منذ إعلان إثيوبيا عن سد النهضة، تشعر الأوساط المصرية، الرسمية منها والشعبية على حدٍ سواء، بالقلق من تبعات هذا المشروع وتأثيراته على أمن مصر المائي ومستقبل التنمية في البلاد، خاصة أن مصر تعد واحدة من الدول التي تعاني شحًا شديدًا في الموارد المائية بالفعل.
وبعد فترة طويلةٍ من الشد والجذب بين البلدين، استمرت لنحو أربعة أعوام، نتيجة شروع إثيوبيا في بناء السد خلال فترة من الاضطراب السياسي في مصر، عُقدت الآمال على “إعلان المبادئ” الذي تم توقيعه في الخرطوم عام 2015 بين الدول الثلاثة، من أجل إدارة هذا الملف بشكل ملائم لجميع الأطراف.
ولكن يبدو أن المصريين قد عاودوا النظر إلى السد الإثيوبي باعتباره خطرًا حقيقيًا على حياتهم من جديد، وباتت المخاوف والهواجس مسيطرة على جميع الأطراف، لا سيما دولة المنبع الرئيسة (إثيوبيا) ودولة المصب الأخيرة (مصر).. فما الذي حدث؟
موت المفاوضات
أعلنت الحكومة المصرية، مساء أمس السبت، انتهاء المسار التفاوضي المتعلق بالتفاصيل الفنية بشأن بناء سد النهضة، بشكله الثلاثي التقليدي، الذي تم الشروع فيه على خلفية توقيع “إعلان المبادئ” مايو/آيار 2015، حيث قال المتحدث الرسمي باسم وزارة الري والموارد المائية المصرية إن المفاوضات مع الجانب الإثيوبي وصلت مؤخرًا إلى “طريقٍ مسدود”.
منذ أقل من شهر، قامت مصر بحشد الدعم العربي في مواجهة “مراوغات إثيوبيا” مسار المفاوضات “غير المريح”، من خلال اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة
وفسرت مصر الوصول إلى هذه المرحلة من “الجمود التام”، برفض الجانب الإثيوبي العرض الفني المصري الذي يقدم طرحًا متكاملًا لقواعد ملء السد وتشغيله، ويتسم بالعدالة والتوازن ويراعي مصالح الدول الثلاثة، وفقًا لما جاء في البيان. العرض المقدم من الجانب المصري يقترح ملء بحيرة السد التي تتسع إلى 74 مليار متر مكعب من المياه، خلال سبع سنوات، مع ضرورة الحفاظ على تدفق ما لا يقل عن 40 مليار متر من المياة إلى مصر، وتثبيت مستوى المياه في خزان أسوان عند 165 مترًا فوق سطح الأرض.
ليس هذا وحسب، بل قدمت إثيوبيا عرضًا جديدًا، اعتبرته مصر “ردةً عن كل ما سبق الاتفاق عليه من مبادئ حاكمة لعملية الملء والتشغيل”، في ضوء اتفاق الخرطوم الذي تقر مصر من خلاله بحق إثيوبيا في بناء السد، وترجئ الاتفاق على التفاصيل الفنية إلى مرحلة المفاوضات التالية بين الدول الثلاثة.
وتريد إثيوبيا من خلال المقترح المشار إليه أن تستمر عملية ملء بحيرة السد ثلاث سنوات فقط، وألا يشمل التفاوض عملية “تشغيل السد”، وهو ما يعني خصم مقدار سعة بحيرة السد البالغة 74 مليار متر مكعب من حصة مصر المائية، في أقل من نصف المدة التي اقترحها الجانب المصري.
ومن جانبه، أكد الرئيس المصري فشل مسار المفاوضات في منشور على صفحته بموقع “فيسبوك”، أشار خلاله إلى تمسك الدولة المصرية، ممثلة في كل مؤسساتها المعنية، بحقوق مصر المائية، والمضمونة بشهادة التاريخ والجغرافيا، وذلك بعد ما تبين له أن مسار المفاوضات بين مصر وإثيوبيا، “لم ينتج عنه تطور إيجابي”، خاصة بعد نتائج الاجتماع الثلاثي لوزراء الري في الخرطوم.
