لم تكن سوريا قبل الثورة بعيدة عن سيناريو الاغتيالات بحق معارضين وناشطين وصحفيين معادين لحكم نظام العائلة الأسدية منذ عهد الأب حتى الابن، إذ كان استخدام النظام السوري للاغتيالات الفردية جزءًا من السياسة العامة لحكمه وليس بعيدًا عن النهج الذي يتبعه في فرض سيطرته على البلاد، فقد جعل الاغتيالات طريقة لحسم نزاعاته ومشاكله السياسية سواء كانت داخلية أم خارجية غير مراعٍ إلا سلامته وأمنه.
كان للأسد الكثير من الداعمين والحلفاء الذين يساعدونه على إتمام خططه دون تعريضه للمساءلة هو وسياسته، إذ حظي بدعم سوفيتي وأمريكي وعلاقات واسعة مع “حزب الله” واتفاقات ضمنية مع “إسرائيل” تمكّنه من فعل ما يريد، بوجود غطاء داعم موثوق. بدايةً من اغتيال رفيق الحريري وكمال جنبلاط، ومرورًا باغتيال ناشطين بسيطين على الصعيد الشعبي، كانت هذه الاغتيالات تنفذ لسنوات طويلة على يد دائرة ضيقة مقربة من النظام ومن ضباط وأفراد موثوقين ومدربين خصيصًا للقيام بمهمات كهذه ينتمي بعضهم إلى أحد أفرعه الأمنية أو حتى باستخدام بعض عناصر “حزب الله”.
عاد صدى هذا السيناريو بالتردد في السنتين الأخيرتين في ظل الغياب الأمني والسيلان غير المحدود للخلايا المسلحة في عدة أماكن سواء في الشمال المحرر كإدلب وحماة ومناطق درع الفرات وأيضًا بعض الأماكن التي تقع تحت سيطرة النظام مثل درعا وحمص، في حين يغيب منفذو الهجوم ويظهرون أحيانًا بين تبني من النظام أو من الفصائل المسلحة الأخرى.
أما الآن فلا تنجو منطقة في سوريا من مواجهة شبح الاغتيالات المتكرر في كل أرجاء البلاد الذي بات وجوده طبيعيًا في ظل الوضع المتغير، فقد وقعت اغتيالات عديدة في العاصمة دمشق ومثلها في درعا وشرق الفرات حين انفجرت عبوة ناسفة في 2 من أغسطس 2018 أمام السفارة الإيرانية في منطقة المزّة ليتبيّن فيما بعد أن المستهدف سيارة لتاجر فلسطيني سوري يدعى أيهم عساف، معروف بقربه من حكومة النظام السوري، وقد أثارت هذه الحادثة الكثير من التساؤلات عن المنفذ رغم الاحتياطات الأمنية الشديدة التي يفرضها النظام على العاصمة، وفي منتصف يوليو 2018، استهدفت عبوة ناسفة سيارة نائب قائد الشرطة العسكرية المدعومة من تركيا في منطقة الراعي على الحدود السورية التركية، مما أسفر عن إصابته بجراح بالغة ومقتل ابنه في مكان الحادث.
يبدو أن عودة سيناريو الاغتيالات في سوريا لم يكن مفاجئًا، فقد بدأت ملامحه تتضح أكثر منذ مطلع العام الماضي وصولًا إلى شهر يوليو الماضي.
عام 2018
حسب قراءة أولية للاغتيالات التي حدثت في سوريا خلال عام 2018 يمكن بسهولة ملاحظة انتشارها في مناطق المعارضة والفصائل المسلحة أكثر من غيرها، فقد شهدت منطقة إدلب وما حولها ازديادًا ملحوظًا في معدلات الاغتيالات المحلية لتعكس صورة عن غياب الضبط الأمني، فقد وقعت 214 محاولة اغتيال في شهر مايو/أيار فقط، تركزت أغلبها في مدينة إدلب التي تشهد تغيّرًا دائمًا في سيطرة القوى الفاعلة، فقد جاءت في المرتبة الأولى من بين أكثر المناطق استهدافًا، إذ وقع فيها 164 محاولة، تلتها محافظة حلب بـ33 محاولة، ثم درعا في المرتبة الثالثة بـ10 محاولات، لتتوزع بقية الأعداد على عدة محافظات أكثرهم حمص ثم حماة وريف دمشق.
