رغم مرور عقود على وقوعها، لا تزال مجزرة حماة، التي ارتكبها حافظ الأسد وشقيقه رفعت الأسد في عام 1982، حية في ذاكرة السوريين. يتذكرها الجميع في كل عام باعتبارها واحدة من أكثر الأحداث إيلامًا التي تركت بصمة عميقة على المجتمع السوري.
في فبراير الماضي، قام أهالي حماة بإحياء ذكرى المجزرة لأول مرة وذلك بعد سقوط نظام الأسد، حيث شارك الآلاف في إحياء الذكرى الثالثة والأربعين للمجزرة التي راح ضحيتها أكثر من 40 ألف قتيل، وأكثر من 100 ألف مفقود، وفقًا لاحصائيات الشبكة السورية لحقوق الإنسان.
لكن هذه المرة، كان التذكير بالمجزرة مختلفًا، حيث تم من خلال أبحاث علمية أجريت على ضحايا المجزرة وأحفادهم، وكشفت هذه الأبحاث نتائج غير متوقعة حول تأثيرات العنف على الأجيال المقبلة، إذ تبين أن المجزرة لم تترك فقط جراحًا نفسية، بل أيضًا تغييرات جينية تنتقل عبر الأجيال، مما يعكس التأثير العميق والطويل الأمد لهذه الأحداث على الجينات البشرية.
الصدمات النفسية تغيّر في أجسادنا
أجرى فريق من الباحثين من جامعتي فلوريدا وييل في الولايات المتحدة، إلى جانب الجامعة الهاشمية في الأردن، دراسة على الناجيات من مجزرة حماة مستندين إلى تحليل عشرات العينات، كشفت عن تأثيرات بعيدة المدى للعنف على الجينات البشرية، حيث أظهرت أن تعرض الأفراد لأشكال مختلفة من العنف يؤدي إلى تغييرات جينية لا تقتصر عليهم فحسب، بل تنتقل إلى أبنائهم وأحفادهم عبر الأجيال المتعاقبة.
توصل الباحثون إلى أن المجزرة لم تقتصر تداعياتها على الخسائر البشرية المباشرة، بل خلفت أثرًا عميقًا مخفيًا في جينات الناجين والناجيات، إذ أظهرت النتائج أن الأحفاد المولودين لنساء كنّ حوامل خلال فترة الحصار ـ رغم أنهم لم يعيشوا تلك الأحداث بأنفسهم ـ يحملون في جينوماتهم بصمات واضحة لهذا العنف.
وتشير هذه العلامات الجينية، التي انتقلت عبر أمهاتهم، إلى دليل بشري هو الأول من نوعه على ظاهرة لم يكن توثيقها متاحًا سابقًا إلا في عالم الحيوان: انتقال التأثيرات الجينية الناتجة عن الإجهاد والصدمة عبر الأجيال.
يتفق الباحثون حول العالم على أن تجارب البشر الجيدة والسيئة لا تؤدي بشكل كامل إلى تغييرات في شيفرتنا الجينية، فيما باتوا قادرين من خلال هذه الدراسة التأكيد على أنها قادرة على التأثير في طريقة عمل جيناتنا من خلال آلية تُعرف بـ “الوراثة فوق الجينية”، فعند التعرض للإجهاد أو لمواقف صادمة، تستطيع خلايانا تعديل نشاط الجينات بإضافة علامات كيميائية دقيقة، مما يؤدي إما إلى تهدئتها أو تغيير سلوكها.
وتُعتبر هذه التعديلات وسيلة تكيفية تساعد الجسم على التعامل مع البيئات المجهدة، مع العلم أن آثارها لا تزال غير مفهومة بشكل كامل حتى الآن.
وفي هذا السياق، ركزت المؤلفة الرئيسية للدراسة كوني موليجان، أستاذة الأنثروبولوجيا في معهد علم الوراثة بجامعة فلوريدا وفريقها على البحث عن هذه العلامات الكيميائية في جينات العائلات السورية.
وبينما أثبتت التجارب المخبرية إمكانية انتقال التغيرات الجينية المرتبطة بالإجهاد عبر الأجيال في الحيوانات، فيما ظل إثبات حدوث الظاهرة نفسها لدى البشر تحديًا بالغ الصعوبة، حتى إجراء هذه الدراسة.
شاركت في هذه الدراسة الدكتورة رنا دجاني، العالمة الأردنية من أصول فلسطينية، والمتخصصة في علم الأحياء الجزيئي في الجامعة الهاشمية بالأردن.
وتتمتع دجاني بسيرة علمية حافلة بالإنجازات، وخلال بحثها، تابعت ثلاثة أجيال من المهاجرين من مدينة حماة في الأردن، ممن فروا من المدينة عقب انتهاء الحصار بفترة زمنية قصيرة، إلى جانب عائلات أخرى شهدت أحداثًا مشابهة خلال سنوات الثورة السورية.

