استحوذت القمة العربية، التي انعقدت أمس في القاهرة على اهتمام واسع، كونها جاءت في توقيت بالغ الحساسية تمر به المنطقة عمومًا، والقضية الفلسطينية بشكل خاص، في ظل تصاعد مخططات التصفية ومحاولات حسم الصراع التي تقودها حكومة اليمين الصهيوني بأدوات الحرب والتهجير والدمار.
في صلب أعمال القمة، برز سؤال “اليوم التالي للحرب على غزة” بوصفه التحدي الأبرز الذي ينتظر من الدول العربية مقاربة واضحة للإجابة عليه، ليس فقط من بوابة الدعم الإنساني والإغاثي، بل عبر إجراءات سياسية وإدارية جادة، تتكامل مع رؤية مستقبلية مفترض أن يحملها رئيس السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير باعتباره الممثل الرسمي للشعب الفلسطيني.
ورغم أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس حاول الإيحاء خلال كلمته باتخاذ خطوات حاسمة تستجيب لحساسية هذه اللحظة الفارقة، إلا أن مضمون الخطاب سرعان ما كشف عن جوهر مختلف؛ خطابٌ صيغ بالدرجة الأولى لتلبية الاشتراطات العربية الرسمية حول شكل “النظام الفلسطيني” في المرحلة المقبلة، متجاهلًا عن عمد مواجهة الأسئلة الكبرى، ومتجاوزًا الاستحقاقات الوطنية الحقيقية التي يفرضها الواقع الميداني والسياسي.
متطلبات السلطة المتجددة
وكما أصبح “اليوم التالي” للحرب على غزة عنوانًا حاضرًا في الخطابات السياسية الغربية والعربية حول مستقبل القطاع، برز مصطلح “السلطة الفلسطينية المتجددة” كشرط أساسي ضمن أي رؤية لإدارة ما بعد الحرب.
هذا المصطلح لم يكن وليد اللحظة، بل ظهر مبكرًا على لسان الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن، الذي دعا في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، عبر مقال نشره في صحيفة واشنطن بوست، إلى أن تحكم “سلطة فلسطينية متجددة” الضفة الغربية وقطاع غزة في نهاية المطاف.
ومنذ ذلك الوقت، تكرر الطرح الأمريكي في عدة محطات رسمية، أبرزها في بيان وزارة الخارجية الأمريكية الصادر في 13 ديسمبر/كانون الأول 2023، والذي أكد أن “السلطة الفلسطينية ليست جاهزة بعد لإدارة غزة، لكنها تظل الممثل الشرعي للفلسطينيين، ويجب إصلاحها وتنشيطها استعدادًا لإعادة توحيد الضفة وغزة تحت إدارتها”.
عربيًا، حملت الإمارات لواء الدفع بهذا المشروع إلى الأمام، وظهر ذلك بوضوح في تفاصيل اجتماع سري كشف عنه الصحفي الأمريكي ديفيد إغناطيوس في واشنطن بوست.
الاجتماع جرى بمشاركة مسؤولين من الإمارات وإسرائيل والولايات المتحدة، برعاية الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان، وزير الخارجية الإماراتي، وبحضور المقرب من نتنياهو رون ديرمر ومسؤول الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي الأمريكي بإدارة بايدن، بريت ماكغورك.
ووفقًا للتسريبات، اقترحت الإمارات تشكيل “سلطة فلسطينية متجددة” تتولى دعوة شركاء دوليين للمساعدة في إدارة الأمن والمساعدات ضمن مرحلة انتقالية تستمر عامًا تحت مسمى “تفويض إعادة الاستقرار”. بعدها تبدأ مرحلة “تفويض إعادة الإعمار” التي تمتد سنوات، بمشاركة عربية وأجنبية، بينما توفر الولايات المتحدة مركز قيادة ودعم لوجستي من قاعدة قريبة في مصر.
