه سيولي الشعب تسطير برنامجه، هو في حقيقة الأمر يتحدث –بقصد أو دون قصد- عن فئة صغيرة تكون قادرة على التأثير في فئات أكبر. والمهم في هؤلاء أنهم هم من يصنعون الهالة الضرورية حول الرجل حتى يسطع نجمه أكثر.
أفكار قابلة لـ”الالتصاق”
بالرغم من أن خاصية عدم الالتصاق ضرورية في أواني الطبخ، فإن انتشار الأفكار والمنتجات والشخصيات يستوجب قدرًا كافيا من الالتصاق، بحسب غلادويل، لا يمكن لأفكار أو ممارسات أو موضة لا تتسم بهذه الخاصية أن تتحول إلى “وباء” اجتماعي.
من السهل علينا أن نتذكر مرشحا ينوي إلغاء الانتخابات التشريعية مقابل مرشح يعدنا بأنه سيجعل حياتنا أفضل أو أنه سيخفض نسبة المديونية
ويتجلى “عامل الالتصاق” في حالة سعيد من خلال عنصرين اثنين. العنصر الأول هو أسلوب الخطاب الذي يعتمده سعيد حيث يشبهه البعض بالرجل الآلي –كما اشرنا سابقًا- لأنه يتحدث بتلك الطريقة المستمرة بذات النسق الواحد مهما كان الموضوع دون أن تظهر ملامحه أي رد فعل واضح. وذلك الأسلوب المختلف في إيصال الخطاب يجعله محل تندر لدى البعض أو محل انبهار لدى البعض الآخر ولكنه في الحالتين قابل للالتصاق مقارنة ببقية المترشحين المتشابهين كثيرًا في أسلوب حديثهم وحتى في المفردات التي يستخدمونها. كما أن استخدام العربية الفصحى مقابل الدارجة لدى بقية المترشحين واستخدام العربية لثماني سنوات في أي مداخلة يقدمها سعيد تجعل إمكانية عدم تذكر الرجل أمرًا صعبًا.
أما العنصر الثاني هو بطبيعة الأفكار التي يطرحها وهي أفكار ومقترحات غير تقليدية من ناحية، لأنها تأتي بنفس “ثوري” سيقلب منظومة الحكم رأسا على عقب بتفضيل السلطة المحلية على المركزية أو مقترحات مثل إلغاء الانتخابات التشريعية. واختلاف هذه الأفكار يجعلها قابلة للالتصاق أكثر من برامج ومشاريع أخرى لا تخرج عن النمطية والتكرار. فسر انتشار هذه الأفكار هو إمكانية تذكرها ونحن نميل أكثر إلى الاهتمام بالأشياء التي لم تطرح أمامنا من قبل مقابل الأشياء المكررة. وهنا لسنا في مجال لتقييم نجاعة هذه الأفكار من عدمه ولكن نشير فقط إلى أن هذه الأفكار تحتل لها مكانا في الذاكرة لأنها مختلفة. فمن السهل علينا أن نتذكر مرشحًا ينوي إلغاء الانتخابات التشريعية مقابل مرشح يعدنا بأنه سيجعل حياتنا أفضل أو أنه سيخفض نسبة المديونية. الاختلاف في الطرحين واضح جدًا وقدرة التصاق أفكار سعيد أعلى بكثير.
السياقات ..جاهزة
نأتي هنا إلى الضلع الأخير من المثلث الذي يفسر انتشار “الأوبئة الاجتماعية” وهو السياق. هل يمكن أن يؤثر السياق في انتشار ظاهرة أو الوقوف أمام ظاهرة أخرى؟ الإجابة بحسب غلادويل هي نعم. وفي حقيقة الأمر هي إجابة منطقية، وهنا يشير الكاتب إلى نظرية أخرى تسمى “نظرية النوافذ المحطمة” وهي تلخص تأثير السياق في الظواهر والسلوكيات. فالأمر مرتبط بخاصية من خاصيات المحيط تسمح بحدوث نقطة التحوّل من شخص عادي إلى الحصول على أكبر عدد من الأصوات في الدور الأول. هل كان يمكن لقيس سعيد أن يصعد في انتخابات 2014؟ الأرجح أن الإجابة هي لا. في حين أننا نتحدث هنا عن سياقيين متقاطعين يفسران تحصله على المرتبة الأولى في تونس.
