منذ تأسيس الجمهورية التركية، اتبعت تركيا سياسة اللامبالاة تجاه الشرق الأوسط، فلم تكن بلدان هذه المنطقة ضمن أولوياتها ولم تبذل أي مجهود للتواصل معها، إذ كانت تلخص علاقتها معها بمثل تركي شهير يقول: “لا حلويات من دمشق، ولا وجه العرب”، لكن في المقابل ظهرت بعض الاستثناءات المعدودة مثل الأردن التي تربطها بها علاقة وثيقة يعود تاريخها إلى فترة الثلاثينيات.
علاقة اتسمت بالاستقرار حتى يومنا هذا، فإذا قفزنا بالزمن حتى أمس، نسمع خبر توقيع اتفاقية تعاون تجاري واقتصادي بين تركيا والأردن، توثيقًا للعلاقات الثنائية القديمة وتعزيزًا للخطط الاستثمارية والمصالح المشتركة. من المتوقع أن يشمل التعاون 16 مجالًا، بما في ذلك تنظيم زيارات متبادلة للوفود التجارية وممثلي مجتمع الأعمال ونقل المعرفة والتكنولوجيا وتبادل الخبرات وتحرير هذا التعاون من العراقيل. كما تأتي هذه الاتفاقية استكمالًا لنحو 40 اتفاقية وبروتوكول تعاون. فكيف وصلت العلاقات بين تركيا والأردن إلى هذا المستوى من الاستقرار والازدهار؟
بدايات التقارب التركي الأردني
تلاقت الطُرق عقب حرب الاستقلال التركية عام 1937، حين كان مؤسس الجمهورية، أتاتورك، على علاقة وثيقة بالملك عبدالله الأول الذي كان أول زعيم عربي يزور تركيا بعد أشهر من حصول المملكة على استقلالها من الانتداب البريطاني، ممهدًا الطريق للعديد من الاتفاقيات الاقتصادية والدبلوماسية، كان أولها عقد صفقة “الصداقة والتعاون” عام 1947، بين الملك عبد الله الأول ورئيس الجمهورية آنذاك عصمت إينونو.
احتفظت كل من الأردن وتركيا بنفس وجهات النظر المؤيدة للغرب والمناهضة بشدة للشيوعية ونظام الحكم الإسلامي المتشدد في إيران وازدياد دورها في المنطقة، وامتد هذا التوافق في قضايا وشؤون أخرى، وتحديدًا فيما يخص القضية الفلسطينية والثورة السورية
تبعها بأشهر معدودة، افتتاح أول سفارة تركية في عمان وزيارات متعددة للملك الراحل عبد الله ثم الملك حسين، وغيرهم من المسؤولين، كإشارة إلى عزم البلدين على تعميق العلاقة، ولا سيما بعد زيارة الملك عبدالله لتركيا عام 1951 واجتهاده في لفت انتباه انقرة للملفات الإقليمية والدولية التي تجمع بينهما وتزيد موقفهم قوةً، وهو ما تحقق تدريجيًا ورأيناه على مدار السنوات الماضية.
ففي سنوات الحرب الباردة، احتفظت كل من الأردن وتركيا بنفس وجهات النظر المؤيدة للغرب والمناهضة بشدة للشيوعية ونظام الحكم الإسلامي المتشدد في إيران وازدياد دورها في المنطقة، وامتد هذا التوافق في قضايا وشؤون أخرى، وتحديدًا فيما يخص القضية الفلسطينية التي تجاوزت أواصر السياسة الخارجية وباتت تمثل بعدًا تاريخيًا وأيديولوجيًا للشعب التركي. الأمر نفسه ينطبق على الأردن، حيث توجد أعداد كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين حاملي الجنسية الأردنية، عدا عن كونها الوصي الرسمي على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس المحتلة.
كما تلتقي الأردن وتركيا في مخاوفها بشأن وضع القدس وانتقاداتهم لحكومة الاحتلال الإسرائيلي وممارساتها القمعية على الشعب الفلسطيني. على سبيل المثال، تشاطرت كل من أنقرة وعمان الموقف معارضة قرار الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بالاعتراف بالقدس كعاصمة للاحتلال وغيرها من المواقف التي تبين اهتمامهم بالقضية الفلسطينية.
