تعرض الاقتصاد السوري لصدمات متعددة، مما عمّق الأزمات التي أنهكته، وكان من أبرز ضحايا هذا الانحدار القطاع الزراعي، الذي كان يشكل سابقاً حوالي ربع الاقتصاد السوري، وأصبح يعاني من نقص حاد في الموارد، ويعجز عن تقديم العوائد المتوقعة، ليبتعد بذلك عن تحقيق السيادة الغذائية.
وكما يقال في المثل العالمي: أزرع كل يوم تأكل كل يوم، والعكس صحيح، بات النهوض بالقطاع الزراعي السوري بشقيه (النباتي والحيواني) ضرورة وأولوية تفرضها الظروف الاقتصادية الحالية، وليس ترفاً يمكن تأجيله، بل تحدٍ بالغ الأهمية أمام الحكومة السورية الجديدة.
المرحلة الذهبية للزراعة السورية
كان الاقتصاد السوري سابقا يعتمد بشكل كبير على الزراعة، حيث كانت تشكل جزءًا مهمًا من النشاط الاقتصادي، وربما تتفوق على قطاع النفط في قوتها الاقتصادية.
تشكل المساحة القابلة للزراعة ومساحة الغابات حوالي 6.5 مليون هكتار، وهو ما يشكل 32.8% من المساحة الإجمالية لسوريا، وكان يحتل القطاع الزراعي المرتبة الثانية بعد النفط من حيث الإيرادات التصديرية في ميزان الصادرات السورية، ويمكن القول أنه بعد عام 1980 انتعش هذا القطاع وازدادت مساحة الأراضي المروية بفضل المشاريع الزراعية الكبيرة واستخدام الآلات الزراعية الحديثة مع الاهتمام بالموارد المائية.
استطاعت سوريا الوصول إلى أرقام إنتاجية عالية، استمرت لسنوات طويلة، فإنتاج القمح في عام 2000 وما بعده، بلغ نحو 4.8 ملايين طن، وهو ما يزيد عن استهلاك البلاد الذي يبلغ سنويا نحو 3.12 ملايين طن، أما إنتاج القطن الذي يأتي في الدرجة الثانية على سلم الصادرات السورية بعد النفط، فقد حقق رقمًا قياسيًا بلغ 1.1 مليون طن.
ويمكن وصف القطاع الزراعي السوري في تلك المرحلة بأنه (المنجم الذهبي)، فهو ينتج الذهب الأصفر (القمح) والذهب الأبيض (القطن)، عدا إنتاج زيت الزيتون الذي احتلت سوريا فيه المرتبة الرابعة عالمياً ضمن القوائم الرئيسية للدول المصدرة له.
أما قطاع الثروة الحيوانية، الذي يعتبر أحد ركائز الأمن الغذائي، كانت سوريا تذخر بأكثر من 18 مليون رأس من الغنم العواس، و2.3 مليون رأس ماعز، و1.15 مليون رأس من البقر.
هذه الأرقام جعلت من السلة الغذائية السورية غنية ووافرة، وانعكست إيجابًا على المواطن السوري، حيث كانت حالة التغذية بين أعوام 2000 وحتى 2008 تعتبر عالية قياسًا مع مختلف الدول النامية، فوصل متوسط استهلاك الفرد خلال الفترة المذكورة إلى أكثر من 3200 حريرة في اليوم.
تعزيز إشراك الزراعة في بناء الاقتصاد، رفعت من مساهمة هذا القطاع في الناتج المحلي الإجمالي ليصبح 26%، وبلغت مساهمته في الإنتاج بحدود 26%، وأصبح يعمل بالزراعة نحو 28% من إجمالي القوى العاملة، وشكلت المنتجات الزراعية 25% من إجمالي عائدات التصدير وحوالي 7% من إجمالي الواردات، ولم يكن يواجه القطاع الزراعي أي عقبة في نشاطه، إلا تقلبات المناخ، كون 76% من الأراضي المزروعة هي بعلية.
انحدار المؤشرات.. وشحوب أرقام الإنتاج
بدأت المرحلة الذهبية للقطاع الزراعي في سوريا بالتراجع مع موجة الجفاف التي ضربت البلاد، وخاصة المنطقة الشرقية التي تعتبر السلة الغذائية للبلاد، بين أعوام 2006 و2010، وبدلاً من اتخاذ نظام الأسد سياسات عاجلة للتعامل مع آثار الجفاف، قام بزيادة أسعار المازوت والأسمدة، مما أسهم في تسريع هجرة الفلاحين من الشمال الشرقي.
