لم يكن اختيار رئيس المجلس السيادي السوداني الحاكم عبد الفتاح البرهان، ورئيس الحكومة عبد الله حمدوك، السعودية، لتكون محطة لأول زيارة خارجية مشتركة لهما، اختيارًا عشوائيًا، إذ كشفت الأسابيع القليلة الماضية حجم التقاطعات الكبيرة في مسار العلاقات بين البلدين.
الزيارة التي بدأت أمس الأحد، ولمدة يوم واحد فقط، وتشمل الإمارات بجانب المملكة، رغم أنها جاءت بناءً على دعوة من العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز وفق منشور مجلس السيادة السوداني، فإنها تعكس حجم الأزمة التي يواجهها السودان لا سيما على المستوى الاقتصادي، والملفات الشائكة التي يرتبط بها مع الرياض، داخليًا وخارجيًا.
جولة ليست الأولى من نوعها للبرهان ولا نائبه محمد حمدان دقلو “حميدتي”، منذ انطلاق الحراك الثوري في ديسمبر الماضي، إلا أنها ألقت بظلالها هذه المرة على الشارع السوداني كونها الأولى منذ تدشين سودان ما بعد الثورة، لتبقى كل السيناريوهات بشأن دوافعها الحقيقية مفتوحة على مصراعيها.
دلالة التوقيت
ربما يميط توقيت الزيارة اللثام عن الكثير من التساؤلات عن دوافع اختيار المملكة كمحطة أولى للزيارة، كونها جاءت في وقت يعاني فيه السودانيون من أزمات خانقة، بعضها ربما يهدد مستقبل الثورة وتبعاتها، ويعيد أجواء ديسمبر مرة أخرى، حال الفشل في التعاطي معها.
وينقسم هذا المحور إلى شقين، الأول: البداية المتعثرة في التواصل مع المؤسسات الاقتصادية الدولية ومنها صندوق النقد الدولي الذي تلكأ في التجاوب مع الخرطوم فيما يتعلق بتقديم المنح والقروض التي من الممكن أن تساهم بشكل أو بآخر في تخفيف حدة الأزمة التي تفاقمت بالطبع بعد هذا التعثر.
السودانيون كانوا يأملون في أن يسهم حراكهم وما تمخض عنه من دولة جديدة على أسس مدنية وبإرادة شعبية في تغيير موقف المؤسسات الدولية، وأن يفتح نوافذ عدة للتعاون من أجل تعزيز هذه الخطوة التي لاقت ترحيبًا دوليًا كبيرًا، لكن الأمور لم تكن على مستوى المأمول.
من الواضح أن الصعوبات الاقتصادية ستكون الأهم في أجندة الجولة السودانية في السعودية والإمارات بغرض حث الدولتين على تقديم الدعم الاقتصادي العاجل
أما الشق الثاني فيتعلق بوقف كل من الرياض وأبو ظبي دعمهما المالي والسلعي للسودان في الوقت الحاليّ، بعد أن منحت الدولتان للخرطوم ثلاثة مليارات دولار وفق ما صرح به وزير المالية السوداني أحمد البدوي أواخر سبتمبر/أيلول الماضي، وذلك وفقًا لمصادر دبلوماسية تحدثت لـ”الجزيرة“.
قرار كهذا أثر بشكل كبير على الوضع الاقتصادي الداخلي، في وقت تعاني فيه البلاد من أزمة خانقة ورثها النظام الحاليّ بعد سنوات طويلة من حكم البشير، وهو الأمر الذي جعل السودان في أمس الحاجة للدعم والمعونات الخارجية من أي اتجاه، فكيف يكون الحال إن تعلق الأمر بأكبر دولتين داعمتين للسودان.
البرهان مع ولي العهد السعودي
الدعم المالي على رأس الأولويات
من الواضح أن الصعوبات الاقتصادية ستكون الأهم في أجندة الجولة السودانية في السعودية والإمارات بغرض حث الدولتين على تقديم الدعم الاقتصادي العاجل، هكذا علقت الكاتبة أميرة ناصر، الصحفية المتخصصة في الملف السوداني، لافتة إلى أن الوضع الاقتصادي الصعب للسودان كان الدافع الأبرز لهذه الخطوة.
