ترجمة وتحرير: نون بوست
انتهت الحرب الأهلية السورية التي استمرت 13 عاما بشكل مفاجئ في ديسمبر/ كانون الأول، عندما زحف ثوار “هيئة تحرير الشام” ذات التوجه الإسلامي نحو دمشق قادمين من معاقلهم في شمال غرب البلاد، ما أدى إلى سقوط نظام بشار الأسد.
في غضون أسابيع، انتهى نظام استمر ستة عقود. وتحت قيادة البراغماتي أحمد الشرع، تقود “هيئة تحرير الشام” الحكومة السورية المؤقتة، وهي على وشك تشكيل حكومة انتقالية سيتم الكشف عنها في الربيع.
من غير الواضح حتى الآن كيف سيتمكن الشرع من توحيد بلد متنوع ومنقسم، وما إذا قادرًا على السيطرة على العناصر المتشددة في “هيئة تحرير الشام”، وهل سيحظى بدعم الطوائف السورية المختلفة إذا اتجه نحو سياسة أكثر اعتدالًا وشمولية.
ومن بين الملفات الشائكة التي تواجه سوريا مستقبل الوجود الأمريكي في البلاد؛ فمنذ سنة 2014، دعمت واشنطن حكمًا شبه ذاتي في شمال شرق سوريا، وتشكل أساسًا من من فصائل كردية. واستفاد تحالف قوات سوريا الديمقراطية من فوضى الحرب الأهلية السورية لتشكيل جيب انفصالي على الحدود مع تركيا.
وقد قاتلت قوات سوريا الديمقراطية ضد قوات الأسد وتركيا والمليشيات المدعومة من تركيا والجماعات المرتبطة بالقاعدة، وضد تنظيم الدولة. وعملت القوات الأمريكية بشكل وثيق مع قوات سوريا الديمقراطية لطرد تنظيم الدولة من آخر معاقله في سوريا. ولا تزال الولايات المتحدة تحتفظ بحوالي 2000 جندي ـ بالإضافة إلى المتعاقدين ـ في نحو 12 موقعًا وقاعدة صغيرة في شرق سوريا لدعم جهود قوات سوريا الديمقراطية المستمرة في القضاء على تنظيم الدولة وصد الهجمات التركية.
وعلى الرغم من هذا الدعم، لا يزال تنظيم الدولة نشطًا بقوة في سوريا، ومع سقوط نظام الأسد، يمكن للولايات المتحدة اختيار العمل مع شريك من المحتمل أن يكون أكثر تأثيرًا وفعالية في المعركة ضد بقايا تنظيم الدولة: الحكومة السورية الجديدة في دمشق. وقد يعزز التعاون الأكبر ـ سواء كان مباشرًا أو غير مباشر ـ مع هذه الحكومة الناشئة؛ الأمن الإقليمي، ويساعد في إنهاء القتال المستمر في شرق سوريا، ويسمح للولايات المتحدة بتخصيص موارد أقل للبلاد. ولقد أعرب الرئيس دونالد ترامب منذ فترة طويلة عن أسفه للتورط الأمريكي في الصراعات الخارجية، خاصة في الشرق الأوسط. إن الشراكة مع الحكومة الانتقالية الجديدة في دمشق ستمكن الولايات المتحدة من مغادرة سوريا وفقًا لشروطها الخاصة.
الأداة الخاطئة
ويرى العديد من المسؤولين والمحللين الأمريكيين أن الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا تعتبر شريكًا موثوقًا في ضمان ما تأمل واشنطن أن يكون “الهزيمة الدائمة” لتنظيم الدولة في البلاد. ومع ذلك، فشلت قوات سوريا الديمقراطية، الجناح العسكري للإدارة الكردية، في القضاء على الجماعة الإرهابية. وبعد ست سنوات من تمكن قوات سوريا الديمقراطية من السيطرة على آخر معقل لتنظيم الدولة في سوريا، ولا يزال مقاتلو تنظيم الدولة يعملون في وسط وشرق سوريا.