مع اندلاع الثورة السورية في عام 2011 واستخدام نظام الأسد وسائل القتل والتدمير والتهجير، انحدرت المؤشرات إلى الحضيض، وبات القطاع الزراعي لا يسمن ولا يغني من جوع، فشُرد آلاف المزارعين، وانخفضت نسبة السكان الذين كانوا يعيشون في المناطق الريفية إلى النصف.
وأدى ذلك إلى خسائر فادحة في إنتاج المحاصيل والماشية، عدا عن التدمير الذي لحق نُظم الري، وتضرر مناطق زراعية واسعة، فازدادت تكاليف المدخلات الزراعية زيادة حادة، مثل البذور والأسمدة والمبيدات والمحروقات، لتقدر خسائر القطاع الزراعي بنحو 16 مليار دولار أمريكي.
وتراجعت مساهمة القطاع الزراعي في الناتج المحلي الإجمالي إلى 12% فقط، وتراجعت القوى العاملة فيه إلى 15%، وباتت سوريا التي كانت تصدر القمح، تستورده وبملايين الأطنان، فانحدر الإنتاج من 4.8 ملايين طن قمح إلى 800 ألف طن فقط، خلال العام الماضي.
أما القطن، فقد تراجعت أرقام إنتاجه بشكل كبير لتصل إلى فقدان 14 ألف طن في عام 2024، بعد أن كان الإنتاج يتجاوز المليون طن سنويًا. وينطبق هذا الوضع أيضًا على زيت الزيتون، حيث ارتفعت أسعاره نتيجة لزيادة تكاليف الإنتاج وارتفاع نفقات الفساد. حتى أصبح المواطن بحاجة إلى قرض مصرفي لتغطية ثمن عبوة زيت وزن 16 كيلو، والتي وصل سعرها في عام 2024 إلى أكثر من مليون و600 ألف ليرة (ما يعادل 110 دولارات)
في قطاع الثروة الحيوانية، الذي لم يكن في منأى عن الخسائر، انخفض عدد رؤوس قطيع الأبقار بنسبة 25%، والماعز 17% والأغنام 7% نتيجة التهريب والذبح العشوائي والقصف، وبينما ارتفع الإنفاق لشراء الغذاء، انخفض على إنتاج الغذاء، ما دفع بأسعار المواد الغذائية للارتفاع بشكل كبير، مع غياب استقرار توفرها في الأسواق المحلية.
موت سريري.. بانتظار الإنعاش
مع سقوط نظام الأسد، ورثت الحكومة السورية الجديدة تركة اقتصادية ثقيلة، فالقطاع الزراعي السوري يحتاج اليوم إلى استثمارات كبيرة لإعادة بناءه إلى ما كان عليه، حيث تقدر التكلفة المبدئية حسب تقديرات منظمة الأغذية والزراعة فاو بنحو 17 مليار دولار.
الرئيس السوري أحمد الشرع، أكد في أكثر من خطاب ولقاء إعلامي، أن الجهود الحكومية ستركز على إعادة القطاع الزراعي لقدرته، وأن سوريا ستكون محطة لاستثمارات كبيرة منها الزراعية.
كما أكد وزير الزراعة في حكومة تصريف الأعمال محمد طه الأحمد أن هناك خطة استراتيجية تركز على إعادة القطاع الزراعي كما كان سابقًا، من حيث إسهامه في الناتج المحلي الإجمالي، وتشغيل اليد العاملة وتحقيق الأمن الغذائي.
وفي ظل توجه الإدارة الجديدة إلى الاهتمام بالقطاع الزراعي تبرز تساؤلات حول التحديات التي تواجهها في تحقيق الهدف الذي أعلنته إلى جانب مستقبل القطاع في سوريا.
الخبير الزراعي أكرم عفيف، وصف القطاع الزراعي في الوقت الحالي بأنه مريض في غرفة العناية المشددة، ويرتقي لمرحلة الموت السريري، فسوريا حاليا بلا إنتاج زراعي بحسب وصفه، كون الفلاح يتعرض لخسائر كبيرة وفادحة، ومحاصيله حاليا لا أحد يُقدم على شرائها، داعياً الحكومة للتدخل الفوري لإنعاشه قبل فوات الأوان.