ناصر في حديثها لـ”نون بوست” أشارت إلى أن هناك العديد من التحديات الاقتصادية التي يواجهها سودان ما بعد ثورة، على رأسها ارتفاع حجم الدين العام ليصل إلى قرابة 45 مليار دولار، وهو يعادل 88% من الناتج المحلي الإجمالي، هذا بخلاف تزايد معدلات البطالة والتضخم لمستويات غير مسبوقة.
وأوضحت أن البلاد دخلت في سباق مع الزمن لإقناع المجتمع الدولي بتقديم الدعم اللازم لتجاوز الخراب الذي ضرب أركان الاقتصاد طيلة العقود الثلاث الماضية، فيما يرى مقربون من دوائر صنع القرار هناك أن ذلك يشكل اختبارًا حاسمًا لمدى قدرة الحكومة الجديدة على النجاح في معالجة المشاكل المزمنة.
“الدخول في الحرب قرار صعب، كما أن الخروج منها يحتاج إلى عدد من الترتيبات، فأنت لا تستطيع أن تدخل الحرب وتخرج منها في يوم واحد، هذا القرار يُدرس وتتم مناقشته بصورة مستمرة في كل مستويات الحكم”.. المتحدث باسم المجلس السيادي السوداني
يذكر أنه خلال الجلسة الافتتاحية لاجتماع الأمم المتحدة التنسيقي في الخرطوم مطلع الشهر الماضي، دعا حمدوك الأمم المتحدة إلى “لعب دور رائد” في تنظيم الدعم الدولي لبلاده، وقد ناقش الاجتماع الذي استمر 3 أيام خريطة طريق أممية لدعم الحكومة الانتقالية في مجالات كثيرة تركز على التنمية والاقتصاد.
الاجتماع استضاف خبراء سودانيين ودوليين يقدمون عروضًا بشأن الاتجاهات المستقبلية المحتملة لمشاركة الأمم المتحدة في السودان خلال المرحلتين الحاليّة والمستقبلية، غير أن المخرجات لم ترتق لمستوى طموحات السودان الطالع إلى استثمار التعاطف الدولي مع الانتقال السياسي في البلاد لأجل إصلاح الأوضاع الاقتصادية القاسية.
الملف اليمني.. نقطة اشتباك
القوات السودانية الموجودة في اليمن تمثل هي الأخرى محورًا مهمًا من محاور الزيارة، لا سيما بعد التطورات الأخيرة التي شهدتها الساحة اليمنية، سواء بين الحلفاء، السعودية والإمارات، أم مستقبل الوجود السوداني المنضوي تحت لواء قوات التحالف، الذي يمثل العصب الأساسي لها.
في 30 من سبتمبر الماضي، قال المتحدث باسم مجلس السيادة محمد الفكي: “مشاركة القوات السودانية في اليمن (تقدر بنحو 30 ألف جندي) قضية أثارت جدلاً واسعًا في الفترة السابقة، وأعتقد أن الجدل متصاعد بسبب الانقسام العربي الأخير. عندما شاركنا في اليمن، شاركنا كقوات عربية موحدة، وكان بها عدد من الدول العربية التي خرجت عقب الانقسام الخليجي الأخير، وبعدها شهدنا هذه المساجلات”.
وأضاف في مقابلة مع “الأناضول“: “الدخول في الحرب قرار صعب، كما أن الخروج منها يحتاج إلى عدد من الترتيبات، فأنت لا تستطيع أن تدخل الحرب وتخرج منها في يوم واحد، هذا القرار يُدرس وتتم مناقشته بصورة مستمرة في كل مستويات الحكم، وسيتشكل المجلس التشريعي قريبًا ليقول كلمته الفاصلة في تلك القضية”.
سبقت تلك التصريحات بعض الإجراءات المتعلقة بالشأن ذاته، إذ سحبت الخرطوم ثلاثة ألوية عسكرية من اليمن من مجموع ست ألوية، وشملت الإجراءات سحب كل القوات السودانية من المواقع المطلة على تحرك القوات المدعومة إماراتيًا باليمن في محور عدن، فيما لوحظ تراجع الاهتمام السعودي بأوضاع قوات الدعم السريع، حسبما ذكرت مصادر عسكرية لـ”الجزيرة”.