تصعيد متوقع
الإعلان المصري عن فشل المفاوضات واعتزام خوض مسار تصعيدي ضد التصور الإثيوبي عن مصير المشروع لم يكن مفاجئًا لكثير من المتخصصين والمراقبين، نظرًا لأن الجانب الإثيوبي وضع العراقيل أمام مسارات التفاوض على مدار الأربع سنوات الماضية، منذ التوقيع على اتفاق إعلان المبادئ بالخرطوم.
طالبت مصرُ أوروبا بالتدخل في المعادلة من خلال اجتماع نائب وزير الخارجية المصري للشؤون الإفريقية، حمدي سند لوزا، مع بعض سفراء الدول الأوروبية المعتمدين في مصر، والإشارة إلى قلقها من نتائج المفاوضات حول السد
وبحسب البيان المصري، فإن الجانب الإثيوبي أعاق المسار الخاص بإجراء الدراسات ذات الصلة بالآثار البيئية والاقتصادية والاجتماعية على دول المنبع، عبر امتناعه عن تنفيذ نتائج الاجتماع “التُساعي” وموافاة المكتب الاستشاري الدولي بملاحظات مصر والسودان.
ومنذ أقل من شهر، قامت مصر بحشد الدعم العربي في مواجهة “مراوغات إثيوبيا” مسار المفاوضات “غير المريح”، من خلال اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة، حيث أشار الأمين العام للجامعة العربية أحمد أبو الغيط (مصري) إلى أن أمن مصر المائي جزء لا يتجزأ من منظومة الأمن القومي العربي.
وقد مثلت كلمة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، خلال انعقاد دورتها الرابعة والسبعين في نيويورك، ذروة التعبير عن القلق المصري أمام ما سماه السيسي “عدم القيام بدراسات وافية لمثل هذا المشروع الضخم”، حيث دعا المجتمع الدولي إلى التدخل كطرفٍ في مسار التفاوضات، خوفًا من أن يؤدي تعثرها إلى انعكاسات سلبية على استقرار هذه المنطقة وتنميتها، خاصة مصر التي تعتبر المياة “قضية وجود”، وترفض مبدأ “الأمر الواقع”.
بعد ذلك مباشرةً، طالبت مصرُ أوروبا بالتدخل في المعادلة من خلال اجتماع نائب وزير الخارجية المصري للشؤون الإفريقية، حمدي سند لوزا، مع بعض سفراء الدول الأوروبية المعتمدين في مصر، والإشارة إلى قلقها من نتائج المفاوضات حول السد.
وساطة أمريكية
استجابتالولايات المتحدة الأمريكية فيما يبدو إلى النداءات المصرية، حيث صرح البيت الأبيض يوم الخميس الماضي بدعمه الدول الثلاثة في التوصل إلى اتفاقٍ يحقق المصالح المشتركة، مطالبًا الجميع بإبداء حسن النية للتوصل إلى اتفاق يحافظ على الحق في التنمية الاقتصادية والرخاء، ويحترم بموجبه – في الوقت ذاته – كل طرف حقوق الآخر في مياة النيل.
حسب خبراء، فإن الاقتراح الذي قدمته مصر بملء البحيرة على مدار سبع سنوات، والقبول خلالها بحصة 40 مليار متر مكعب، سوف يكبدها خسارة أكثر من ربع حصتها في مياة النيل
وتعتبر مصر من جانبها أنها قدمت كل ما يلزم من أجل إظهار حسن نواياها للجانب الإثيوبي، سواء كان ذلك بتوقيع “إعلان المبادئ” بالخرطوم، أم من خلال الموافقة على الانخراط في مسار تفاوضي دام لأكثر من أربعة أعوام، رغم عدم تقدمه فعليًا.