ما هو أكثر تأثيرا فهو السياق الداخلي. والذي يفسر أن قيس سعيد لو ترشح في 2014 ما كان ليفوز. لأن السياق العام حينها كان قائما على الاستقطاب بين النموذج المجتمعي المحافظ إن لم نقل “الإسلامي” والنموذج الحداثي المنفتح
فمنذ تولي دونالد ترامب مسؤولية الرئاسة في الولايات المتحدة عرف العالم صعود عديد القيادات من خارج المنظومات التقليدية وهو ما سمي بالتيار “الشعبوي”. وفي فرنسا حيث يمكن للتونسيين النفاذ أكثر إلى التطورات في البلاد، صعد مرشح نأى بنفسه عن كل ما هو تقليدي في الأحزاب من خلال إنشاء حركة لا تنتمي إلى اليمين أو لا اليسار. وأصبح إيمانويل ماكرون رئيسا! ولكن بعد أشهر امتلأت الشوارع بأصحاب السترات الصفراء الرافضين لمنظومة الأحزاب بأكملها داعين الرئيس إلى أن يرحل، وليحكم الشعب.
هذا السياق الإقليمي، والدولي وإن لم يكن عاملًا مباشرًا، فإنه يجعل وقوع ما حدث في تونس ممكنًا، لأنه يتماشى مع موجة تعرفها عديد البلدان في العالم.
أما ما هو أكثر تأثيرًا فهو السياق الداخلي، الذي يفسر أن قيس سعيد لو ترشح في 2014 ما كان ليفوز. لأن السياق العام حينها كان قائمًا على الاستقطاب بين النموذج المجتمعي المحافظ إن لم نقل “الإسلامي” والنموذج الحداثي المنفتح، في حين يتعلق السياق الحالي بـ”غضب” تجاه الوجوه الحاكمة أو المعارضة نتيجة أزمة اقتصادية خانقة لم تضر في ما أضرت بالفقراء فقط بل بالطبقة المتوسطة وجعلتها تعي جيدًا أن خيارات الحكام تؤثر في يومياتها تأثيرًا مباشرًا. وفي لحظة ما بدا الحكام كالمعارضة جالسين حول طاولة واحدة –مثل المشهد الختامي من رواية “مزرعة الحيوانات” للكاتب الانقليزي جورج أورويل، يضربون كؤوسهم بعضها ببعض و”يضحكون على الشعب” في صورة تعكس ربما ما يدور في ذهن كل من انتخب غير هؤلاء.
لا يمكن لغلادويل وحده تفسير ما حدث في المحطة الأولى من السباق الرئاسي التونسي ولكنه يساعدنا في محاولة الإجابة عن أسئلة كثيرة سرعان ما طرحت يوم الأحد السادس من سبتمبر 2019 وما زالت تطرح. كيف ولماذا صعد قيس سعيد؟ وإن كنا هنا لا نطرح تفسير هذا الصعود انطلاقًا من محاولات فهم الماكينة الداعمة له -إن وجدت- بقدر ما نبحث في الأسباب التي دفعت من انتخبوا سعيد إلى انتخابه. فهو مرشح مختلف تمامًا وتحيط به مجموعة قادرة على جعل أفكاره أكثر قابلية للالتصاق وكان السياق مواتيًا لكل ذلك. ولكن “نقطة التحوّل” لا تبدو قادرة على تفسير فشل كل من لم يترشحوا إلى الدور الثاني ربما علينا هنا أن نقلب “عوامل التغيير” إلى عكسها.. عسانا نفهم ما حدث.