وفي موازاة هذا الحراك، استضافت السعودية اجتماعات تشاورية ضمت مصر والأردن وقطر والسلطة الفلسطينية والإمارات، ركزت على بلورة ملامح “اليوم التالي لغزة”، مع التشديد على ضرورة إصلاح السلطة الفلسطينية كشرط أساسي لعودتها المحتملة إلى القطاع.
وحسب تسريبات موقع “أكسيوس” الأمريكي، فإن كبار مسؤولي أجهزة الاستخبارات العربية أبلغوا رئيس جهاز المخابرات الفلسطينية ماجد فرج بوضوح أن السلطة بحاجة إلى إصلاحات جذرية، تبدأ بإعطاء صلاحيات تنفيذية واسعة لرئيس وزراء جديد، مع تقليص التركيز السلطوي بيد الرئيس محمود عباس.
في مواجهة هذا الضغط الدولي والعربي، ناور الرئيس الفلسطيني للحفاظ على موقعه في معادلة “التجديد”، مجريًا تغييرات شكلية لم تمس جوهر سلطته، شملت تشكيل حكومة جديدة برئاسة محمد مصطفى، وإعادة تدوير قادة الأجهزة الأمنية، وتعيين رئيس للمجلس الوطني لتولي المهام الانتقالية في حال غيابه.
لكنها خطوات بقيت دون سقف التوقعات، وفشلت في إقناع الأطراف المعنية بأنها تفي بمتطلبات “السلطة المتجددة” التي يُراد لها أن تكون أداة وظيفية لإدارة قادرة على الإيفاء بالالتزامات وفق الرؤية الأمريكية- الإسرائيلية.
نائب للرئيس… تفرد بلا انتخابات وتعيين خارج التوافق
في استعراضه لجملة “الإصلاحات” التي زعم اتخاذها، أعلن عباس خلال كلمته في القمة العربية الطارئة بالقاهرة عن “استحداث منصب نائب لرئيس منظمة التحرير الفلسطينية ودولة فلسطين”، في خطوة مفاجئة حملت في طياتها رسائل سياسية أكثر مما حملت من مضمون إصلاحي فعلي.
وقال عباس: “في إطار التحديات التي تواجه قضيتنا في هذه المرحلة، نعمل على إعادة هيكلة الأطر القيادية للدولة، وضخ دماء جديدة في المنظمة وحركة فتح وأجهزة الدولة، ونعمل على عقد المجلس المركزي الفلسطيني خلال الفترة القريبة المقبلة”.
لكن خلف هذه الكلمات، يتضح أن جوهر التحركات ليس سوى تكريس لوحدانية حركة “فتح” في قيادة المؤسسات الفلسطينية، وترسيخ احتكار القرار السياسي داخل النظام الفلسطيني بلون سياسي واحد دون شراكة وطنية حقيقية.
بعد سنوات طويلة من الهيمنة المطلقة، جمّع من خلالها عباس بين الرئاسة والقيادة التنفيذية والتشريعية والقضائية، جاءت خطوة تعيين نائب للرئيس كاستجابة متأخرة للضغوط المتزايدة، ومحاولة استباقية لقطع الطريق أمام أي سيناريوهات إقليمية أو دولية قد تتجاوز السلطة بأكملها ضمن ترتيبات اليوم التالي للحرب، سواء في غزة أو في النظام الفلسطيني برمته.
الأيام التي سبقت القمة شهدت تحركات داخلية كشفت بوضوح هوية المرشح الأقرب لهذا المنصب، إذ قرر عباس إحالة رئيس هيئة الشؤون المدنية حسين الشيخ إلى التقاعد من مهامه الحكومية، مفسحًا له المجال للتفرغ لمنصبه كأمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية.
الخطوة المذكورة اعتبرت بمثابة “تهيئة المسرح” أمام الشيخ ليصبح الرجل الثاني رسميًا، دون انتخابات، ودون توافق وطني، مستندًا إلى ما يبدو أنه دعم إقليمي، وربما أمريكي أيضًا، بالنظر إلى حضوره البارز في اللقاءات العربية التحضيرية التي سبقت القمة، والتي بحثت مستقبل النظام الفلسطيني ومخرجات الحرب في غزة.