إن أفعال قوات سوريا الديمقراطية قد أثارت الاستياء بين المجتمعات العربية المحلية؛ إذ تسيطر وحدات حماية الشعب، وهي ميليشيا كردية، بشكل محكم على قوات سوريا الديمقراطية، وقد ارتكبت عمليات قتل خارج نطاق القضاء واعتقالات غير قانونية لمدنيين عرب، وابتزاز العرب الذين كانوا يحاولون الحصول على معلومات عن أو إطلاق سراح أقاربهم المعتقلين، وجندت شبابًا عربًا بالقوة في صفوفها، وحرفت النظام التعليمي ليتماشى مع الأجندة السياسية لـ”وحدات حماية الشعب”، وجندت العديد من المقاتلين الأكراد غير السوريين. وهذه الأفعال دفعت بعض السكان المحليين إلى الانضمام إلى صفوف تنظيم الدولة. وعلى الرغم من أن هذه التجاوزات لا تقارن بتلك التي ارتكبها نظام الأسد، إلا أنها تسببت في توتر كبير مع المجتمعات العربية، خصوصًا في المناطق التي تقود فيها وحدات حماية الشعب قوات سوريا الديمقراطية.
وتتعرض قوات سوريا الديمقراطية أيضًا لعقبات بسبب العداء المستمر بين تركيا ووحدات حماية الشعب. إذ تقوم وحدات حماية الشعب بشن هجمات متفرقة ضد المواقع التركية في سوريا وداخل تركيا، مما يعزز وجهة النظر التركية الراسخة بأن وحدات حماية الشعب هي جماعة إرهابية. ومن جهة أخرى، تقوم القوات العسكرية التركية والميليشيات السورية المدعومة من تركيا بمضايقة قوات وحدات حماية الشعب بشدة في شمال سوريا. وهذا الصراع يوجه انتباه وموارد قوات سوريا الديمقراطية بعيدًا عن القتال ضد تنظيم الدولة في المناطق الجنوبية.
وفي أواخر فبراير/ شباط، دعا أحد القادة الأكراد الرئيسيين إلى وقف إطلاق النار مع تركيا. ودعا عبد الله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني ـ وهي جماعة مسلحة كردية مرتبطة بـ “وحدات حماية الشعب” وقد خاضت صراعًا طويلًا مع الدولة التركية – مقاتليه المخلصين إلى وضع أسلحتهم ووقف الحرب ضد تركيا. إلا أن قادة وحدات حماية الشعب رفضوا دعوة أوجلان، مؤكدين أنها لا تنطبق على جماعتهم. ومن جانبها، تركيا غير مستعدة لتغيير سياستها أو التسامح مع منطقة كردية ذات حكم ذاتي في سوريا تلعب فيها وحدات حماية الشعب دورًا كبيرًا.
ومنذ عهد الرئيس باراك أوباما؛ حاولت الإدارات الأمريكية دعم ميليشيا وحدات حماية الشعب السورية في محاربة تنظيم الدولة وفي نفس الوقت التوفيق بين شكاوى أنقرة ورغبتها في ضرب قادة ومقاتلي وحدات حماية الشعب والمجتمعات الكردية السورية حيث يعيشون. وقد ضمنت المظلة العسكرية الأمريكية التي تحمي وحدات حماية الشعب من الهجوم التركي في شرق سوريا أن مقاتلي وحدات حماية الشعب والإدارة الذاتية التي أنشأوها يرفضون أي تسوية مع تركيا أو الحكومة الجديدة في دمشق. وهذه المظلة تخلق وضعًا قائمًا يجعل تنظيم الدولة يجد مساحة أكبر للتحرك، وتعد بمثابة حرب دائمة.
وللحفاظ على الشراكة مع قوات سوريا الديمقراطية، سيتعين على إدارة ترامب دعم الجماعات الكردية في معاركها المستقبلية مع تركيا. فبين سنتي 2023 و2024، ضاعفت إدارة بايدن بشكل هادئ عدد القوات الأمريكية في شرق سوريا ليصل إلى حوالي 2,000 جندي، جزئيًا حتى تتمكن القوات الأمريكية من توسيع الدوريات إلى الغرب على طول الحدود التركية إلى مدن مهمة مثل كوباني (عين العرب)، التي ليست في مناطق نشاط تنظيم الدولة، بل تواجه الضغط التركي. وفي ديسمبر/ كانون الأول، عندما أطاح المتمردون السوريون بنظام الأسد، هاجمت الميليشيات المتحالفة مع تركيا والطائرات التركية المسيرة المواقع الكردية بالقرب من كوباني. ومع وجود 2,000 جندي بالفعل، لن يحتاج ترامب إلى نشر المزيد من الجنود الأمريكيين كإجراء احترازي ضد غزو تركي بري، ولكنه سيتعين عليه دعم الأكراد بمزيد من التمويل؛ حيث تعتمد قوات سوريا الديمقراطية على واشنطن لدفع الرواتب وتوفير المعدات والتدريب. وستصبح هذه الحاجة أكثر إلحاحًا الآن بعد أن أصبحت تركيا أكثر حرية في التركيز على وحدات حماية الشعب. ومع هزيمة الأسد، عدوها في دمشق، ستوجه أنقرة انتباهها أكثر نحو الإدارة الذاتية التي يقودها وحدات حماية الشعب على حدودها الجنوبية.
