ترجمة وتحرير نون بوست
ما هي الحكمة؟ في محاولة للتطرق إلى هذا السؤال، تجادل الفيلسوفة شارون ريان من جامعة وست فرجينيا، انطلاقا من مقولة سقراط الشهيرة: “الحكمة الحقيقية الوحيدة هي معرفة أنك لا تعرف شيئًا”، بأن سقراط ربما حدّد تعريفا للحكمة على أنها تواضع معرفي، وهو مفهوم يشير إلى أن المرء يُعتبر حكيما إذا كان يعتقد أنه لا يتمتع بالحكمة.
لكن حسب اعتقاد ريان، ربما يوجد تأويل بديل لفكرة سقراط يتمثل في أن الحكمة هي دقة معرفية، لأن المرء يكون واسع المعرفة فقط عندما يكون بالفعل كذلك. وعلى هذا الأساس، تكمن الحكمة في دقة المعتقدات. أنت حكيم إذا كنت تعتقد فقط أنك تعرف ما تعرفه بالفعل.
حسب ريان، قد تكون هناك مقاربة بديلة للحكمة، حيث لا يكفي معرفة ما تعرفه، وإنما ينبغي عليك أيضا أن تعرف الكثير. لذلك، قد نختار نظرية هجينة يكون فيها الشخص الحكيم هو من يملك معرفة واسعة بالإضافة إلى بعض المعتقدات غير المبررة. ولكن، تتجاهل هذه الصيغة مسألة النجاح وعيش حياة جيدة. بديهيا، يمكننا جميعًا أن نتصور شخصا ذو معرفة واسعة، ولديه القليل من المعتقدات غير المبررة أو الخاطئة، ومع ذلك فهو غير قادر على النجاح في الحياة.
لذلك، يبدو أن اختبار الحكمة يتمثّل في نجاح المرء في أن يحظى بحياة جيدة. ويبقى السؤال المطروح: من الذي يحدّد تعريف “جيد” في هذا السياق؟ قال أرسطو: “من الواضح أنه من المستحيل أن تكون حكيما على الصعيد العملي دون أن تكون جيدًا”. من المحتمل أن أغلب الفلاسفة والأشخاص العاديين الذين تناولوا مسألة الحكمة ضمّنوا الفضيلة الأخلاقية كجزء لا يتجزّأ من تعريف الحياة الجيدة.
في المقابل، قد يجادل فلاسفة آخرون على غرار الفيلسوف دينيس ويتكوم من جامعة واشنطن الغربية، بأن الشخص البغيض أخلاقيا قد يكون حكيما. ربما لا تتطلّب الحكمة حياة جيدة بالمعنى الأخلاقي، وإنما حياة عقلانية. فالشخص الحكيم، بالإضافة إلى المعرفة العالمية ومعرفة الذات، هو الشخص الذي يعيش حياته بعقلانية وبشكل معقول. لن يخلو هذا الشخص من الأحاسيس والمشاعر ولكنه قادر على تنظيمها بطريقة عقلانية.
وصل الباحثون إلى أنّ الذكاء يفسِر التباين في الأداء المرتبط بالحكمة بدرجة أقل مما تفعله السمات الشخصية. وتُعد تجربة الحياة (على وجه الخصوص، تجربة التفاعل مع الآخرين) أشد مؤشر منبئ
تاريخيا، كمُنت مسألة الحكمة، غالبا، في مجالات الفلسفة والدين والأدب. لكن في الآونة الأخيرة، جذبت هذه المسألة انتباه المتخصصين في علم النفس، حيث وقع بذل مساع في مجال علم النفس لتحديد مفهوم الحكمة بشكل يُمكّن من وضع نظريات من شأنها أن تسفر عن توقعات قابلة للاختبار.
عند سؤال الأشخاص العاديين عن مفهوم الحكمة، سيقولون إنها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالتقدم في السن، إذ أننا عادة لا نتخيل أن ينتمي الشباب إلى صفوف الحكماء. ومن المحتمل أن فكرة أنّ الحكمة حكر على المتقدمين في السن، تعود إلى المجتمعات القديمة التي هيمنت فيها التقاليد على عقلية التغيير، والتي اعتبرت فكرة الوصول إلى مرحلة الشيخوخة في حد ذاتها إنجازا. ومع ذلك، في يومنا هذا، إن العلاقة بين السن والحكمة، مثلها مثل أي مفهوم آخر، لا بد أن تكون قد ازدادت تعقيدا.
بالفعل، تتحدى مؤلفات الأدب البحثية إلى حد كبير فكرة أنّ الحكمة وليدة تقدم الشخص في السن. فعلى سبيل المثال، ربما يُعدّ بول بلتس (1939-2006)، عالم النفس التنموي الألماني الذي أسس مشروع حكمة برلين بمعهد ماكس بلانك للتنمية البشرية، الشخصية الأكثر تأثيرا في هذا المجال. ووفقا لتفكيره، يكمُن تعريف الحكمة في أنها نظام معرفة خبير له علاقة بأساسيات التوجه الذرائعي للحياة. ويحتوي هذا النظام على خمسة مكونات:
1.المعرفة الإدراكية بمجريات الحياة.