في المشهد العام، لم يعد الحديث يدور فقط حول “اليوم التالي لغزة”، بل بات واضحًا أن هناك ترتيبات تُحاك لليوم التالي للسلطة الفلسطينية نفسها، ضمن خريطة ترسمها العواصم الكبرى في المنطقة، وتحاول فيها القيادة الحالية فرض وقائع أحادية الجانب، تُقصي شركاء المشروع الوطني، وتُبقي مقاليد الحكم في أيدي دائرة ضيقة، حتى ولو كان ذلك على حساب وحدة الصف الفلسطيني وقدرته على مواجهة التحديات التاريخية المقبلة.
مصالحة فتحاوية… لا مصالحة وطنية!
وفي مشهد بدا وكأنه استجابة متأخرة لضغوط داخلية وخارجية، أعلن عباس أيضًا خلال كلمته في القمة عن إصدار “عفو عام” عن خصومه داخل حركة “فتح”، قائلًا: “وحرصًا منا على وحدة حركة فتح، قررنا إصدار عفوٍ عامٍ عن جميع المفصولين من الحركة، واتخاذ الإجراءات التنظيمية الواجبة لذلك”.
لكن خلف هذا الإعلان، لم يكن المقصود سوى فتح صفحة مصالحة فتحاوية داخلية، تهدف أولًا وأخيرًا إلى رأب الصدع داخل البيت الفتحاوي، لا داخل الصف الوطني الفلسطيني الأوسع. فالرئيس عباس الذي طالما تجاهل مبادرات الوحدة الوطنية، بدا اليوم أكثر اهتمامًا بإغلاق ملفات خصومه داخل “فتح”، وعلى رأسهم محمد دحلان، الذي يحظى بدعم إماراتي مطلق، وناصر القدوة، وتيار مروان البرغوثي الذي لا يخفي طموحاته القيادية.
لقد ظلت المصالحة مع دحلان تحديدًا خطوة يرفضها عباس مرارًا، متذرعًا بأنظمة الحركة، وبملفات قضائية، وبقنوات حوار عقيمة لا تفضي إلى نتائج. غير أن التحولات الإقليمية وضغوط العواصم المؤثرة، ولا سيما القاهرة وعمان وأبوظبي، دفعت عباس إلى الإقرار أخيرًا بأن استحقاق المصالحة الفتحاوية بات ضرورة لا يمكن المراوغة فيها، خاصة في ظل حديث عربي ودولي متزايد عن “تجديد الشرعية” وإعادة بناء السلطة.
لكن المعضلة الأخطر أن عباس، في سعيه لإنجاز مصالحة فتحاوية داخلية، قرر القفز عن المصالحة الوطنية الأشمل، متجاهلًا كل مخرجات الحوارات الفلسطينية، وآخرها “لقاء بكين” في يوليو/تموز 2024، ومفضّلًا التهرب من استحقاق الشراكة مع القوى والفصائل، وعلى رأسها حركة “حماس” وفصائل المقاومة.
لقد اختار عباس المسار الذي يضمن له أوسع دعم عربي ودولي، وتحديدًا من العواصم الداعمة لمشروع “السلطة المتجددة”، وابتعد عن الطريق الأكثر أولوية للشعب الفلسطيني، وهو طريق الوحدة الوطنية الشاملة، خوفًا من فقدان السيطرة على مقاليد الحكم، وتجنبًا لغضب واشنطن التي ترفض أي شراكة حقيقية مع قوى المقاومة.
في نهاية المطاف، ليست هذه “المصالحة” سوى محاولة جديدة لإعادة ترتيب المشهد الداخلي بما يضمن استمرار التفرد بالسلطة، تحت غطاء “تجديد” شكلي، يبقي الخلافات الوطنية الكبرى معلقة بلا حلول، ويترك غزة والضفة والقدس رهائن لمعادلات سياسية تفرضها المصالح الشخصية وحسابات البقاء السياسي.