وفي هذا المستنقع من العداء بين الأكراد وتركيا، من السهل أن ننسى السبب الذي جعل الولايات المتحدة تتدخل في هذه المنطقة من سوريا في المقام الأول: هزيمة تنظيم الدولة. ولم يكن الهدف الأمريكي أبدًا هو نشر القوات في شرق سوريا للدفاع عن منطقة كردية سورية ناشئة تقودها ميليشيا كردية كانت في السابق غير معروفة. إن تبني هذا الهدف الآن سيكون بمثابة توسع كبير في المهمة فبسبب هويتها وطريقة عملها، أثارت قوات سوريا الديمقراطية الاستياء لدى كل من المجتمعات المحلية والحكومة التركية. وفي الحرب التقليدية ضد تنظيم الدولة، كانت قوات سوريا الديمقراطية أداة مفيدة للمساعدة في استعادة الأراضي التي سيطر عليها ما يسمى بالخلافة. ولكن في الحرب على كسب قلوب وعقول المجتمعات العربية في شرق سوريا، التي لا يزال تنظيم الدولة يجند منها، تعتبر قوات سوريا الديمقراطية الأداة غير المناسبة.
الطريق عبر دمشق
وبدلاً من الاعتماد على قوات سوريا الديمقراطية، يمكن للولايات المتحدة أن تتوجه إلى الحكومة الجديدة في دمشق للمساعدة في القضاء على تنظيم الدولة. وقد يبدو هذا الاقتراح غريبًا للوهلة الأولى؛ حيث تعتبر الولايات المتحدة هيئة تحرير الشام، الميليشيا التي أسقطت نظام الأسد والتي تقود الآن الحكومة السورية، مجموعة إرهابية. ومع ذلك، لم يمنع هذا التصنيف واشنطن من العمل عن كثب مع وحدات حماية الشعب، التي تتبع حزب العمال الكردستاني، وهو جماعة تصنفها الولايات المتحدة أيضًا كمنظمة إرهابية.
لا شك أن تطرف هيئة تحرير الشام وأيديولوجيتها العنيفة يجب ألا يتم التقليل من شأنها فعندما كنت سفير الولايات المتحدة في سوريا، قمت بقيادة الجهود الأمريكية في خريف 2012 لتصنيف جبهة النصرة، الجماعة المرتبطة بالقاعدة والتي انبثقت منها هيئة تحرير الشام لاحقًا، كمنظمة إرهابية أجنبية. واضطررنا لإغلاق السفارة في دمشق في فبراير/ شباط 2012 بسبب تهديد موثوق من المجموعة. لاحقًا، سحقت جبهة النصرة واستوعبت الجيش السوري الحر، وهو التحالف المتمرد المناهض للأسد الذي دعمته وزارة الخارجية ووكالة المخابرات المركزية في شمال سوريا، كما ضايقت الأقلية المسيحية والعلويين خلال السنوات الأولى من الحرب الأهلية. وقاد الشرع المجموعة عبر العديد من التغيرات في الاسم والتطورات حتى أصبحت في سنة 2017 تحت اسم “هيئة تحرير الشام”. ويشكك الكثيرون في واشنطن في أن النسخة الجديدة من المجموعة قد تخلت حقًا عن الإرهاب أو عن وجهة نظرها الأيديولوجية المتصلبة والمتشددة.