وبحسب خبراء، فإن الاقتراح الذي قدمته مصر بملء البحيرة على مدار سبع سنوات، والقبول خلالها بحصة 40 مليار متر مكعب، سوف يكبدها خسارة أكثر من ربع حصتها في مياة النيل التي تبلغ 55 مليار متر مكعب، كما سيؤدي إلى تدمير نحو ثلث رقعتها الزراعية المقدرة بـ10 مليون فدان، نظرًا لأن الفدان الواحد يحتاج من 5 إلى 6 آلاف متر مكعب مياة، وعلى المستوى المباشر، سوف تفقد مصر نحو مليون وظيفة وأكثر من 1.8 مليار دولار، منهم 300 مليون دولار عوائد إنتاج الكهرباء وبيعها.
وقد رحبت مصر بالتدخل الأمريكي على لسان المتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية السفير بسام راضي، الذي أكد أن مصر تتطلع إلى قيام واشنطن بدور فعال في هذه الأزمة، وتستند مصر في طلب الوساطة الدولية على المادة العاشرة من اتفاق إعلان المبادئ، التي تنص على “مشاركة طرف دولي في المفاوضات، للتوسط بين الدول الثلاثة، وتقريب وجهات النظر، والمساعدة في التوصل لاتفاق عادل ومتوازن يحفظ حقوق الدول من الافتئات على أي منها”.
الموقف الإثيوبي
وفي رد منها على التصعيد المصري، رفضت إثيوبيا، على لسان وزير المياة والطاقة والري سلشي بقل، اعتبار أن تكون المفاوضات مع مصر قد وصلت إلى طريق مسدود، ومن ثم فإنها ترفض التدخل الخارجي في المفاوضات، وتعتبره انتقاصًا من سيادتها.
على الصعيد الميداني، وصلت نسبة بناء السد إلى 67%، وتجاوزت الأعمال المدنية حاجز الـ80%، بالإضافة إلى 28% من المخطط الكهروميكانيكي
وبحسب المدير التنفيذي للمكتب الفني الإقليمي بشرق النيل، فإن إثيوبيا تعتبر أن اشتراط مصر تدفق نحو 40 مليار متر من المياة، والحفاظ على منسوب المياة في خزان أسوان، مقابل السماح للسد بالعمل، يعني اقتطاع نحو 20 مليار متر من مخزونها الإستراتيجي من المياة، بشكل قد يعوق ملء بحيرة السد من الأساس، مشيرًا إلى أن مصر تبادر بالاقتراح كما لو كانت الجهة المالكة للسد.
ومع ذلك، تراجعَ رئيس الوزراء آبي أحمد، في أحدث استجابة رسمية إثيوبية، عن هذه اللغة الحادة، مؤكدًا، في تغريدة على حسابه الشخصي بموقع “تويتر”، أن بلاده سوف تعزز من جهودها لإنجاح الحوار الثلاثي (دون الإشارة إلى طبيعة الجهود المنتظرة)، كما سوف تنتظر من مصر والسودان التزامًا مماثلاً.
وعلى الصعيد الميداني، وصلت نسبة بناء السد إلى 67%، وتجاوزت الأعمال المدنية حاجز الـ80%، بالإضافة إلى 28% من المخطط الكهروميكانيكي، وبحسب صور صادرة عن وكالة الفضاء الأوروبية وهيئة المسح الجيولوجي الأمريكية خلال شهر أكتوبر الحاليّ، فإن ثمة تسارع ملحوظ في أعمال الهياكل المعدنية الخاصة بتوربينات الضفة الغربية، بعد أن أوشكت نظيرتها في الضفة الشرقية على الانتهاء، كما وصلت نسبة حجز المياة في البحيرة البالغ طولها (حتى الآن) 10 كيلومترات وعرضها أكثر من 3 كيلومترات إلى نحو 1.5 مليار متر، قادمة من النيل الأزرق عبر الممر الأوسط بالسد.
وقد سعت إثيوبيا منذ عام 1997 إلى التشكيك في قانونية حصة مصر من مياة النيل، التي تضمنها عدد من الاتفاقيات التاريخية (أبرزها اتفاقية عام 1959)، بما يسوغ شروعها في بناء سدود ضخمة على النهر، يُتوقع أن تؤثر على نصيب مصر التاريخي في المياة، وبشكل مخصوص، أعلنت إثيوبيا وعدد من دول المنبع عدم الالتزام بهذه الاتفاقيات التاريخية، وإبرام إتفاقيةٍ جديدة بدلاً منها (عنتيبي/ 2010) تمنح هذه الدول أحقية بناء سدود، دون إخطار دولتي المنبع، حيث ترى هذه الدول، وعلى رأسها إثيوبيا، في سد النهضة مشروع القرن وبوابتها نحو التحديث.
