في قصيدة عواذل ذات الخال، عزف المتنبي قولته الشهيرة “مصائب قوم عند قوم فوائد” ولم يكن يعرف أنها ستصلح للاستدلال بها في قضايا الواقع بحرفية بالغة، ليس فقط في الأدب والشعر والسياسة، ولكن أيضًا في الاقتصاد، فحرب تكسير العظام أو ما يعرف بالحرب التجارية بين أمريكا والصين، تستفيد منها العديد من دول العالم حاليًّا، بما فيها الدول النامية، التي تتمرد كما لم تتمرد من قبل، على السوق الحرة ومنظمة التجارة العالمية، وتنحاز للفكر “الترامبي” في التحرر من القوانين الدولية التي تنصب في صالح الكبار ولا تعكس مصالح شعوبها على الأرض.
التمرد.. بداية ضرب السوق الحرة
لجأت الاقتصادات النامية لضوابط أكثر صرامة، مستوحاة من طريقة ترامب في التعامل مع الشركاء التجاريين العالميين، وتوحش عداؤها لمنظمة التجارة العالمية وتزايدت رغباتها في ضرب نفوذها العالمي عليهم.
يقود المواجهة كوبا والهند وجنوب إفريقيا وفنزويلا، بسبب توحش منافذ السوق الحرة ضد مصالحهم، وانحياز منظمة التجارة العالمية، ضد البلدان النامية بشكل عام، حتى أصبح لهذه البلدان نداءات واضحة ومطالبات بإصلاحات للمنظمة في العلن.
ما يحدث في البلدان النامية من غليان ضد المنظمة، طُرح في قمة مجموعة السبع الأخيرة التي عُقدت في باريس بفرنسا، وأيد زعماء العالم دعاوى إصلاح منظمة التجارة العالمية
وفي الغرف المغلقة لا يمانعون في تعزيز جهود ترامب وبعض الدول المساندة لسياساته في تفكيك النظام العالمي القائم على سياسات غير عادلة، واستبدالها بقوميات اقتصادية تحقق فائضًا محليًا، وتحدث توازنات في علاقاتها التجارية مع الخارج، بحيث تصبح الحمائية – حماية الإنتاج الوطني من المنافسة الأجنبية – هي الفلسفة التي تحكم أي علاقات تجارية لهم بالخارج.
ما يحدث في البلدان النامية من غليان ضد المنظمة، طُرح في قمة مجموعة السبع الأخيرة التي عُقدت في باريس بفرنسا، وأيد زعماء العالم دعاوى إصلاح منظمة التجارة العالمية، بعدما أصبحت لغة الحرب التجارية، سمة مميزة بين العديد من البلدان، ليس فقط بين الصين وأمريكا، حيث امتد اللهب إلى اليابان التي فرضت ضوابط أكثر صرامة، مستوحاة من ترامب، على المواد الكيميائية التي تستوردها كوريا الجنوبية لإنتاج أشباه الموصلات، وهو أكبر عنصر تصدير لديها، بسبب مخاوف تتعلق بالأمن القومي، ولم تكتف بذلك بل خذفت كوريا الجنوبية من قائمة شركائها التجاريين الموثوق بهم.
في المقابل ردت كوريا الجنوبية، بخفض رتبة اليابان على قائمتها الخاصة بالشركاء التجاريين والانسحاب من اتفاقيات لتبادل الاستخبارات العسكرية، ما يعني أن نهج الإدارة الأمريكية في مجال التجارة، لا يهدد النظام التجاري الدولي فقط، بل يهدم فلسفة التجارة الحرة ذاتها.
كيف سحقت العولمة الاقتصادية الدول النامية؟
تعتبر العولمة الاقتصادية، أحد أهم وأبرز التطورات التي شهدها الاقتصاد العالمي في نهاية القرن العشرين، وهي فلسفة تستمد قيمها من الليبرالية التي ترهن المنافسة بالقدرة على الإنتاج، ولكن المناخ الحاليّ يعمم فيه شعار البقاء للأقوى وليس الأكثر قدرة على التعايش وفهم تلابيب الواقع، كما تقول أدبيات الدارونية الاجتماعية.
خضع العالم لمغريات العولمة الاقتصادية ومفردات السيادة الاقتصادية العالمية، بدلاً من مقومات السيادة الاقتصادية الوطنية، وبمرور الوقت، أصبح من حق الدول الكبرى وباستخدام العولمة، فرض سياساتها الاقتصادية على دول العالم وخاصة النامية، ليس بهدف رفع كفاءتها، ولكن لتعطيل أي محاولات تُجرى للتنمية الاقتصادية فيها، لإبقاء هذه البلدان سوقًا استهلاكية رائجة للمنتجات الغربية، فمع لغة المال والمكاسب الطائلة تندثر أي قيم أخرى.
توصلت الاقتصادات النامية الضعيفة، ومنها الاقتصادات العربية، إلى أنها لن تستطع مجاراة الدول الكبرى في المنافسة، بسبب الضعف الواضح وفروق السنوات الطويلة في الخبرة الاقتصادية والتصنيع والحداثة، وبالتالي لن تربح هذه الدول شيئًا يذكر، إلا الخسارة التي تعرضت لها، وانتقصت من سيادتها بعدما سيطرت البنوك الكبرى، والمؤسسات العالمية على رؤوس أموالها وحجزت استثماراتها في الغرب، التي تقدر بمليارات الدولارات.