شركاء في تحالفات عسكرية عربية مثل التحالف الإسلامي العسكري بقيادة الرياض، إضافة إلى انضمامهم سابقًا للتحالف الدولي بقيادة أمريكا من أجل التخلص من تنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا.
أما في فترة الربيع العربي الذي غير وجه المنطقة وكانت الثورة والحرب في سوريا جزءًا منه، وهي الجارة المباشرة لكليهما، أدرك الطرفين أن وقوعهما في ميدان النزاعات الإقليمية والدولية يتطلب تعاونًا مشتركًا، وبما أنهما على نفس الصفحة بسبب التهديدات الأمنية الناجمة عن هذه الحرب، التزمت كل من تركيا والأردن بتحمل أعباء ثقيلة، فرغم غياب التعاون الصريح بينهما بشأن سوريا، إلا أن الواقع يقول بأنهما أكثر الدول تحملًّا لأعباء أزمة اللجوء. حيث تستضيف الأردن حاليًا ما يقرب من مليوني لاجئ سوري، في حين أن تركيا تحتضن ضعف هذا الرقم، مما يجعلها أكبر بلد مضيف للاجئين السوريين.
لكن الفجوة الأولى حدثت في إدارة ملف الإخوان المسلمين، فلقد عبرت عمان مرارًا بأنها لا تشعر بالراحة إزاء الدعم التركي للحركة في سوريا ومصر، وفي حادثة أخرى، أشارت صحيفة ميدل إيست آي إلى اتهام العاهل الأردني، عبد الله الثاني بن الحسين، تركيا بتصدير الإرهابيين إلى أوروبا، موضحًا بأن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، يؤمن بـ “الحل الإسلامي الراديكالي في المنطقة”. وحينها لم يصدر أي تصريح رسمي من الحكومة التركية ولكن الفتور الذي أصاب العلاقات في تلك الفترة كان واضحًا.
يتمثل دورهما بشكل كبير في ضمان استقرار المنطقة وحل أزماتها الاقتصادية والسياسية ومكافحة التنظيمات الإرهابية المسلحة التي تزعزع أمن الدول المجاورة لها وتعطل العجلة الاقتصادية فيها
إلا أن محاولة الانقلاب الفاشلة التي وقعت عام 2016 في تركيا، أعادت الود القديم بين الجانبين بعدما أعلن سفير عمان بأن بلاده تقف بجانب حرب تركيا ضد الإرهاب وتساندها في موقفها تجاه تنظيم فتح الله غولن، إذ سرعان ما أغلقت الحكومة الأردنية المدرسة الوحيدة التابعة لتنظيم في الأردن.
وبذلك، فإن دورهما يتمثل بشكل كبير في ضمان استقرار المنطقة وحل أزماتها الاقتصادية والسياسية ومكافحة التنظيمات الإرهابية المسلحة التي تزعزع أمن الدول المجاورة لها وتعطل العجلة الاقتصادية فيها، ولذلك نجدهم شركاء في تحالفات عسكرية عربية مثل التحالف الإسلامي العسكري بقيادة الرياض، إضافة إلى انضمامهم سابقًا للتحالف الدولي بقيادة أمريكا من أجل التخلص من تنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا. على الصعيد الدولى، استطاعا حجز مساحة كفاية على المسرح الدولي، إذ تعتبر الأردن حليفًا للولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، بينما تكتسب تركيا هذه الأهمية من كونها عضو أساسي في حلف الناتو.
ما الذي جمع الأردن وتركيا على طاولة واحدة؟
منذ بداية الرحلة، اتسمت العلاقات بالوفاق الإيديولوجي والسياسي، وترجم ذلك إلى علاقات اقتصادية وتعاونات عسكرية متواصلة، إذ تعاقدت الأردن مع الشركة التركية “تي آي أيه” عام 2009 لتطوير 17 طائرة مقاتلة متعددة الأدوار، وصاحب ذلك تدريب مئات من الضباط الأردنيين.
