لم تنقض على انتفاضة تشرين الشبابية في العراق إلا خمسة إيام، حتى استطاعت أن تحقق من الإنجازات العظيمة ما لم تستطع تحقيقه آلاف الصفحات التي كتبت في حب الوطن والتضحية من أجله، وكَتَبَ شباب العراق بدمائهم الزكية، ملامح المرحلة المقبلة من تاريخ العراق، ما لم يستطع كل الحبر الذي نزف من أقلام المفكرين والباحثين لرسم طريق الخلاص لشعبنا العراقي. إن الانتفاضة الحاليّة تحمل بذور مستقبل جديد لهذا البلد، وتحمل معها نُذر الانهيار الكامل لمنظومة الفساد القائمة في العراق منذ 2003.
الصبر مفتاح الفرج
بعد مرور خمسة أيام من عمر الانتفاضة، أحدثت هذه الانتفاضة هزة عنيفة بالنظام السياسي العراقي الفاسد والقائم حاليًّا، لكن هذا النظام ما زال قائمًا لحد الآن وقادرًا على تحويل ساحات وشوارع المدن العراقية إلى برك دماء، والواجب على المنتفضين الصبر والحكمة في إدارة صراعهم مع هذا النظام، لحين الوصول إلى مرحلة الانهيار الكامل له، وحينما تشتد شراسة هذا النظام، فتيقنوا أن المجتمع الدولي سينحاز لصفكم لا محالة، وسيتدخل لإنهاء هذه الحالة المأساوية التي تحدث والجرائم التي تُرتكب في حقكم، ذلك لأن العالم لا يستجيب للشعوب النائمة والميتة، إنما يستجيب للشعوب الحية التّواقة لحياة حرة جديدة.
ليعلم شبابنا المنتفض، أن كل التضحيات الغالية التي يبذلونها في انتفاضتهم الحاليّة، لا يمكن قياسها بالتضحيات التي يقدمها عموم شعبنا كل يوم وهو تحت حكم هذا النظام الفاسد الدموي
ولا تستجيبوا لمحاولات القوات الأمنية جركم لاستخدام العنف، فهذا الشيء الذي يريدونكم أن تقوموا به، ليتهمونكم بالإرهاب ويسوغون لأنفسهم استخدام العنف ضدكم بشكل واسع.
وليعلم شبابنا المنتفض، أن كل التضحيات الغالية التي يبذلونها في انتفاضتهم الحاليّة، لا يمكن قياسها بالتضحيات التي يقدمها عموم شعبنا كل يوم وهو تحت حكم هذا النظام الفاسد الدموي، فالشعب العراقي يدفع كل يوم تضحيات بين صفوفه بسبب الفقر والعوز وتردي الصحة والتعليم، وبسبب تفشي الإرهاب وتجنيد أبنائه بالمليشيات، مستغلين فقرهم لزجهم في حروب سوريا وحروبٍ داخلية ضد أبناء شعبه.
والأهم من ذلك كله، فالشعب العراقي يدفع ثمنًا باهظًا من كرامته التي امتهنت وهو يرزح تحت نظام يظهر العمالة لإيران بكل ذلٍ ويفتخر بها، ولا يمتلك من إرادته السياسية شيئًا، ومُرتهن بكل أموره لإيران التي لا تريد خيرًا للعراق. فالمضي بالثورة ضد هذا النظام، هو وضع حدٍ لتضحيات العراقيين، تستحق من شعبنا التضحية لأجلها، لوضع حدٍ لانهيار العراق المستمر منذ 16 سنة، ومفتاح النجاح في ذلك كله، هو الصبر ثم الصبر على الضريبة التي يدفعها الشعب العراقي حاليًّا لقاء نيل حريته.
استثمار التضحيات واجب المنتفضين
الشيء المهم الذي يجب أن يدركه شعبنا المنتفض، أنهم لم يخرجوا في انتفاضتهم لأجل التعبير عن الرفض فقط، وليس لإسقاط النظام السياسي القائم حاليًّا فقط، إنما خرجوا لما هو أكبر من ذلك بكثير. على المنتفضين منذ الآن، رسم تصور دقيق لمستقبل العراق بعد سقوط هذا النظام ولو في ملامحه الرئيسية والعريضة، هذا التصور مهم جدًا لكي لا تذهب تضحياتهم سدى، ولكي لا يستثمرها لصالحهم مُدَّعو الوطنية، من الذي خَبِرَهم شعب العراقي وانكشف زيفهم أمامه.