وبيّنت الأرقام المسجلة أن الجزء الأكبر من المحاولات التي حدثت كان بمناطق تخضع لنفوذ وسيطرة هيئة تحرير الشام، فبلغت نسبتها 68% من المجموع العام، بينما بلغت نسبة تلك التي وقعت في مناطق سيطرة فصائل معتدلة (إسلامية، جيش حر) 28%، ولم تتوافر أيّ معلومات عن أسباب هذه العمليات ولا مسببيها، بينما شكّل استخدام الطلق الناري والعبوات الناسفة أكثر الطرق المستخدمة حتى الآن، فوصلت إلى 120 حالة، مما يعني زيادة عوامل التدهور الأمني وغياب مؤشرات الاستقرار المشجعة للبقاء في المنطقة بالنسبة للعائلات والمدنيين، وهو ما سينعكس حتمًا على الواقع الأمني وسياسات التعافي المبكر.
فلم تشهد المنطقة تحسنًا ملحوظًا في النصف الأخير من العام بل سجلت المحاولات التي نفذت نجاحًا بنسبة 26% زيادة عن النصف الأول من عام 2018، بينما حدثت 20 محاولة في منطقة غصن الزيتون “عفرين” و46 محاولة في مناطق درع الفرات التي من المفترض أن تكون أكثر ضبطًا من غيرها بسبب وجود الضامن التركي، إضافة إلى 93 محاولة في باقي مناطق إدلب وما حولها تكللت كلها بالنجاح، وتعتبر داعش والتنظيمات الكردية الأخرى المشتبه الأول.
فيما عرف شهر أكتوبر 2018 بأكثر الأشهر استهدافًا لقيادات معروفة في صفوف الهيئة أغلبهم أعضاء في التيار الأجنبي المعروف بأنه الأكثر تشددًا الذي أبدى اعتراضًا واضحًا على اتفاق إدلب الأخير، حيث بلغ مجموع المحاولات 26 محاولة نفذ منها 18 في إدلب و6 في حلب ومحاولتين في حماة، واستهدِفت هيئة تحرير الشام منها بـ17، والجهات المدنية بـ5 حالات ثم الجبهة الوطنية للتحرير بـ4 حالات.
عام 2019
بذلت عدة جهات تعمل على حفظ الأمن في المنطقة جهود جيدة خلال عام 2019، لكن منذ بداية شهر فبراير حتى يوليو الماضي، فإن النتائج لم تكن فارقة على الإطلاق بل على العكس، فقد شهدت هذه الفترة ارتفاعًا في عمليات الاغتيال مقارنة بما كان عليه الوضع العام الماضي، إذ بلغت محاولات الاغتيال 91 محاولة خلال أول ثلاثة أشهر من السنة، بينما وقعت 96 عملية في مناطق عفرين وما حولها، إضافة إلى 52 محاولة في مناطق إدلب، مقابل 86 محاولة في “درع الفرات” خلال 6 أشهر نجح منها 29 في تصفية الجهة المستهدفة، بينما فشلت 57 بعد نجاة الطرف المُستهدَف، وكانت فصائل المعارضة المعتدلة هدفًا لتلك الاغتيالات بواقع 65 محاولة، مقابل 21 محاولة استهدفت جهات مدنية.
فيما كان هناك تنوع في الأدوات والأساليب المستخدمة لتنفيذ العمليات، إذ شكلت العبوات الناسفة 89% من مجمل المحاولات التي تمت، بينما كان استخدام الطلق الناري بنسبة 9%، في حين استخدمت القنبلة اليدوية كأداة اغتيال بواقع 2%، إلا أن غرفة عمليات “غضب الزيتون” كانت من أكثر الجهات النشطة في تبني عمليات الاغتيال ضمن مناطق “درع الفرات” بنسبة 69% وهو ما لم يكن واضحًا بهذه الكثرة العام الماضي.
وفي محافظة إدلب بلغ عدد المحاولات ما يقارب 52 محاولة تكلل منها 29 محاولة بالنجاح، بينما فشلت 23 عملية بنجاة المستهدف، وهو ما يعني وجود تحسن ملحوظ عن العام الماضي الذي بلغت نتائجه 60 محاولة اغتيال خلال 3 أشهر فقط.
