سرّ الدموع: لهذا نبكي

ترجمة وتحرير: نون بوست
يوجد ثلاثة أنواع من الدموع، إلا أن الرابط بين البكاء ومشاعر الفرح أو الحزن التي يعبّر عنها، لا يزال غير معروف لدى الباحثين.
إن مسألة الدموع فلسفية ومتناقضة، فهذا السائل من أقوى وسائل التعبير عن مشاعرنا. ولكن لا يبدو أن هناك تفسيرا علميا للرابط بين البكاء ومشاعر الفرح أو الحزن التي تساعدنا الدموع على التعبير عنها أحيانا بشكل لا إرادي. ولكن ربما يكون هذا الغموض هو سبب جمال هذه الظاهرة.
حسب إلينا خارين، أخصائية البصريات في مستشفى الملك خوان كارلوس في مدريد، فإن “الدموع تعبّر عن مدى تطورنا نحن البشر وإتقاننا للتعبير. لقد انتقلنا من مرحلة الغريزة وردود الأفعال إلى شيء أكثر تعقيدا في المستوى العصبي وفي الدماغ، لابتكار شيء يعكس مشاعرنا”.
في الأشهر الأولى من حياتنا، نستخدم البكاء كدليل على وجود شيء يزعجنا.
من الناحية البيولوجية، هناك ثلاثة أنواع من الدموع: الدموع القاعدية، والانعكاسية، والعاطفية. النوع الأول مسؤول عن إبقاء العين رطبة ونظيفة وفي حالة استعداد تام للقيام بوظيفة النظر، وهي موجودة باستمرار في العين لكننا لا نلاحظ ذلك. أما الدموع الانعكاسية فهي تلك التي تنشأ كردة فعل على مؤثرات خارجية، مثل ما يحدث عندما نقوم بتقشير البصل. وثالث نوع هو الدموع العاطفية المرتبطة بمشاعرنا. وبينما يوجد تفسير فيزيولوجي للنوعين الأولين، فإن النوع الثالث لا يزال يمثل لغزا فيما يتعلق بأصله ووظيفته.
أول إشارة للدموع تعود إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد
لا شك في أن استخدام الدموع للتعبير عن المشاعر يعود إلى وقت طويل جدا، وهو ما يفسره المؤرخ ميكائيل تريمبل في كتابه “لماذا يحب البشر البكاء”، حيث أن أول إشارة إلى الدموع تعود إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد في بعض الألواح التي تسجل وجود دموع رافقت خبر وفاة الإله بعل بين يدي حبيبته عنات. كما أن الأسطورة المصرية، إلى جانب الإغريقية والرومانية، تربط دائما بين الدموع والمشاعر. وعلى الرغم من أن هذا الرابط يقتصر على الجنس البشري، إلا أن هذا لا يعني أن الحيوانات لا تشعر وإنما لا تعبر عن مشاعرها عبر البكاء.
إن البكاء في حالة الفرح أو الحزن هو ما يميزنا نحن كبشر، ولكننا لسنا مولودين بهذه القدرة بل نتعلمها، وهي ابتكار طوره الإنسان عبر القرون للتواصل مع الآخرين بشكل أكثر فعالية من أي كلمات قد تقال.
متى نتعلم البكاء؟
أوضحت الدكتورة خارين أننا “لسنا مولودين مع القدرة على البكاء العاطفي، وإنما تتطور عبر الوقت. عند الولادة، يحمل الإنسان القدرة على ذرف الدموع القاعدية فقط، وحتى الدموع الانعكاسية تتطور خلال الأشهر الأولى. ومع مرور الوقت، تتطور لدى الإنسان الدموع العاطفية”.