الموقف السوداني
يحتفظ السودان بموقف أقل تشددًا من الموقف المصري حيال أزمة سد النهضة، ويرجع ذلك إلى مكاسبه الضخمة المتوقعة من وراء هذا المشروع، حيث يحاول أن تقرب وجهات النظر، ويكتفي بدور الوسيط الذي لا يظهر انحيازات واضحة.
ينتظر السودان، وفقًا للدكتور أسامة الأشقر، أن ينهي السد مشكلة الفيضانات في موسم الأمطار، ويضمن انسياب النيل الأزرق طوال العام
وبحسب مسؤولين من إثيوبيا، فقد عرضت الخرطوم أن تضمن أديس أبابا تدفق 35 مليار متر من المياه إلى مصر، ولكن مصر متمسكة بشروطها في حصة سنوية بـ40 مليار متر، خلال 7 سنين تمثل مدة ملء بحيرة السد، وعدم تضرر منسوب خزان الجنوب، كما تعتبر الخرطوم أن المفاوضات قد نجحت فنيًا، وتبقى اختلافات في بعض الأرقام والتفاصيل مثل الحد الأدنى من التصريف، واختيار مواسم وشهور ملء السد (طريقة التشغيل).
وينتظر السودان، وفقًا للدكتور أسامة الأشقر، أن ينهي السد مشكلة الفيضانات في موسم الأمطار، ويضمن انسياب النيل الأزرق طوال العام، بما يؤدي إلى زيادة الدورات الزراعية، كما تتوقع أن يساعد على حجز ملايين الأطنان من الطمي المترسب في قواعد سدود خشم القربة وسنار والروصيرص، التي تقلص من سعة السدود التخزينية والتوليدية، وتحتاج ملايين الجنيهات لإزالتها، بل وسيكون بوسعها شراء الكهرباء من إثيوبيا، بفضل سعة السد الضخمة التي تتجاوز سدودها الأربعة مجمعةً، بدلاً من التوليد الحراري الجاف.
الخطوات المقبلة
وفقًا لهذه المعادلة، فإنه في حال عدم توصل الخصميْن الفاعليْن (مصر وإثيوبيا) إلى حلٍ وسط، سوف تمضي إثيوبيا في طريقها إلى إنجاز مخططات السد وفق معدل “ثلاث سنوات” الذي وضعته لنفسها (بحلول عام 2022)، ضاربة عرض الحائط بالمصالح المصرية، وبغض النظر عن العواقب، وهي عين سياسة الأمر الواقع التي حذرت منها مصر، وقالت إنها ستواجهها قانونيًا.
في حال تعنتت إثيوبيا أمام الحشد المصري والضغط الشعبي، يرجح الخبراء أن تلوح مصر بالانسحاب من اتفاقية “إعلان المبادئ” الثلاثية من طرف واحد، واللجوء إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي
ومن جهتها، سوف تواصل مصر الحشد الدولي ضد إثيوبيا، خاصة في المحافل التي تمتلك مفاتيحها، مثل جامعة الدول العربية والاتحاد الإفريقي، بعد تولي مصر رئاسته، مُحاولةً إعادةَ إثيوبيا إلى حيز “إعلان المبادئ”، حيث يكون التفاوض على تفاصيل السد لا على السد نفسه، كما هو الوضع الآن.
وفي حال تعنتت إثيوبيا أمام الحشد المصري والضغط الشعبي، يرجح الخبراء أن تلوح مصر بالانسحاب من اتفاقية “إعلان المبادئ” الثلاثية من طرف واحد، واللجوء إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي، ليصبح مشروع السد برمته محل نظر من جديد، في ضوء الاتفاقات والأعراف الدولية المنظمة لحقوق الانتفاع من الأنهار الدولية المشتركة.