لعبة العولمة – أكذوبة التجارة الحرة/ وثائقية دي دبليو – وثائقي عولمة
في المقابل ساعدت العولمة الاقتصادية واشنطن على فرض الهيمنة الأمريكية، وساهمت في جعل الولايات المتحدة قطبًا أوحد للعالم، يهيمن على اقتصادات العالم ومصادر الطاقة، فضلاً عن تحقيق مصالح أغنياء الغرب والقوى المتحالفة معهم، على حساب الشعوب والحكومات التي تملك مواقف سياسية أو اقتصادية مخالفة لهم.
لم تحقق العولمة ما وعدت به، ولم يتحول العالم إلى منظومة من العلاقات الاقتصادية المتشابكة وفق نظام واحد يعتمد البشر فيه على بعضهم البعض في كل من الخامات والسلع والمنتجات والأسواق ورؤوس الأموال والعمالة والخبرة، حيث لا قيمة لرؤوس الأموال من دون استثمارها ولا قيمة لسلع دون أسواق تستهلكها.
حققت العولمة الاقتصادية نتائج مخالفة تمامًا لما روجته في بداية تدشينها، فدمرت الاقتصادات الناشئة وحولتها إلى حواضن أشباح
هذه المثالية لم تر النور، إذ سيطرت الشركات العملاقة عمليًا على الاقتصاد العالمي، ووضعت مال العالم في يد خمس دول هم: الولايات المتحدة الأمريكية واليابان وفرنسا وألمانيا وبريطانيا، قبل أن تلاحقهم الصين مؤخرًا.
حققت العولمة الاقتصادية نتائج مخالفة تمامًا لما روجته في بداية تدشينها، فدمرت الاقتصادات الناشئة وحولتها إلى حواضن أشباح، ويمكن الاستناد إلى التقارير الاقتصادية الصادرة عن مجلس الوحدة الاقتصادية العربية خلال السنوات الماضية، وتحذيرها البلدان العربية من أسر العولمة الاقتصادية، وتضمينها الكثير من تقاريرها ما يدعم مخاوفها، منه ما يخسره بلد مثل الجزائر ويصل بين 1.5 إلى ملياري دولار، بسبب انضمامه وتطبيقه قرارات اتفاقية التعرفة الجمركية “الجات”.
ليست الأزمة عربية فقط، ولكن إسلامية أيضًا، إذ يؤكد مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا، – وكان ولا يزال أحد الذين انتقدوا العولمة الاقتصادية بشدة – أن العالم المتعولم ليس أكثر عدلاً ومساواةً، ولا يخدم إلا مصالح الدول القوية المهيمنة، وهي بالنسبة له بلطجة سياسية واقتصادية لا تقل في تأثيرها على الدول النامية، عن “الإرهاب” الذي يخشى الغرب منه كثيرًا.
يعتقد الكثير من المراقبين، أن الصراع الأمريكي- الصيني أوصل بلدان العالم إلى مرحلة تجعل كل طرف على الساحة الدولية ينظر لتصرفات الآخر المنافسة له على أنها حرب عدوانية وليست حمائية
يربط مهاتير بين نتائج العولمة، ونتائج الحرب الباردة، فكما أدت الأخيرة إلى موت وتدمير كثير من الناس، فالعولمة فعلت الشيء نفسه، بعدما أصبح بإمكان الدول الغنية فرض هيمنتها وإرادتها على الباقين، وفي هذه الحالة لا يكون حالهم أفضل كثيرًا مما كانوا عليه عندما كانوا مستعمرين من نفس الدول.
الصراع الأمريكي والصيني.. ماذا يستفيد العالم؟
يعتقد الكثير من المراقبين أن الصراع الأمريكي – الصيني أوصل بلدان العالم إلى مرحلة تجعل كل طرف على الساحة الدولية ينظر لتصرفات الآخر المنافسة له على أنها حرب عدوانية وليست حمائية، ما يجعل المستثمرين يبحثون عن ملاذات محلية آمنة.
عرفت الدول وخاصة النامية من خلال الصراع الصيني الأمريكي، أن القوى الكبرى تمارس نفوذها وقوتها الاقتصادية بشكل غير مباشر، وعندما تتعارض المصالح، لا تتوانى عن التلويح بالحرب التجارية، للسيطرة على شركات البلدان المنافسة لها.
ليس هذا فقط، إذ لم تمنع العولمة، الشركات وخاصة عابرة القارات من دعم السياسيين للفوز بالانتخابات في أكبر بلدان العالم “الولايات المتحدة” ويستوي في ذلك منصب رئيس البلاد أو حكام ولايات أو أعضاء كونغرس وشيوخ، ما يشكل ردة على روح العولمة التي سُوقت للعالم، وتجعل معها حاجة ماسة لإعادة الدور الاقتصادي للبلاد، ولو بشكل نسبي، بعيدًا عن سياسات منظمة التجارة العالمية.
ويستند أنصار هذا الرأي، إلى أسباب قوة الحكومة الألمانية التي تدير اقتصادها، بالاعتماد على شركات صغيرة ومتوسطة المدى تصل إلى 70% من حجم إنتاج السوق، في وقت تشكل فيه الشركات الأجنبية العاملة في البلاد نسبة لا تتعدى 4%، وهذه تجربة تكفي للحكم على أهمية أن يكون للدولة قرار أمام المؤسسات العالمية التي تدار بشكل أو بآخر من خلف الستار لمصالح دول بعينها، ولا عزاء للشعارات والمثاليات الاقتصادية الكاذبة!