وتشير بعض المصادر إلى حالة الخلاف الواضحة بين أعضاء الحكومة الانتقالية السودانية، بين المدنيين والعسكريين، فيما يتعلق بمسألة استمرار القوات السودانية في اليمن، حيث تصاعدت بعض الأصوات التي تطالب بسحبها كون هذه المشاركة أحد أسباب عدم رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب وفق ما ذكر وزير المالية إبراهيم البدوي، وهي الأصوات التي احتج عليها المكون العسكري في مجلس السيادة.
تشكيلة الوفد السوداني للرياض تعزّز من فرضية أن يتصدر ملف الوجود العسكري السوداني في اليمن جدول أعمال الزيارة، خاصة أن على رأسه الفريق أول البرهان الذي كان يشغل منصب المنسق لتلك القوات قبل تقلده منصب المفتش العام للجيش ثم رئاسة المجلس العسكري الانتقالي عقب الإطاحة بالرئيس البشير.
قرابة 30 ألف جندي سوداني يشاركون إلى جانب قوات التحالف في اليمن منذ 2015
المبادئ في مواجهة المصالح
لم تكن التحديات الاقتصادية والمشاركة في حرب اليمن وحدها الملفات التي يحملها الوفد السوداني خلال زيارته للمملكة، فهناك أيضًا بعض الملفات السياسية الأخرى على رأسها مساعي رفع اسم البلاد من قوائم الإرهاب، التي تعول فيها الخرطوم على الرياض نظرًا للعلاقة الوطيدة التي تربطها بإدارة الرئيس دونالد ترامب في الوقت الراهن.
حالة من الترقب تنتاب الشارع السوداني في انتظار كيفية خروج سودان ما بعد الثورة من هذا التحدي الصعب، فالمبادئ التي رفعها الثوار على مدار أكثر من 9 أشهر وحملت شعارات الاستقلالية وعدم التبعية وسحب الجنود المشاركين في أي حروب خارجية وإعلاء مصلحة البلاد أمام أي إغرءات، باتت اليوم في مواجهة صعبة مع المصالح التي تقتضي المرونة بعض الشيء في التعاطي مع بعض تلك الشعارات للحصول على الدعم والمساعدات لإنقاذ الوضع الداخلي.
تحد يرتقي لدرجة المغامرة، فكل الخيارات مرة بالنسبة للنظام السوداني، إذ إن قبول الصفقة وإن كان من الممكن أن يعالج التوتر الاقتصادي الداخلي إلا أنه سيزيد من حدة الغضب
معادلة يراها البعض صعبة، فبقاء القوات السودانية في اليمن مسألة حيوية جدًا للحليف السعودي الذي يتكبد خسائر جمة في الأرواح والممتلكات على حد سواء، هذا بخلاف النزاع غير الملعن مع الإمارات في خريطة التوجهات داخل البلاد، وهو ما يجعل هذه الورقة سلاح ضغط بيد السودانيين لاستئناف المملكة دعمها مرة أخرى.
وفي المقابل فإن القبول بهذه الصفقة ربما يشوّه صورة المجلس السيادي والحكومة لدى الشارع الثوري الذي أبدى تحفظه قبل ذلك على تدخل السعودية والإمارات ومصر في الشأن السوداني خلال الأشهر الماضية، وانحيازهم الواضح للمجلس العسكري على حساب الحراك، وهو الموقف الذي من الصعب نسيانه في الوقت الراهن.
تحد يرتقي لدرجة المغامرة، فكلّ الخيارات مرة بالنسبة للنظام السوداني، إذ إن قبول الصفقة وإن كان من الممكن أن يعالج التوتر الاقتصادي الداخلي إلا أنه سيزيد من حدة الغضب الذي قد يتحول إلى حراك جديد، وفي المقابل فإن التمسك بالمبادئ ربما يزيد الوضع تأزمًا، ما قد يمهد الطريق لغضب شعبي من نوع آخر.
وفي المجمل فإن البحث عن إستراتيجيات جديدة تحدث التوازن في العلاقات وتمنح السودانيين استقلالية في القرار، توازيًا مع قرارات اقتصادية سريعة تخفف من الوضع المعيشي المتأزم، يعد أول اختبار حقيقي لنظام البرهان وحمدوك، وهو ما تكشفه الأيام القادمة.