تجاوز المقترح المصري لإدارة غزة
في واحدة من أكثر اللحظات وضوحًا في كلمته أمام القمة العربية، كشف محمود عباس عن تصوره الحصري لليوم التالي في قطاع غزة، حين قال: “تتولى دولة فلسطين مهامها في قطاع غزة من خلال مؤسساتها الحكومية، وقد تم تشكيل لجنة عمل لهذا الغرض، وتستلم الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية مسؤولياتها، بعد هيكلة وتوحيد الكوادر الموجودة في قطاع غزة، وتدريبها في مصر والأردن”.
بهذا الإعلان، تجاهل عباس بشكل متعمد الحديث عن المقترح المصري للإدارة الانتقالية للقطاع، الذي يقوم على تشكيل لجنة مستقلة تتولى إدارة غزة في مرحلة ما بعد الحرب، وتُشرف على ترتيبات الحكم المؤقتة وجهود الإغاثة وإعادة الإعمار.
ورغم إعلانه دعم خطة الإعمار المصرية، إلا أن تغييب هذا التفصيل في كلمته لم يكن عفويًا، بل جاء بمثابة رفض رسمي مبطن للمقترح المصري، الذي أعاد إحياء فكرة “لجنة الإسناد المجتمعي” التي وافقت عليها الفصائل الفلسطينية، ورفضتها حركة فتح وأجهضت مساعي تشكيلها في مراحل سابقة.
خطاب عباس حمل بصمة المناورة ذاتها المعتادة؛ الرسالة التي أراد توجيهها واضحة: السلطة وحدها صاحبة الحق في إدارة غزة، دون شراكات انتقالية أو لجان مستقلة، ودون أي أدوار تُوزع خارج دوائر القرار الضيقة في رام الله.
لكن أكثر ما يفضح جوهر هذه المناورة هو توقيت هذه التصريحات، إذ تأتي في ظل تصاعد الضغوط العربية والدولية التي تدفع باتجاه إعادة ترتيب النظام السياسي الفلسطيني برمته، لا فقط في قطاع غزة.
يدرك عباس جيدًا أن تجاهل هذه الضغوط يعني فتح الباب أمام تجاوزه تمامًا، تمامًا كما حدث مع الرئيس الراحل ياسر عرفات في ذروة انتفاضة الأقصى، حين فُرض عليه موقع رئيس الوزراء، وكان محمود عباس نفسه أول من شغل هذا الموقع في محاولة لتقييد سلطات عرفات، وصولًا لعزله الفعلي عن القرار.
اليوم، يلعب عباس الدور ذاته الذي طالما خشيه. يناور، يلتف، ويحاول ضمان ألا تفلت خيوط السلطة من يديه. لذلك جاءت كلمته مغلفة بشعارات “الإصلاح”، لكنها في العمق تعكس رغبة جامحة في تكريس التفرد وتعزيز السيطرة، مع إقصاء كل ما من شأنه إعادة الاعتبار للمشاركة الوطنية الحقيقية.
وما يزيد من حدة هذه الحسابات، هو إدراك عباس أن استكمال صفقات التبادل القادمة قد تفتح الباب لعودة رموز وقيادات فتحاوية تحظى بشعبية واسعة، وعلى رأسها مروان البرغوثي، الذي يُنظر إليه باعتباره الرقم الأصعب في معادلة خلافة عباس، وقائدًا يمكن أن يعيد التوازن داخل الحركة وخارجها.
ولهذا، تبدو خطوات “توحيد البيت الفتحاوي” وتعيين نائب للرئيس ليست سوى دروع وقائية يستعد بها عباس للمواجهة القادمة، محاولًا إحكام قبضته على السلطة قبل أن تفرض عليه السيناريوهات الإقليمية والدولية واقعًا لا يرغب في مواجهته.
في النهاية، الاستحقاق في غزة ليس مجرد معركة لإعادة الإعمار، بل ساحة اختبار حقيقي لميزان القوى داخل النظام السياسي الفلسطيني كله، وعباس قرر أن يخوض هذا الاختبار بطريقته المعتادة: الاستئثار أولًا… والشراكة المؤجلة إلى أجلٍ غير مسمى.