رأت الأردن بأن اتفاقية التجارة الحرة تضر بالاقتصاد الأردني، بسبب عجز الميزان التجاري، فمنذ عام 2011 وحتى 2017، ارتفعت واردات الأردن من تركيا بنسبة 23%، في حين زادت الصادرات الأردنية إلى تركيا بنسبة 3% وفق البيانات الأردنية.
في نفس العام، وقع الجانبان اتفاقية للتجارة الحرة أثمرت نشاطات مختلفة في مجال المقاولات والمياه، إذ وصلت استثمارات تركيا في المملكة نحو 2.2 مليار دولار. إلى جانب ذلك، دخل قرار “إلغاء التأشيرة بين البلدين” حيز التنفيذ، وبموجبه تم تسيير رحلات طيران مباشرة بين إسطنبول وعمان، وبين أنقرة وعمان، ما ساهم في تعزيز قنوات التواصل بين رجال الأعمال الأردنيين والأتراك.
توقيع اتفاق إعلان نوايا بين الأردن وتركيا حول عام التبادل الثقافي 2020
ولكن اتفاقية التجارة الحرة ألغيت عام 2018 بعد أن رأت الأردن بأنها تضر بالاقتصاد الأردني، بسبب العجز التجاري، حيث تزايد حجم واردات السلع التركية، بينما عانت الصادرات الأردنية في المقابل من الركود والانخفاض. فمنذ عام 2011 وحتى 2017، ارتفعت واردات الأردن من تركيا بنسبة 23%، في حين زادت الصادرات الأردنية إلى تركيا بنسبة 3% وفق البيانات الأردنية.
وقع الطرفان اتفاقية للتعاون التنموي عام 2015، تم بموجبها افتتاح مكتب رسمي لوكالة التعاون والتنسيق التركية “تيكا” في الأردن، المسؤول الرسمي والرئيسي على راعية وتنسيق المشاريع التي تديرها تركيا خارج حدودها
ما أدى إلى إعادة فرض رسوم جمركية على السلع التركية بنسبة تتراوح بين 20% و30%. ومع ذلك، بحسب”قناة المملكة”، قال مجلس إدارة غرفة تجارة عمّان إن إلغاء اتفاقية التجارة الحرة مع تركيا كان “قراراً خاطئًا ومتسرعًا”، كما قال السفير كراجوز، “كان الأجدى تعديل الاتفاقية وتصحيح أي خلل إن وجد لحماية صناعات محلية معينة، وليس إلغاء الاتفاقية بشكل كامل والتي استمر التفاوض عليها 5 سنوات بين حكومتي البلدين”، ما يفسر سبب اجتماع البلدين مجددًا لعقد اتفاقيات جديدة.
على المستوى الثقافي، وقع الطرفان اتفاقية للتعاون التنموي عام 2015، تم بموجبها افتتاح مكتب رسمي لوكالة التعاون والتنسيق التركية “تيكا” في الأردن، المسؤول الرسمي والرئيسي على راعية وتنسيق المشاريع التي تديرها تركيا خارج حدودها ولا سيما المشاريع الناشئة والمبادرات الشبابية، كما أنها تقدم برامج المنح والمساعدات الفنية والإنسانية.
لحق هذه الخطوة إعلان عن اتفاقية “2020 عامًا للتبادل الثقافي بين البلدين”، التي تهدف إلى تطوير التعاون الثقافي وتكثيف الأنشطة في هذا المجال من خلال تنشيط السياحة وتبادل الأفكار والمحاضرات والمؤلفات وغيرها من المشاريع التي تهدف إلى ترميم قطاع التعليم.
وبين حاجة الاقتصاد الأردني للخبرات والمقومات التركية، وتنامي المصالح التركية الاستراتيجية في دول الشرق الأوسط، تظل تقاطعات عمان وأنقرة في مواقفهم السياسية وقلقهم المشترك أساس علاقتهم التي امتدت لأكثر من 70 عامًا.