من المعروف أن العاصمة العثمانية “القسطنطينية” قد شهدت وفود العديد من الفنانين العالميين إليها، اعتبارًا من القرن الـ18. وكان هؤلاء يجسدون العاصمة في لوحاتهم وأشعارهم وكتاباتهم.
ووفقًا للباحثة فاطمة أوريكلي، فإن سبب وفود الفنانين وبالأخص الرسامين يعود إلى أن القسطنطينية كانت جاذبة دائمًا للفنانين الأوربيين من ناحية، ولأن البلاط العثماني كان لديه الرغبة أيضا في الاطلاع على الفنون الغربية، من ناحية أخرى.
وتذكر الباحثة سمرا جيرمانار في بحث لها بعنوان “المستشرقون في القصر العثماني” أن القرن الـ18 العثماني شهد علاقات قوية مع الغرب في مجالات عدة، ومن بينها الفن، حتى إن الباشاوات العثمانيون كانوا مولعين بشراء لوحات الفنانين الغربيين.
وبحسب الباحثة نيلوفار سوزان، في بحث لها حول الفن العثماني، فإن الفنانين الأوربيين الذين جاؤوا إلى إسطنبول في القرن الـ18 ينقسمون إلى ثلاثة أقسام؛ الأول الذين دعاهم القصر العثماني أو أحضرتهم سفاراتهم لتعريفهم بالقصر. الثاني: الذين جاؤوا بأنفسهم إلى إسطنبول واشتهروا بفنونهم في الدولة العثمانية. الثالث: الفنانون الذين هربوا من إمبراطورياتهم لأسباب سياسية وعاشوا في حمى الدولة العثمانية.
أحدى اللوحات للرسام الإيطالي لمدينة إسطنبول
وتضيف الباحثة نفسها أن أول الأشياء التي لفتت انتباه هؤلاء الفنانين ورسموها في لوحاتهم هي الأماكن التاريخية في إسطنبول، ومضيق البوسفور والجوامع الكبرى والأسواق والمقاهي.
وفي كتابها المعنون بـ”فاوستو زونارو”، تذكر الباحثة فاطمة أوريكلي أن القرن الـ19 شهد اهتمامًا كبيرًا بالرسم، وخصوصًا في عهد السلطان عبد الحميد، الذي كان مولعًا بالرسم بالزيت. كما عُرف عن السلطان اهتمامه بالرسامين وتقريبهم منه، ومن بينهم الرسام الإيطالي الشهير فاويتو زونارو.
ولد زونارو في إيطاليا عام 1854، وتعلّم الرسم لسنوات في إيطاليا، وكعادة الرسامين الغربيين الذين كانوا يحلمون بزيارة الأراضي العثمانية، قرر زونارو الانتقال إلى إسطنبول وانتقل إليها عام 1891 وأصبح معروفًا في الأراضي العثمانية في وقت قصير.
وبحسب الباحث عثمان أونبيش في بحث بعنوان “فاستو زونارو رسام القصر العثماني”، فإن شهرة زونارو جاءت نتيجة لاختلاطه بالفنانين والنخبة العثمانية، حيث كان بيته مركزًا ثقافيًا يجمع رجال النحبة آنذاك. وقد عُرف زونارو برسم البورتريهات بالإضافة إلى العديد من الرسومات لبرج جلاطة سراي.
أحدى اللوحات للرسام الإيطالي للجيش العثماني
وتذكر الباحثة نيلوفار سوزان أن زونارو في أول حياته بإسطنبول لاقى العديد من المضايقات من قبل الشرطة العثمانية آنذاك بسبب حبّه للرسم في الشارع، حيث كان يتجول بأدواته في شوارع إسطنبول ليرسم الأماكن التاريخية والمناظر الطبيعية. وفي تلك الفترة كان هناك عدد كبير من الرسامين الذين يسعون لتقديم رسوماتهم إلى السلطان للحصول على بعض المكافآت أو لكي يصبحوا رسامين في القصر العثماني.