تؤسس تلك المفاوضات لعملية سياسية جديدة بعيدة عن كل أشكال الطائفية والعنصرية التي تضمنها الدستور الحاليّ، وأن تتعهد الولايات المتحدة الأمريكية أمام العالم ومنظماته الدولية بمسؤوليتها التاريخية عن كل الجرائم التي تلت الاحتلال
تتمثل تلك التصورات الأولية، برسم خريطة طريق لإنقاذ العراق من الحالة الراهنة، من خلال الاستمرار بالتظاهرات إلى الحد الذي يعلن النظام السياسي الحاليّ من حكومة وبرلمان انسحابهم من العمل السياسي وتسليم السلطة بشكل مؤقت للجيش، وعلى قيادة الجيش العمل على حلّ كل التنظيمات المسلحة غير الرسمية، من مليشيات وعصابات تتبع الأحزاب، ثم انتخاب رجالٍ من بين صفوف المنتفضين، الذين ينالون ثقتهم، ليكونوا ممثلين عنهم، وإجراء عملية تفاوضية بين ممثلي المتظاهرين وسلطة الاحتلال الأمريكي المسؤولة الأولى عن هذا الخراب الذي حل بالبلد، وليس مع جهة أخرى، وبإشراف أممي رسمي.
تؤسس تلك المفاوضات لعملية سياسية جديدة بعيدة عن كل أشكال الطائفية والعنصرية التي تضمنها الدستور الحاليّ، وأن تتعهد الولايات المتحدة الأمريكية أمام العالم ومنظماته الدولية بمسؤوليتها التاريخية عن كل الجرائم التي تلت الاحتلال، والإقرار بأن الخراب الحاصل كان أحد مفرزات هذا الاحتلال، والتعهد من الولايات المتحدة الأمريكية، بالعمل على تمكين الشعب العراقي من حكم نفسه بنفسه، تكفيرًا عن الجرائم التي ارتكبها احتلالهم إثر غزوهم للعراق.
وربَّ سائل يسأل، ما الذي يجعل أمريكا تعمل على ذلك، فنقول إن الولايات المتحدة الآن في أمس الحاجة لاقتناص أي فرصة لتصحيح الأوضاع في العراق وطرد النفوذ الإيراني منه، بسبب تصاعد صراعها مع النظام الإيراني الذي حقق عليها فوزًا سياسيًا وعسكريًا واضحًا في العراق.
من المهم أن تكون عملية التغيير التي يقودها المنتفضون، هي عملية تغيير جذرية، تُمثل مفاصلة ما بين النظام الجديد الذي سيتم بناؤه والنظام السياسي الحاليّ الذي مثَّل فترة مظلمة مرَّ بها الشعب العراقي
أما التصورات المستقبلية التي تلي تلك الخطوات، فمن المهم أن تكون متضمنة لخطوات نعتبرها على درجة عالية من الأهمية، منها قيام السلطة العسكرية المؤقتة، بإصدار قرار صريح بإبطال العمل بالدستور الحاليّ، ليتم بعدها ترشيح خبراء من ذوي الاختصاص البعيدين عن تأثير أي جهة حزبية كانت مشاركة بالعملية السياسية الحاليّة، وليس لهم تاريخ أسود يطعن بنزاهتهم، ويتميزون بالحنكة والذكاء الكافي الذي يجعلهم يكتبون دستور جديد لا تشوبه الأخطاء القاتلة التي شابت الدستور الحاليّ الذي نعمل به حاليًا، ووفقًا لهذا الدستور الجديد، وبعد إجراء الاستفتاء عليه من الشعب العراقي، تُبنى عملية سياسية جديدة.
هذه الملامح الأولية هي خطوط عريضة يمكن التعديل عليها بالإضافة أو الحذف، تساعد المنتفضين على تلمس ملامح الطريق الصحيح، لكن عليهم إدراك أن من المهم أن تكون عملية التغيير التي يقودها المنتفضون، هي عملية تغيير جذرية، تُمثل مفاصلة ما بين النظام الجديد الذي سيتم بناؤه والنظام السياسي الحاليّ الذي مثَّل فترة مظلمة مرَّ بها الشعب العراقي.