2.معرفة ثرية وملّمة بواقع الحياة.
3. فهم لسياقات الحياة الافتراضية.
4. الوعي بنسبية القيم والأولويات.
5.القدرة على الاعتراف وإدارة الشك.
على الرغم من أن السن لا يمثل عاملا صريحا في نموذج برلين، إلا أن أبحاث بلتس، وزملاءه تشير إلى أن الحكمة تزداد بإطراد من سن الـ 13 إلى سن الـ 25، ثم تظل ثابتة نسبيا حتى سن الـ 75، بعد ذلك تشهد الحكمة تراجعا شائعا، حيث ترتبط بتقهقر الصحة البدنية.
في نفس السياق، توصل الباحثون إلى أنّ الذكاء يفسِر التباين في الأداء المرتبط بالحكمة بدرجة أقل مما تفعله السمات الشخصية. وتُعد تجربة الحياة (على وجه الخصوص، تجربة التفاعل مع الآخرين) أشد مؤشر منبئ، حيث يمثل أكثر من 25 بالمئة من التفاوت.
في شأن ذي صلة، اتخذت مونيكا أرديلت، أستاذة علم الاجتماع بجامعة فلوريدا، مقاربة نظرية مختلفة إلى حد ما، حيث طورت نظرية الحكمة ثلاثية الأبعاد المؤثرة. وعلى عكس بلتس، و”مجموعة برلين” الذين يعتبرون الحكمة “نظام معرفة خبير”، وجدت أرديلت أن الحكمة هي “مزيج من صفات الشخصية” التي “لا يمكن أن تتجلى في عزلة عن الأفراد”.
تقديم الحب المتعاطف والحنون للآخرين. وهو حسب أرديلت “وجود المشاعر والسلوك الإيجابي تجاه الكائنات الأخرى، مثل المشاعر والأفعال الدالة على التعاطف والرحمة
بالنسبة لأرديلت، لا يكفي أن يكون الشخص واسع المعرفة وفصيحا، إذ تشمل الحكمة الحقيقية الفعل الأخلاقي إلى جانب ضبط النفس العاطفي. وحيال هذا الشأن، قالت أرديلت: “لا يمكن للحكمة أن توجد بمعزل عن الأفراد… إذا كان هذا الأمر صحيحًا، فلا يمكن المحافظة على الحكمة نفسها بعيدا عن الأفراد. وتعتمد مسألة توزيع مفاهيم الحكمة في المجتمع على التطور الشخصي للأفراد الذين يشكلون المجتمع وليس على تطوير برنامج ثقافي. في اللحظة التي يحاول فيها المرء الحفاظ على الحكمة، على سبيل المثال، عن طريق كتابتها، تفقد ارتباطها بشخص ملموس وتتحول إلى معرفة فكرية (نظرية). أعتقد أن “أدب الحكمة” الأكثر عمقا يظل مفهوما فكريًا أو نظريًا”.
اقترحت أرديلت نماذج عن الحكمة في إطار خاصيات شخصية، تتكون من ثلاثة أبعاد:
- البعد الإدراكي: فهم الحياة والرغبة في معرفة الحقيقة. وفقًا لأرديلت “يشير البعد الإدراكي للحكمة إلى قدرة الشخص على فهم الحياة أي فهم المغزى من الظواهر والأحداث ومعناها العميق، خاصة فيما يتعلق بالمعاملات الشخصيّة بين الأشخاص”.
- البعد الانعكاسي: فهم الظواهر والأحداث من وجهات نظر متعددة، التي تتطلب التفكير الذاتي والوعي والبصيرة. وأوضحت أرديلت أن “البعد الانعكاسي هو شرط أساسي لتطوير البعد الإدراكي للحكمة. لا يمكننا فهم الحياة بشكل أعمق إلا إذا كان بإمكاننا فهم الواقع كما هو دون أي تشوهات كبيرة. ولتحقيق ذلك، يحتاج المرء إلى الانغماس في التفكير التأملي من خلال التعمّق في مفهوم الظواهر والأحداث من عديد وجهات النظر المختلفة لتطوير الوعي الذاتي والبصيرة الذاتية. لذلك، ستقلل هذه الممارسة تدريجيًا من التركيز على الذات والذاتية والتوقّعات، وتزيد من فهم الشخص لحقيقية الأشياء، بما في ذلك الدوافع وراء سلوك الفرد وسلوك الآخرين”.
- البعد العاطفي: تقديم الحب المتعاطف والحنون للآخرين. وهو حسب أرديلت “وجود المشاعر والسلوك الإيجابي تجاه الكائنات الأخرى، مثل المشاعر والأفعال الدالة على التعاطف والرحمة، وغياب المشاعر والسلوك غير المبال أو السلبي تجاه الآخرين”.