وقد كان رئيس الرسامين في السراي في عهد السلطان عبد الحميد، رسامًا إيطاليًا أيضًا، وهو لويجي أكواروني، وكان مقربًا من السلطان، وبعد رحيله عام 1896 ظل منصبه فارغًا. وفي أحد الأيام رسم زونارو لوحة لـ”فوج فرسان أرطغرل” الذي أعجبه كثيرًا، وعندما رآها السلطان عبد الحميد أعجبته بشدة وجعل زونارو رسام القصر على الفور، ومنحه النيشان المجيدي، الذي كان يُعطى للأجانب الذين خدموا الدولة العثمانية.
وتضيف سوزان أن زونارو كان حديث عصره في الرسم، وبيته كان يشبه المعرض، وأنه كان يحصل على أكبر معاش من بين فناني القصر. وأثناء حرب الدولة العثمانية مع اليونان عام 1897، رسم زونارو لوحة بعنوان “هجوم” وعرضها على السلطان عبد الحميد، فأعجبته وأهدى لزورنارو بيتًا في حي باشكتاش.
وفقا للباحثة فاطمة أوريكلي، فإن زونارو طلب من السلطان عبد الحميد أن يرسم له بورتريها، لكن السلطان كان رافضا لهذا الأمر، لكن زونارو بذكائه استطاع إقناعه أخيرا
ويذكر عثمان أونبيش أن زونارو كان يعطي دروسًا في الرسم داخل القصر للأمراء وأبناء الباشاوات، ومن أبرز تلامذته جليلة هانم ابنة أنور باشا، وهي أول رسامة عثمانية. ومِهري مُشفق هانم، وهي من أبرز الرسامات العثمانيات أيضًا.
ووفقًا للباحثة فاطمة أوريكلي، فإن زونارو طلب من السلطان عبد الحميد أن يرسم له بورتريها، لكن السلطان كان رافضًا لهذا الأمر، لكن زونارو بذكائه استطاع إقناعه أخيرًا، حيث قال له إن جدك العظيم السلطان محمد الفاتح استدعى الرسام البندقي جنتيلي بلليني كي يرسم صورته وأنا أيضًا من أهالي البندقية وفي خدمتكم دائمًا، فأرجو من فخامتكم إظهار الرضا والقبول عن طلبي.
الصورة التي رسمها للسلطان عبدالحميد الثاني
وقد كان زونارو أول وآخر رسام يرسم السلطان عبد الحميد. كما ترى أوريكلي أن لوحات زونارو هي تجسيد لتلك المرحلة من عمر الدولة العثمانية في سنواتها الأخيرة، وخصوصًا لوحاته التي تجسد الأحداث التاريخية المهمة. حيث كان يصر على مشاهدة الأحداث عن قرب، كمراسم توديع موكب الصرة التي تُرسل إلى الحجاز، وانطلاق الجيش العثماني إلى الحرب.
أحدى اللوحات للرسام الإيطالي لمدينة إسطنبول
كما يرى الباحث سهيل أونفير في كتابه المعنون بـ”فاوستو زونارو” أن زونارو كان بمثابة الجسر الثقافي بين الدولة العثمانية وأوروبا. وأنه عاش ذروة عصره الفني أيام السلطان عبد الحميد، وقد تم إرساله إلى إيطاليا بعد الانقلاب على عبد الحميد حاملًا معه بعض لوحاته عام 1910.
وأخيرًا، يذكر المؤرخ مراد بارداكتشي في كتابه حول زونارو أنه بعد عودته إلى إيطاليا، التقى بالسلطان وحيد الدين الذي كان منفيًا هناك، ورسم بورتريها لآخر سلاطين بني عثمان. وجدير بالذكر أن زونارو، بحسب المؤرخ بارداكتشي، قد أرسل قبل وفاته في عام 1925 إلى مصطفى كمال أتاتورك، يعرض عليه شراء بورتريه السلطان عبد الحميد، لكن الرسالة لم تصل إلا بعد عامين، وهي موجودة اليوم في أرشيف مجلس الوزراء بأنقرة.
وجدير بالذكر أيضًا، أنه رغم وجود بعض الصور للوحة السلطان عبد الحميد، إلا أنها مفقودة حتى اليوم.