غير أن الشرع يصر على خلاف ذلك؛ فقد أمضت جبهة النصرة ثم هيئة تحرير الشام سنوات في محاولة للابتعاد عن الجماعات الإرهابية؛ حيث انفصل الشرع عن تنظيم الدولة في سنة 2014، ومن ثم خاض مقاتلوه معارك دامية ضد الجماعة، وطردوها في نهاية المطاف من شمال غرب سوريا. كما قطع علنًا علاقته بالقاعدة في سنة 2016، وشاركت قواته في محاربة جماعة مرتبطة بالقاعدة تسمى حراس الدين في شمال غرب سوريا. ولم تنفذ جبهة النصرة أو هيئة تحرير الشام أي هجمات إرهابية بعد انفصالها عن تنظيم الدولة والقاعدة؛ بل قضت على أي محاولة من هذه الجماعات لإعادة تأسيس وجود لها في شمال غرب سوريا. إن أفعالهم على مدى السنوات الثماني الماضية تجعل من الصعب تبرير إبقاء هيئة تحرير الشام على القائمة الرسمية للمنظمات الإرهابية الأجنبية. كما حاولت هيئة تحرير الشام تحسين صورتها العامة؛ فبدءًا من سنة 2022، ومن دون التنازل عن هدفها في إقامة حكومة إسلامية في سوريا، بدأت في إعادة المنازل المسيحية والأراضي الزراعية التي استولت عليها الجماعات الإسلامية المتشددة خلال أسوأ مراحل الحرب الأهلية في شمال غرب سوريا. وقال لي قادة مسيحيون في إدلب في سبتمبر/ أيلول 2023 إن معظم الممتلكات قد تم إعادتها.
وتشير هذه السجلات إلى أن هيئة تحرير الشام، بدلاً من قوات سوريا الديمقراطية، هي الأكثر قدرة على تقليص جاذبية تنظيم الدولة بين بعض المجتمعات وبالتالي احتوائه في النهاية. فقد نجح الشرع في هزيمة تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة في شمال سوريا، والمناطق التي سيطر عليها خلال العقد الماضي كانت خالية من أي نشاط لتنظيم الدولة. بينما تجد قوات سوريا الديمقراطية نفسها محاصرة من قبل تركيا، فيما تتمتع الحكومة التي تقودها هيئة تحرير الشام بدعم إقليمي متزايد، بما في ذلك من تركيا. والأهم من ذلك، أن الشرع قد يتمكن من كسب دعم المجتمعات العربية في شرق وشمال شرق سوريا، وهي المناطق التي يتوافد منها مجندون إلى تنظيم الدولة.
ستحتاج الحكومة الانتقالية في سوريا إلى دمج الجماعات العربية القتالية التي تحت قيادة قوات حماية الشعب الكردي حاليًّا، ووضعها تحت إشراف وزارة الدفاع الناشئة في دمشق. في الوقت ذاته، سيتعين على الحكومة في دمشق إيجاد آلية تسمح لها بتولي مسؤوليات الحكم في المجتمعات العربية في شرق سوريا، مما يخفف العبء عن قوات سوريا الديمقراطية في تلك المناطق. من المؤكد أن هذه الإجراءات ستثير استياء قوات سوريا الديمقراطية، لكنها ستساهم في تمكين سوريا وشركائها الإقليميين من هزيمة تنظيم الدولة في نهاية المطاف.
وتحتاج إدارة ترامب إلى فتح قناة اتصال مع الحكومة التي تقودها هيئة تحرير الشام لمناقشة الخطط المستقبلية لمكافحة تنظيم الدولة. وينبغي أن تتناول هذه المناقشات عدة محاور رئيسية، أبرزها كيفية دمج الميليشيات العربية المحلية، التي هي تحت مظلة قوات سوريا الديمقراطية حاليًا، في الحملة التي تقودها الحكومة السورية ضد تنظيم الدولة، وكذلك نقل الجنود من دمشق إلى المناطق التي لا يزال تنظيم الدولة ينشط فيها، إلى جانب وضع جدول زمني لتنفيذ هذه الخطوات. ويمكن للطرفين أيضًا بحث سبل تبادل المعلومات الاستخباراتية بين سوريا والولايات المتحدة، حيث لعبت الاستخبارات الأمريكية دورًا حاسمًا في مساعدة الشرع على إحباط هجوم لتنظيم الدولة في دمشق في كانون الثاني/ يناير الماضي. وفيما يتعلق بالقضايا الأكثر تعقيدًا، يجب أن يتناول النقاش مستقبل مخيمي الهول وروج، اللذين يُحتجز فيهما نحو 40,000 شخص مرتبطين بتنظيم الدولة تحت إشراف قوات سوريا الديمقراطية. صحيح أن الشرع لم يتسامح مع أي تحدٍ سياسي من الجماعات الإسلامية المحافظة، وكان قد أطلق في شمال غرب سوريا برنامجًا صغيرًا لمكافحة التطرف. ومع ذلك، فإن التعامل مع تحديات مخيم الهول يتطلب استجابة أكبر بكثير مما واجهه الشرع في السابق.