ورأى عفيف في تصريحه لموقع “نون بوست”، أن الفلاح غير قادر على زراعة أرضه، لعدم قدرته على تحمل تكاليف الإنتاج وغياب التمويل، تزامن ذلك مع دخول منتجات زراعية من الدول المجاورة إلى السوق السورية بأسعار متدنية، جعلت من الفلاح يعيش بحالة من الخطر، وقد كان لضعف القدرة الشرائية، رغم انخفاض الأسعار، أثر سلبي على الفلاحين الذي يملكون الثروة الحيوانية، حيث انخفضت أسعار الأعلاف ولكن انخفض التصريف أيضاً، ما دفع بالكثير من الفلاحين، لبيع ما يملكونه من أبقار وأغنام.
وأشار عفيف إلى أنه من أهم التحديات التي تواجه الحكومة، هي توفير التمويل اللازم للعملية الإنتاجية، وتخفيض تكاليفها، من أسمدة ومحروقات، بالإضافة إلى التكاليف العالية للنقل، مع أهمية رفع مستوى الدخل للمواطنين حتى يستطيع الفلاح من تصريف ما يزرع.
ومن التحديات عدم وجود سياسة تسويق ناجعة، مع أهمية معالجة سياسة التسعير التي كانت متبعة لدى النظام السابق والتي لم تتغير حتى الآن، إضافة إلى عدم إعطاء ثمن المحاصيل للمزارعين حتى الآن، منها محاصيل التبغ والقطن، وتوقف تجارة المحاصيل الزراعية التي كانت ناشطة.
وأكد عفيف أن الحلول تكون عبر تلافي الصعوبات السابقة وإيجاد حلول ناجعة لها وخاصة التمويل والزراعة التعاقدية وإعطاء أسعار مجزية، وإيقاف تدفق المنتجات الزراعية الوافدة من الدول المجاورة، والتي تأتي دون رسوم، أو فرض رسوم عليها، سواء الخضار أو اللحوم، البيضاء والحمراء، وحتى مشتقات الحليب من ألبان وأجبان، كون أسعار هذه المواد المستوردة هي أرخص من المواد المنتجة محليا، والفلاح لا يملك عوامل تخفيض الأسعار للمنافسة، وبالتالي تعرضه للخسائر وخروجه من دائرة الإنتاج.
وأكد على أهمية تغير نمط الزراعة، نتيجة التغيرات المناخية التي تطرأ على سوريا، والدراسة بشكل معمق وذكي للوصول إلى زراعة تتلاءم مع التغير المناخي ونقص المياه الحالي، وإيجاد طرق ري حديثة، مشددًا على اهتمام الحكومة بالزراعة، أولا وأخراً لأنه “لا أمن غذائي دون زراعة بشقيها”.
من جانبه اعتبر الخبير في الإنتاج الحيواني والتنمية الزراعية، عبد الرحمن قرنفلة أن القطاع الزراعي السوري أصبح بلا هوية، فقد خلف النظام البائد زراعة متهالكة وبنى تحتية مدمرة وبعثر النسيج الاجتماعي نتيجة عمليات التهجير القسري للسكان وتبدل التركيب الديموغرافي.
وقال قرنفلة في تصريح لـ”نون بوست”، إن كل هذه الأمور أثرت بشكل بالغ في النشاط الزراعي، وترافق ذلك بتشريعات أعاقت نمو القطاع، سواء من حيث تعقيدات التمويل أو من حيث وسائل الإنتاج القديمة، مع غياب مصادر الطاقة التي تعتبر عصب العمل الزراعي.
عدا الفوضى في استثمار الموارد المائية المحدودة، وفرض ضرائب ورسوم مرتفعة ومتعددة على مفاصل الزراعة، وخنق أعمال التصدير الخارجي للمنتجات الزراعية، والمساهمة في تهريب قطعان الثروة الحيوانية إلى دول الجوار، مع إهمال تنمية البادية وانعدام فرص التنمية المتوازنة، كل تلك العوامل أدت الى وصول قطاع الزراعة السوري إلى نقطة حرجة ودفعته لحالة النمو السلبي.
وأشار قرنفلة إلى أن القطاع الزراعي يفتقر إلى تنظيم أسواق بيع المنتجات الزراعية، وتخلف طرق جني ونقل وتخزين وتداول المنتجات، مما يرفع نسبة الفاقد على طول السلسلة ويحرم الإنتاج السوري من المنافسة على كسب أسواق خارجية.