قام فريق البحث بجمع عينات من الجدات، والأمهات الحوامل خلال حصار حماة، بالإضافة إلى عينات من أطفالهن، مما أتاح لهم دراسة تأثير التعرض للعنف في مراحل نمو مختلفة.
كما شملت الدراسة مجموعة ثالثة من العائلات التي هاجرت إلى الأردن قبل عام 1980، أي قبل وقوع أحداث حماة، مما جعلها مجموعة ضابطة يمكن مقارنتها بالعائلات التي تعرضت لعنف نظام الأسد.
وعملت دجاني بشكل وثيق مع هذه العائلات، معتمدةً على مستوى عالٍ من الثقة والمتابعة لضمان مشاركتهم الفعالة في الدراسة. ومن خلال هذا التعاون، تمكن الفريق من جمع عينات بيولوجية من 138 شخصًا ينتمون إلى 48 عائلة، مما وفر قاعدة بيانات غنية للتحليل الجيني.
بعد تحليل دقيق للحمض النووي، بحثًا عن تعديلات وراثية قد تكون مرتبطة بتجربة العائلات السورية مع العنف. أسفر البحث عن اكتشاف 14 منطقة معدلة في الجينوم لدى أحفاد الناجين من مجزرة حماة، وهي تعديلات ظهرت استجابةً للصدمات التي تعرضت لها جداتهم.
ويعد هذا الاكتشاف دليلًا قويًا على أن التغيرات الجينية الناتجة عن الإجهاد والصدمات يمكن أن تنتقل عبر الأجيال، تمامًا كما ثبت حدوثها في الدراسات السابقة على الحيوانات.
شيخوخة مبكرة
كشفت الدراسة أيضًا عن 21 موقعًا جينيًا متأثرًا لدى الأشخاص الذين تعرضوا للعنف بشكل مباشر في سوريا، ما يشير إلى أن التجربة القاسية تترك بصمة واضحة على جيناتهم.
وفي اكتشاف آخر، وجد الباحثون أن الأفراد الذين تعرضوا للعنف وهم لا يزالون أجنة في بطون أمهاتهم أظهروا علامات على شيخوخة جينية متسارعة، وهي حالة من التقدم البيولوجي في العمر قد تزيد من خطر الإصابة بأمراض مرتبطة بالشيخوخة.
ومن المثير للاهتمام أن معظم هذه التغيرات الجينية اتبعت نمطًا مشتركًا بعد التعرض للعنف، مما يشير إلى أن الجسم قد يستجيب بطريقة جينية موحدة للصدمة.
ولا تقتصر هذه الاستجابة على الأفراد الذين تعرضوا للإجهاد بشكل مباشر، بل يمكن أن تمتد إلى الأجيال القادمة، مما يعزز الفكرة القائلة بأن تأثير الصدمات قد يكون وراثيًا عبر الأجيال.

وأكدت الباحثة موليجان على أهمية هذه النتائج، قائلة: “نعتقد أن بحثنا لا يقتصر على تأثير العنف على اللاجئين فقط، بل يشمل جميع أشكال العنف: المنزلي، الجنسي، والمسلح. هذه الظواهر موجودة أيضًا في الولايات المتحدة، وعلينا دراستها وأخذها على محمل الجد.”
ورغم أهمية هذه التغيرات الجينية، لا يزال من غير الواضح كيف يمكن أن تؤثر على حياة من يحملونها. لكن بعض الدراسات السابقة أشارت إلى ارتباط التغيرات الجينية الناتجة عن الإجهاد بزيادة خطر الإصابة بأمراض مثل السكري، ما يفتح الباب أمام مزيد من الأبحاث لفهم تداعيات هذه التحولات على الصحة.
وأضافت موليجان: “أرادت هذه العائلات أن تُروى قصتهم، وأن تُسمع تجاربهم. وأعتقد أننا عملنا بالفعل مع كل عائلة مؤهلة للمشاركة في هذه الدراسة”.
مشيرًة إلى أن نتائج هذه الدراسة “من شأنها أن تساعد الناس على أن يكونوا أكثر تعاطفًا، وأن تساعد صناع السياسات على إيلاء المزيد من الاهتمام لاستخدام العنف. بل وقد تساعد حتى في تفسير بعض دورات الصدمات التي تبدو غير قابلة للكسر بين الأجيال من ضمنها الإساءة والفقر والاغتصاب وكل الانتهاكات التي نراها في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة”.
أحداث حماة
وقعت مذبحة حماة عام 1982 وتم فيها تسوية أحياء كاملة بالأرض، وقضي على عدد كبير من السكان، وزج بالآلاف من الشباب في مراكز الاعتقال والسجون العسكرية، كما فرّ العديد من أبناء العائلات الحموية الكبيرة وشقوا طريقهم في مجتمعات الشتات ببلاد مختلفة، في حين لا يعرف حتى يومنا هذا مصير 17 ألفًا تم اعتقالهم آنذاك.
كما أخضع جيش الأسد، الناجين في المدينة أو من لم يستطع الهروب للاستجواب في معسكرات اعتقال مؤقتة أقامتها المخابرات، وبحسب شهادة بعض المعتقلين، فإن النظام استخدم طرق تعذيب جسدية ونفسية شبيهة بوسائل تعذيب محاكم التفتيش في إسبانيا، كان يُعرض لها أي سجين يتردد في الكلام.

ووفقًا لمنظمة العفو الدولية فإن النظام السوري البائد أدخل حاويات “غاز السيانيد” إلى المدينة، وتم ربطها بأنابيب مطاطية بمداخل المباني التي اعتقد أنها تؤوي المتمردين، ثم تم تشغيلها، ما أدى إلى مقتل كل من بداخل هذه المباني. بجانب أن جنود النظام سرقوا محتويات منازل أهل حماة وممتلكاتهم التجارية وبيعت في أسواق خاصة.
تكشف هذه الدراسة أن الصدمات ليست مجرد تجارب نفسية، بل هي محفورة بيولوجيًا، تُعيد تشكيل طريقة عمل أجسادنا بطرق قد لا ندركها تمامًا بعد. وإن كانت هذه النتائج العلمية تفتح الباب أمام فهم أعمق لتبعات العنف، فإنها تضع أيضًا مسؤولية أخلاقية على عاتق المجتمعات وصناع القرار.