تتطور هذه الوظيفة العاطفية للبكاء عندما نتقدم في السن، وتنقسم إلى نوعين مختلفين، أولهما البكاء عند الحزن الذي يظهر في وقت مبكر من الطفولة، وثانيهما بكاء الفرح الذي يظهر لاحقا
في أطروحة الدكتوراه، بينت هذه الباحثة أننا نحن البشر مولودون بميزة البكاء ربما لأننا نشعر بالخوف. ففي الأشهر الأولى من حياتنا، نستخدم البكاء كمؤشر على وجود شيء يزعجنا مثل التعبير عن الجوع والألم أو لطلب المساعدة من الكبار. ويخلق البكاء نوعا من التواصل غير اللفظي في هذه المرحلة التي يكون فيها الرضيع عاجزا تماما، وهو ما يجعل البكاء هنا يشبه نوعا من الحبل السري الصوتي بينه وبين الآخرين، إذ أننا نحن البشر على عكس الحيوانات، لا نستمتع بالاستقلالية ونفضل الاعتماد على الكبار.
البكاء هو شيء نتعلمه، اختراع طوره البشر على مر القرون للتواصل بشكل أكثر فاعلية.
تتطور هذه الوظيفة العاطفية للبكاء عندما نتقدم في السن، وتنقسم إلى نوعين مختلفين، أولهما البكاء عند الحزن الذي يظهر في وقت مبكر من الطفولة، وثانيهما بكاء الفرح الذي يظهر لاحقا ويعد نوعا أكثر نضجا من التعبير عن المشاعر. وتعد دموع الفرح في حد ذاتها لغزا يصاحب البكاء، وهي تتناقض مع الحزن من الوهلة الأولى، إلا أن أخصائي علم النفس أد فينغرهويتس الذي يعد واحدا من أبرز الخبراء في هذه المسألة، يشير إلى أن هذه الدموع تأتي من ذكريات الأوقات السيئة التي عشناها قبل بلوغنا لحظة السعادة، وهو ما يؤدي للبكاء.
ترى إلينا خارين أن ما هو مؤكد بالنسبة لنا هو أن بكاء الفرح أكثر نضجا من بكاء الحزن، كما يوجد نوع آخر يسمى بكاء التضامن، وهو الذي يحدث عندما تتعاطف مع الآخرين الذين يمرون بأوقات صعبة، أو عندما تفكر في اللحظات الحزينة التي مررت بها.
حسب دراسة أجراها عالم البيولوجيا الكيميائية وليام فراي في سبعينات القرن الماضي، فإن المرأة تبكي في المعدل من ثلاث إلى خمس مرات في الشهر، في حين يبكي الرجل 1.4 مرة فقط
عندما نتقدم في السن، تتغير استخدامات الدموع. ووفقا لأد فينغر هويتس: “نبكي في مرحلة الطفولة أساسا نتيجة للألم الجسدي، وفي مرحلة الكهولة نفقد هذه الصفة ويصبح بكاؤنا مرتبطا بالمسائل العاطفية. ولكن هناك أيضا أسباب أخرى، مثل الشعور بالفقد أو الضعف، التي تبقى دائما مسببة للألم طيلة مراحل حياتنا”.
حسب بحث أجراه أد فينغرهويتس بنفسه، فإن الشعور بالفقد أو القطيعة مع شخص آخر هو السبب الأساسي الذي يدفعنا للبكاء. ومن الأسباب الأخرى التي تبكينا المناسبات الإيجابية والسعيدة، أو مشاهدة حدث سلبي أو صراع. وحول الأشخاص الذين نذرف أمامهم الدموع، توصلت هذه الدراسة إلى أن 36 بالمئة من المستجوبين يكونون بمفردهم، و26 بالمئة مع الشريك، و22.5 بالمئة مع العائلة، و10.9 بالمئة مع الأصدقاء المقربين. في نفس هذه الدراسة، تبين أيضا أن أغلب الناس يبكون في المنزل، وخاصة في الليل بعد الساعة العاشرة، إلى جانب أنهم يبكون عندما يكونون بمفردهم أو مع شخص واحد من العائلة أو المقربين.