ولضمان استقرار سوريا ومكافحة تنظيم الدولة بشكل فعال، يتعين على واشنطن تخفيف العقوبات المفروضة على حكومة دمشق. وفقًا لتقديرات البنك الدولي لعام 2021، قد يتجاوز تكلفة إعادة بناء سوريا بعد الدمار الهائل الناجم عن الحرب الأهلية 200 مليار دولار. وتحتاج سوريا إلى الدعم الدولي والاستثمارات الخاصة، غير أن العقوبات الأمريكية ضد الأجانب المتعاملين مع دمشق تعرقل تدفق رأس المال والسلع الحيوية التي تفتقر إليها البلاد.
وأشار رجال الأعمال الذين التقيت بهم في دمشق في كانون الثاني/ يناير إلى أن الإعفاءات المؤقتة التي فرضتها إدارة بايدن في مجالات الطاقة والمساعدات الإنسانية لا تكفي بالنظر إلى حجم إعادة الإعمار المطلوب. وإذا كانت إدارة ترامب مترددة في إلغاء جميع العقوبات، فيمكنها على الأقل البدء بتطبيق إعفاء قابل للتجديد لمدة عام يشمل القطاعات المالية، والبناء والهندسة، والصحة، والتعليم، والنقل، والزراعة. ومثل هذه الإجراءات لن تحمل أي تكلفة على وزارة الخزانة الأمريكية؛ بل ستساهم في مساعدة الدول الإقليمية والمانحين الآخرين في تقديم المساعدات لسوريا. ومع ذلك، يجب أن تمنع العقوبات الثانوية الأمريكية هؤلاء المانحين والمستثمرين من المشاركة. بدون هذه الاستثمارات، ستظل سوريا عالقة في حالة ركود، غير قادرة على هزيمة تنظيم الدولة، تمامًا كما فشلت الحكومة السورية في ذلك بين 2017 و2024.
إبعاد اليد عن المقود
إن الانتقال من دعم قوات سوريا الديمقراطية إلى الحكومة الجديدة في دمشق لا يعني أن الأكراد السوريين محكوم عليهم بمستقبل مظلم. فالأمن والازدهار للمجتمعات الكردية يعتمد على احترام الحكومة السورية لحقوقهم وحقوق جميع المواطنين السوريين، وليس على تدخل القوى الأجنبية. ورغم أن استعداد هيئة تحرير الشام لإقامة ديمقراطية شاملة في سوريا لا يزال غير واضح، إلا أنه من غير الممكن تجاهل حقيقة أن السوريين الذين يعيشون تحت سيطرة الحكومة الجديدة يتمتعون بحقوق سياسية وشخصية أكثر من أي وقت مضى منذ استيلاء حزب البعث على السلطة في عام 1963.
وفي النصف الثاني من كانون الثاني/ يناير، قضيت عشرة أيام في سوريا؛ بما في ذلك أسبوع في دمشق. وكانت حرية التعبير واضحة في كل مكان؛ ففي المقاهي، كان السوريون، حتى الذين لا أعرفهم، يعبرون بحرية عن آرائهم وينتقدون الحكومة التي تديرها هيئة تحرير الشام، كما لم تتعرض التظاهرات الصغيرة التي اندلعت في العاصمة لأي تدخل من الشرطة. وكانت زينة عيد الميلاد تزين الأحياء المسيحية في المدينة القديمة، وكانت أجراس الكنائس تدق على نطاق واسع يوم الأحد. ورغم قلق المسيحيين في دمشق، إلا أنهم اعترفوا أن مخاوفهم تنبع من الخلفية الأيديولوجية لهيئة تحرير الشام، وليس من تصرفاتها.
من الصحيح أن الرئيس ترامب يتجنب فرض صيغ جاهزة على تطور السياسة في سوريا. ففي 8 كانون الأول/ ديسمبر، وبعد فرار الأسد إلى روسيا، غرد ترامب قائلاً إن مستقبل سوريا يجب أن يكون قرارًا داخليًا لا تفرضه الولايات المتحدة. وأكد أن السوريين بحاجة إلى إعداد دستور جديد قد يتضمن شكلاً من أشكال اللامركزية والفيدرالية، وهي خصائص يسعى قادة قوات سوريا الديمقراطية وبعض المجموعات السورية الأقلية لتأمينها. ومن المتوقع أن تستغرق عملية صياغة هذا الدستور وقتًا طويلًا وتتطلب صبرًا بالغًا، فمن خلال دستور قوي فقط، سيكون بإمكان السوريين تنظيم انتخابات حرة ونزيهة.