المعالجة .. استراتيجية من 5 محاور
وتنطلق معالجة واقع القطاع الزراعي، حسب قرنفلة، من خلق إرادة سياسية تعتمد مبدأ (الزراعة أولاً) في خطط العمل الحكومي، وإعادة تنظيم القطاع من خلال تأسيس اتحادات نوعية تساهم بتحمل مسؤولية إدارة النشاطات الزراعية، مثل اتحاد مربي الدواجن واتحاد مربي الأبقار الحلوب واتحاد مزارعي القمح، وتوحيد جهات الإشراف على القطاع الزراعي المتوزعة على عدد من الوزارات، ودراسة وتحليل القوانين الناظمة لعمل القطاع وتطويرها لتتناسب والواقع الراهن وتطورات المستقبل.
إضافة إلى إعادة بناء المجتمع الريفي الذي مزقته حرب النظام البائد، لأن الإنسان محور الحياة وأهم أدوات التنمية، لذلك لا بد من وضع استراتيجيات محلية على مستوى القرى لإعادة إعمار البنى الأساسية في الريف، وثم العمل على تأمين مستلزمات الإنتاج بأسعار معقولة، واتباع سياسة دعم المنتج النهائي بدل دعم مستلزمات الإنتاج لمنع حدوث حالات فساد، وسرعة معالجة قضايا تصدير المنتجات الزراعية ووضع حلول عاجلة لمعوقاتها وخاصة العلاقة مع دول الجوار، وتشجيع الصادرات الزراعية لأنها الدافع الأقوى لنمو القطاع.
وأشار قرنفلة إلى أهمية التركيز على زراعات “الميزة النسبية” التي تراعي استدامة الموارد وخاصة الموارد المائية، من خلال تحديد البصمة المائية والبصمة الأرضية لكل نوع من الزراعات أو من أنواع الثروة الحيوانية، وتشجيع زراعة القمح أولا، ثم المحاصيل التي تحقق قيم مضافة للاقتصاد، وتساهم بخلق فرص عمل وتدمج تربية الحيوان في خطط الزراعات المختلفة.
وتعمل أيضًا على تشغيل الصناعات الغذائية، وإحداث تكامل مع قطاع الصناعة، مما يساهم في تحقيق حاجة السوق المحلية وتأمين فوائض للتصدير، وفي هذا الإطار لابد من تحديث طرائق العمل الزراعي ووسائل الإنتاج لضمان الحصول على منتجات قابلة للتصدير.
وحدد الخبير الزراعي الاستراتيجية المطلوب اتباعها للنهوض بقطاع الزراعة والتي شملت 5 محاور وهي:
- إشراك أصحاب المصلحة (الفلاحين)، في وضع أي استراتيجية للنهوض بالقطاع الزراعي لضمان نجاحها وتنفيذها.
- تحديد أهداف الاستراتيجية على ضوء الموارد الأرضية والمائية ونمو السكان وتوجهات السياسة الاقتصادية للبلد.
- إنجاز دراسات لتحليل الوضع الراهن للزراعة السورية وتحديد نقاط القوة التي يمكن البناء عليها.
- تقسيم القطاع الزراعي إلى أنشطة نوعية وتشكيل فرق عمل فنية لكل نشاط تقوم بتحليل واقعه وتضع خططًا قصيرة ومتوسطة وطويلة الأجل لتنميته.
- دراسة كافة الأنشطة ودمجها ببعض للوصول إلى استراتيجية تنمية شاملة للقطاع الزراعي.
ختاماً.. لا بد من التأكيد أن سوريا تعيش حالة اقتصادية معقدة، خلفتها حرب مدمرة، فالوصول إلى نقطة الصفر، حتى ننطلق منها مجددًا، لتحقيق نسب نمو جديدة، ومن ثم الصعود إلى مستوى الاكتفاء الذاتي وتحقيق الأمن الغذائي، يحتاج منا الإيمان بأن الزراعة هي بداية كل عمليات الإنتاج، وأن الزراعة هي المهنة التي تجعل للإنسان جذوراً في أرضه، لذا يجب أن تكون الزراعة بحسب ما قاله الخبيران: أولا وأولا ثم أولا وأخيراً.