هل يتساوى الرجال والنساء في البكاء؟
الإجابة هي لا، فالنساء يبكين أكثر من الرجال. وحسب دراسة أجراها عالم البيولوجيا الكيميائية وليام فراي في سبعينات القرن الماضي، فإن المرأة تبكي في المعدل من ثلاث إلى خمس مرات في الشهر، في حين يبكي الرجل 1.4 مرة فقط. ويبدو الفرق أوضح إذا نظرنا إلى من لا يبكون، حيث أن نسبة النساء اللواتي لم تذرفن الدموع خلال الشهر السابق كانت 6 بالمئة فقط، بينما كانت عند الرجال 45 بالمئة.
في الأثناء، يعتبر عالم النفس جيفري كوتلر أن الرجال لا يستخدمون الدموع للتلاعب بالآخرين كما تفعل النساء، وعندما يبكون فإنهم يقومون بهذا الأمر بشكل أكثر تحفظ، حيث أنهم يقضون وقتا أقل ويذرفون دموعا أقل. كما يشير كوتلر إلى أن الرجال لا يفسرون عادة سبب بكائهم، بل يعتذرون بعد القيام بذلك.
من جهتها، ترى إلينا خارين أن بكاء النساء متأثر أكثر بالهرمونات، فقد أظهرت البحوث أن الهرمونات الأنثوية هي التي تسبب البكاء أكثر من هرمونات الذكورة. وهذا يعني أن الأمر يتجاوز مسألة الفروق الثقافية بين الرجال والنساء والأدوار المجتمعية، بل إنه مرتبط بأسباب بيولوجية.
لا توجد أدلة على أن للبكاء فوائد جسدية.
هل البكاء مفيد؟
في الحقيقة، لا توجد أي أدلة على أن البكاء يقدم فوائد جسدية. ولكن هذا لا يعني أن كل الدموع متشابهة، إذ أن مايكل تريمبل يفسر أن هناك فروقا في تركيبة الدموع، بحسب سببها، سواء كان ردة فعل أو عواطف. بناء على ذلك، يوجد في الدموع العاطفية نسبة أكثر من البروتين، ولكن في كل الأحوال، لم يثبت العلم أن الدموع تلعب دورا في طرح المواد الضارة من العين. وتقول خارين: “في المقابل صحيح أن الناس يشعرون بتحسن بعد البكاء، وذلك بسبب الشعور بالتخلص من شيء ما، إلا أنه ليس واضحا ما هو دور الهرمونات والعناصر الكيميائية المتدخلة في عملية البكاء في التأثير على مزاجنا”.
في بحثه الساعي لفهم هذه الظاهرة، أثبت أد فينغرهويتس أن البكاء قادر على التخفيف عن الناس، حيث أن ذرف الدموع أمام شخص قريب هي أفضل طريقة للتنفيس عن الحزن. وبنفس طريقة التحليل، قد يبدو منطقيا أن ذرف الدموع عند الشعور بالفرح هو وسيلة لتهدئة النفس. أما البكاء أمام عدد كبير من الناس فهو يجلب الإحراج أكثر من الراحة، وحتى الآخرون فإنهم يجدون صعوبة في الشعور بالتعاطف.
مهما كانت وظيفة الدموع، فإنه لا شك في قدرتها التواصلية العظيمة. ومن الجوانب الأخرى المثيرة للإعجاب في هذه الظاهرة، هو مدى تعقيد عملية البكاء. فقد أوضح مايكل تريمبل أن ” البلعوم والحنجرة يتعرضان لعملية إعادة تهيئة، إلى جانب نسق ضربات القلب والتنفس، حتى يقوم الإنسان بالابتسام أو الضحك أو البكاء العاطفي”.
في سياق متصل، أضافت إلينا خارين أن “المسار العصبي للغدة المسيلة للدموع معقد جدا، وهناك العديد من العوامل ونقاط الاشتباك العصبي التي تؤثر عليه. والبكاء أكثر تعقيدا من ردود أفعال أخرى يقوم بها الإنسان. ومن العجائب الأخرى هو أن الدموع القاعدية، التي ظهرت بسبب حاجة العين للتنظيف الجيد، وظهرت في شكل قطرات بلورية شفافة من أجل ضمان الرؤية الواضحة، تطورت لتعبر عن الفرح والحزن”.
المصدر: لافانغوارديا