يتوزع مسلسل الاغتيالات في مناطق الشمال بالتحديد حسب الجهة أو الفصيل المسيطر على المنطقة، وإن فصّلنا نجد أن الفصائل الجهادية هذه السنة كانت على رأس قائمة الاستهداف، بواقع 23 عملية بينما كانت الفصائل المعتدلة هدفًا لـ12 محاولة، في حين تم استهداف جهات مدنية بواقع 17 مرة.
أما بالنسبة لأدوات التنفيذ، فقد اعتمدت عمليات الاغتيال المنفذة في محافظة إدلب على العبوات الناسفة في 32 محاولة من مجمل المحاولات الـ52 المرصودة، بينما نُفِذت 20 مرة عبر الطلق الناري، وبقيت الجهات المسؤولة مستهدفة حتى الآن إلا أنه كان هناك اتهامات كثيرة بضلوع عناصر من هيئة تحرير الشام في تنفيذها.
أما في مناطق نفوذ فصائل “الجبهة الوطنية للتحرير” فقد أتت الأرقام بانخفاض جيد، إذ اقتصرت على 10 عمليات خلال أول ستة أشهر من السنة، وهو ما يشير إلى تحسن أمني واضح ضمن مناطق سيطرة الجبهة بالمقارنة مع سابقاتها من المناطق، ولكن بنفس الوقت فإن أغلب تلك العمليات استهدفت قيادات عسكرية في الجبهة.
درعا آخر الأهداف
لطالما شكّلت مدينة درعا شوكةً في حلق نظام الأسد منذ قيام الثورة حتى يومنا هذا، فما لبث أن فعل كل ما باستطاعته لإعادة فرض سيطرته عليها وإعادة تمثال الأب حافظ إلى مكانه دلالة على عودته للمنطقة في يوليو 2018 بعد اتفاق المصالحة بين روسيا والمعارضة، إلا أن الوضع الأمني لم يشهد تقدمًا يذكر، فقد اعتبر شهر سبتمبر الماضي أكثر أشهر الاغتيالات منذ سيطرة قوات النظام على البلد، وذلك حسب توثيقات مكتب “توثيق الشهداء في درعا”، فيقول تقرير إن شهر سبتمبر/أيلول 2019 سجّل 38 عملية ومحاولة اغتيال، أدت إلى مقتل 21 شخصًا وإصابة 14 آخرين، في حين نجا ثلاثة أشخاص من محاولات اغتيالهم.
بينما تختلف تصنيفات المستهدفين بين مقاتلين كانوا في صفوف المعارضة سابقًا ومدنيين لا توجد معلومات عن طبيعة نشاطهم، فقد وثق المكتب مقتل 3 من المعارضين السابقين في المدينة على أيدي النظام. أما مكان العمليات فتوزعت بين 28 عملية في ريف درعا الغربي، و6 في ريف درعا الشرقي، وثلاث عمليات في وسط المدينة، كما تم تسجيل ما لا يقل عن 22 معتقلاً ومختطفًا في ظل تصاعد وتيرة العمليات الأمنية في المحافظة وغيرها من المناطق.
ومن أبرز الأسماء التي تم اغتيالها في شهر أبريل الماضي دون معرفة هوية المنفذ: إبراهيم محمد غزلان قائد سابق في الجيش الحر والقيادي السابق في جيش المعتز محمد نور زيد البردان وأحمد حكمت حمورة شرطي منشق قتل في السجن فرع فلسطين ورائد الحريري إمام وخطيب مسجد وماجد خليل العاسمي ناشط إعلامي.
نهايًة إن كانت هذه الأرقام كلها تدّل على شيء فهي تدل على أن التدهور الأمني يزداد سوءًا في كل المناطق القابعة تحت سيطرة النظام أو الفصائل المسلحة أو الحماية التركية على حد سواء، بالإضافة إلى فشل هذه القوى في تطوير أدواتها وتمكين قدرتها للحدّ من هذه العمليات وكشف ملابساتها ومسبباتها، وتفشي الفلتان الأمني الذي سينعكس حتمًا على حياة المدنيين والاستقرار في المنطقة بينما تعود مسبباته لانتشار ميليشيات وفصائل وحتى أفراد مسلحة تتبع لتنظيم “داعش” أو لاستخبارات النظام من جهة، مما يظهر شكلًا جديدًا خطرًا لاقتتال داخلي نوعي يصل إلى استهداف المدنيين، ووجود حرب اغتيالات هادئة لا يمكن تفسيرها إلا على أنها حرب سلطة تهدف إلى كسب المناصب وإحكام السيطرة.