من الضروري أن ندرك أن تنظيم الانتخابات وتخصيص حصص للأقليات داخل الحكومة لا يشكلان ضمانات كافية ضد الاستبداد. فتجارب أفغانستان والعراق في القرن الواحد والعشرين تظهر بوضوح مدى صعوبة معالجة القضايا العميقة المتعلقة بالثقافة السياسية.
ستتمكن الانتخابات في سوريا من تعزيز الاستقرار الفعلي والحكم الرشيد إذا نجحت الحكومة الانتقالية في إرساء سيادة القانون وحماية الحريات السياسية والشخصية، بما في ذلك حرية الرأي والتعبير، وحرية الدين، وحرية التجمع، وحرية الانضمام للجمعيات، وحق المواطنين في الحماية من الاعتقال التعسفي. وعلى الدول الغربية أن تركز على تشجيع دمشق على التعامل مع جميع السوريين كمواطنين في دولة واحدة، مع ضمان تمتعهم بحقوقهم الأساسية. في الوقت ذاته، يجب على القوى الخارجية الامتناع عن تأجيج التوترات بين الأكراد والمسيحيين والدروز والعلويين والسنة.
إن الولايات المتحدة بحاجة إلى إعادة تقييم دعمها لقوات سوريا الديمقراطية وتشجيعها على الاندماج في الهياكل السياسية والعسكرية الجديدة في سوريا. ويجب على واشنطن أن توضح أن وجود القوات الأمريكية في سوريا لن يتجاوز العامين المقبلين، مع تقدم عملية الانتقال في شمال شرق البلاد. ومن الضروري أن تتمكن جميع فصائل قوات سوريا الديمقراطية، سواء كانت كردية أو عربية، من الانضمام إلى الجيش السوري الجديد ضمن هذا الإطار الزمني. وعلاوة على ذلك، يجب أن تمارس واشنطن ضغطًا على دمشق، وقوات سوريا الديمقراطية، والإدارة الذاتية للتوصل إلى ترتيبات انتقالية تتضمن قضايا أمنية مهمة، بالإضافة إلى تحديد مستقبل الهياكل الإدارية في منطقة الإدارة الذاتية. كما ينبغي إعادة إدخال خدمات الحكومة المركزية، بما في ذلك مراقبة الحدود وإعادة فتح مكاتب الحكومة التي تتولى إصدار جوازات السفر وتسجيل معاملات الملكية.
ومن المهم أن تحافظ واشنطن على موقف حازم دون التورط في التفاصيل الدقيقة. ويجب على الولايات المتحدة أن تبعث برسالة واضحة إلى دمشق: إذا حاولت الحكومة السورية الجديدة إقصاء الإدارة الذاتية وفرض انتقال سياسي من دون التعاون الكردي، فإن ذلك سيؤدي إلى إشعال صراع جديد، وتعطيل جهود مكافحة تنظيم الدولة، وتأجيل اتخاذ الولايات المتحدة قرارًا بشأن تخفيف العقوبات. في الوقت نفسه، يجب أن تكون رسالة واشنطن إلى قوات سوريا الديمقراطية حاسمة: سقوط نظام الأسد يعني أن الوقت قد حان للتوصل إلى تسويات صعبة بشأن الترتيبات الأمنية والإدارية في المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية، بما في ذلك الحل التدريجي لهذه القوات.
ويجب على الولايات المتحدة أن تتجنب الضغط من أجل تخصيص حصص أو مناصب حكومية معينة للأكراد السوريين أو أي مجموعة أخرى. ففي الوقت الذي رفضت فيه هيئة تحرير الشام تخصيص حصص بناءً على أسس عرقية أو طائفية، اعتبرت أن النظام الطائفي المدعوم من الولايات المتحدة والذي استقر في العراق قبل 20 عامًا كان بمثابة خطأ. إن النشاط المدني المدعوم بسيادة القانون وحماية الحريات السياسية والشخصية هو السبيل الوحيد لبناء ديمقراطية حقيقية في سوريا. قد يكون هذا المسار بطيئًا وفوضويًا، لكنه في النهاية يجب أن يكون شأنًا يخص السوريين أنفسهم، ولا يتطلب تدخلاً أمريكيًا مباشرًا أو وجودًا عسكريًا أمريكيًا على الأرض.
المصدر: فورين أفيرز