طوّر عالم النفس الأمريكي روبرت ستيرنبرغ من جامعة ييل، أفكاره عن الحكمة وحصرها في نظرية التوازن في الحكمة. فبالنسبة إلى ستيرنبرغ، الحكمة هي “تطبيق للمعرفة الضمنية التي تسيّرها القيم بهدف تحقيق المصلحة العامة
بناء على ذلك، لا تتشكل الحكمة إلاّ إذا توفّر الحُكماء. وفي واقع الأمر، لا يقتصر تطوّر الحكمة على التقدّم في السّن وإنما يتعلق أساسا بسعي الإنسان إليها والاستثمار في تنميتها. وقد كشفت أبحاث أرديلت أنه رغم تسجيل طلّاب الجامعات لنفس مستوى الحكمة التي سجّلها كبار السّن، إلّا أن هناك بعض الاختلافات بين الجيلين.
في هذا الشّأن، صرّحت أرديلت بأنّ “الدّلائل النوعيّة أظهرت أن كبار السنّ الذين حقّقوا أعلى مستويات الحكمة مقارنة بنظرائهم أصبحوا أكثر حكمة مع تقدّمهم في السنّ من خلال تجاربهم الحياتية. وقد كشفت نتائج البحوث أنّ الحكمة قد تزداد مع التقدم في العمر للأشخاص الذين يتمتعون بفرص ودوافع جديّة لتطويرها”.
من جهته، طوّر عالم النفس الأمريكي روبرت ستيرنبرغ من جامعة ييل، أفكاره عن الحكمة وحصرها في نظرية التوازن في الحكمة. فبالنسبة إلى ستيرنبرغ، الحكمة هي “تطبيق للمعرفة الضمنية التي تسيّرها القيم بهدف تحقيق المصلحة العامة من خلال إرساء التكافؤ بين (أ) المصالح الذاتية الداخلية، (ب) والمصالح بين الأشخاص، (ج) والمصالح الخارجية … قصد ترسيخ التوازن بين: (أ) التكيّف مع البيئات الحالية (ب) وتشكيل البيئات الحالية، (ج) واختيار بيئات جديدة”.
في حقيقة الأمر، يسعى ستيرنبرغ من خلال نظريته إلى تحقيق التوازن بين المصالح الذاتية والاجتماعية، والأهداف طويلة وقصيرة المدى، بالإضافة إلى السياقات والمتطلّبات البيئية المتعددة. وقد جادل ستيرنبرغ بأنه من الأجدر أن نولي مزيدًا من الاهتمام للحكمة عندما نختار من ندرج في الجامعة، ومن ينبغي تعيينه في وظيفة، وانتخابه لتقلّد منصب رفيع، ذلك أن سوء اتخاذ القرارات والسياسات غالبًا ما يكون جراء الافتقار للحكمة وليس الذكاء.
رُغم اختلاف علماء النّفس (مثل عامّة الناس) في تعريفاتهم للحكمة، تتفق النظرية والبيانات في علم النفس المعاصر على أن التقدّم في السّن ليس كافيا ولا ضروريّا لتطوير الحكمة
في سياق متصل، قال سيرنبرغ إنه “على الرغم من أن مجتمعاتنا تميل حاليًا إلى التأكيد على الذكاء التحليلي في تقييمها للأفراد في المدرسة والكلية وغيرها، إلا أن تقييم الحكمة هو الآخر يكتسي أهمية. فعندما يفشل المواطنون والقادة في القيام بواجباتهم على أتمّ وجه، من المرجح أن يكون ذلك بسبب الافتقار إلى الحكمة أكثر من نقص الذكاء التحليلي، بل ومن المحتمل أن يكون المواطنون والقادة الفاشلون حمقى جرّاء إظهار التفاؤل غير الواقعي، والأنانية، والادّعاء بوسع المعرفة والقدرة غير المحدودة، ناهيك عن المصداقية الكاذبة، وفقدان التفكير الأخلاقي وصنع القرار. بعبارة أخرى، لا يفشلون بسبب نقص الذكاء التقليدي، بل بسبب الافتقار إلى الحكمة”.
على غرار أرديلت، أوضح ستيرنبرغ أن السنّ لا يؤدي بالضرورة إلى الحكمة، مشيرا إلى أن “الأهم من ذلك هو أن يستفيد الشخص من تجاربه في الحياة بطريقة تتماشى مع نسق تطور الحكمة… يجب على الناس إظهار رغبتهم في تطوير مهاراتهم المتعلقة بالحكمة لأجل تحقيق هذا المبتغى، ومن ثم يجب عليهم تبني مواقف إيجابية تجاه الحياة مثل اقتناص فرص التجربة، والتفكير بإمعان في إيجابيات هذه التجربة والرغبة في الاستفادة منها، مما سيجعل من هذا التطور حقيقة”.
رُغم اختلاف علماء النّفس (مثل عامّة الناس) في تعريفاتهم للحكمة، تتفق النظرية والبيانات في علم النفس المعاصر على أن التقدّم في السّن ليس كافيا ولا ضروريّا لتطوير الحكمة. فالسؤال الذي يجب طرحه عندما يتعلق الأمر بالحكمة هو ليس كم من الوقت لديك، وإنما ماذا اخترت فعله بالوقت؟ وظاهريا، يبدو هذا الاستنتاج حكيما إلى حد ما.
المصدر: سايكولوجي توداي