بعد سنوات من تراكم الفشل السياسي والأمني والاقتصادي بالإضافة لخيبات الأمل التي تعرض لها العراقيون بالوعود الكاذبة من الطبقة السياسية الحاكمة قبيل كل انتخابات -الأحزاب الدينية تحديدًا- التي لطالما بقيت غصَّة في نفوس العاطلين والفقراء والباحثين عن لقمة العيش، بدأ الجيل الجديد من الشباب العراقي الذي دخل مؤخرًا في الاحتجاجات من أوسع أبوابها بالاحتجاجات السلمية بعد أن تنصل “متعهد التظاهرات” التيار الصدري والحزب الشيوعي من دعمهم في أثناء دعوات لانطلاق التظاهرات قبل أسبوع من انطلاقها.
فقدان الثقة
لم تنتم التظاهرات إلى أي تيار سياسي أو حزبي وهو ما عقَّد التواصل الاجتماعي والحكومي مع المنظمين أو من تقديم أي مبادرات للحوار من أي طرف سياسي في العراق، حتى قيادات التيار الصدري – الذي يعتبر قريبًا من الجماهير- امتعض المتظاهرون منهم واعتبروا ما قاموا به غدرًا بهم عندما لم ينضموا إليهم في أثناء تنظيمهم للتظاهرات قبل انطلاقها، وعندما حاول أحد القيادات في مدينة الصدر التواصل مع بعض قيادات التنسيقيات، كان ردهم قاسيًا بأن سبوه واتهموه بمحاولة الصعود على أكتاف الانتفاضة، وهو تطور خطير في أزمة الثقة، فالفجوة تتسع أكثر وأكثر كل يوم إلى مستويات قياسية ربما لم تصلها الجماهير العراقية خاصة الشيعية مع النخب السياسية منذ 2005.
وضع العصي في عجلة استمرار التظاهرات
عدم وقوف أي جهة سياسية معروفة خلف التظاهرات لحمايتها جرأ الحكومة وأجهزتها الأمنية والميليشيات على قمعها وإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين مما رفع أعداد الجرحى والقتلى، مع تزايد وتيرة العنف بشكل تصاعدي منذ اليوم الأول لانطلاقها ودفعها لاستخدام عدة أدوات لعرقلة استمرارها كقطع الإنترنت للحد من التواصل بين منظمي التجمعات والاعتداء على كوادر القنوات الفضائية التي تنقل الأحداث وتحطيم محتويات بعضها.
هناك أسباب موضوعية وبنيوية مبررة لانداع أي تظاهرات في أي وقت من الأوقات في العراق إذا كان هناك أي شرارة ما، وذلك للمعطيات والأزمات المتفاقمة منذ عام 2005 التي تنتظر حلولاً حقيقيةً دون تسويف
أما على المستوى الأمني فقد قُطعت الشوارع بالأسلاك الشائكة وفُرض حظر التجول ومارست القوات الأمنية اعتقالات وضرب بالهروات وتدخل عناصر ملثمة من الميليشيات التي أطلقت الرصاص الحي واعتلت المباني لقنص الناشطين واغتالت عددًا من الشباب رغم عدم بروزهم بشكل واضح إعلاميًا، ناهيك عن الانتشار الأمني الكثيف للأجهزة الأمنية وتلقي عدد من الناشطين تهديدات من هواتف مجهولة.
لكن جميع تلك الإجراءات لم تمنع المتظاهرين من الاستمرار بالمطالبة بحقوقهم المشروعة، بل على العكس التظاهرات في ازدياد وسقف المطالب يرتفع كل يوم تأخير عن تحقيقها.
في أسباب التظاهرات
هناك أسباب موضوعية وبنيوية مبررة لاندلاع أي تظاهرات في أي وقت من الأوقات في العراق إذا كان هناك أي شرارة ما، وذلك للمعطيات والأزمات المتفاقمة منذ عام 2005 التي تنتظر حلولاً حقيقيةً دون تسويف، مثل تغول لوبيات الفساد وتفاقم معدلات البطالة والفقر بين الشباب والعجز عن تقديم الخدمات وانتشار المخدرات بشكل مخيف وعصابات الجريمة المنظمة مع صمت أو تواطؤ المراجع الدينية على كل ما يجري.
العملية السياسية في العراق تلقى دعمًا سياسيًا من الدول الإقليمية والمجتمع الدولي، والتنافس الحاصل بين النفوذ الأمريكي والإيراني هو في إطار هذه العملية السياسية الفاسدة
من جهة أخرى، فقد كانت شرارة انطلاق التظاهرات عندما طردت الحكومة أصحاب البسطات من البسطاء المتجولين في بغداد وتجريف مئات المنازل العشوائية في ضواحي العاصمة من دون تقديم أي بديل لهم، بالإضافة إلى إهانة حاملي الشهادات العليا في اعتصام نظموه قبيل انطلاق التظاهرات للمطالبة بتعيينهم وانتقادهم لاقتصار التعيينات على الأحزاب السياسية وكوادرها، ناهيك عن تهاوي قطاعي التعليم والصحة وظهور الفساد المالي والأخلاقي إلى العلن في المؤسسات الدينية التي لطالما بقيت تعتبر من المقدسات في نفوس الكثير من العراقيين.
الواقع والمستقبل
العملية السياسية في العراق تلقى دعمًا سياسيًا من الدول الإقليمية والمجتمع الدولي والتنافس الحاصل بين النفوذ الأمريكي والإيراني هو في إطار هذه العملية السياسية الفاسدة، فلا توجد أطراف لها مصلحة في إلغائها أو تغييرها لكن من الممكن الدفع باتجاه حكومة طوارئ أو انتخابات مبكرة بإشراف أممي إذا استمرت المظاهرات وكان هناك رغبة أمريكية حقيقية لقلب الطاولة على إيران ونفوذها، فالمتظاهرون وأصواتهم ودماؤهم التي سالت ومطالبهم المُعبرة عن آلامهم لم تلق ذلك الصدى الإقليمي والدولي ولا حتى الداخلي الذي من الممكن أن يُعوَّل عليه للتغيير السياسي المنشود إلا إذا استمروا وأصروا على التغيير، ولن يكون ذلك دون دمائهم الطاهرة التي ستسقي أي بذور مشروع تغيير مستقبلي يضع حدًا للوبيات الفساد ومافيات السلطة وتجار الدين.