في السنوات القليلة الماضية، لم يعد الحديث عن الصحة يدور حول اللياقة البدنية فقط، فقد أصبحت لياقة الدماغ محورًا رئيسيًا في المواضيع الطبية، ولا سيما بين الأشخاص الذين يخافون من تراجع أداء الذاكرة أو الإصابة بمرض ألزهايمر ويحاولون تجنب الخرف وغيرها من المشاكل الذهنية المتعلقة بالتقدم بالعمر.
تلبيةً لهذه الحاجة، طورت عدة شركات تكنولوجية برامج وتطبيقات رقمية مصممة لتدريب العقل وتحسين أدائه من خلال قضاء بعض الوقت في حل الألغاز وألعاب الذاكرة ومسابقات الكلمات. إذ يُقال أن كل ساعة تمرين لديها القدرة على تأخير عملية هرم خلايا الدماغ سنة كاملة، ولكن هذه الأخبار السارة ليست حقيقية تمامًا، فقد أشارت العشرات من الدراسات إلى غالبية ألعاب تمرين العقل الرقمية التي تعد بتحسين ذاكرة المستخدمين أو انتباههم لا تملك أدلة قوية كافية لإثبات الآثار الصحية لألعابها.
حجم الصناعة
في عام 2018، أنفق المستهلكون نحو 1.9 مليار دولار على تطبيقات الرياضة الذهنية مثل “لوموستي” و”فيت برينز” و”نيورونيشن” و”بيك” و”إليفات”، وذلك بزيادة تقدر بـ 475 مليون دولار -أي 4 أضعاف- مقارنة مع عام 2012. ومن المتوقع، أن يبلغ حجم هذا القطاع ما يقرب من 3.4 مليار دولار بحلول عام 2020.
ويعد برنامج “لوموستي” الخاص بتنشيط وتدريب الذاكرة أبرز اللاعبين في هذه الساحة، حيث يقدم التطبيق 50 لعبة من الألعاب الشيقة التي تدرب الدماغ على السرعة والمرونة والتأقلم، وذلك بالاعتماد على أبحاث علمية وخبراء يحولون العلم إلى لعبة ممتعة ومفيدة في الوقت نفسه، بحسب ادعاء الشركة.
ومنذ إطلاقه في عام 2007، نجح “لوموستي” في جذب أكثر من 100 مليون مستخدم حول العالم، وبحسب شركة “آب توبيا” للتحليل الرقمي، تشير البيانات إلى أن 3.8 مليون مستخدم انضموا إلى البرنامج في الأشهر التسعة الماضية فقط، ومن ضمنهم الكثيرين ممن اختاروا الألعاب المدفوعة من أجل الحصول على تحليلات تفصيلية حول أدائهم، وتلقي المزيد من خيارات الألعاب.
دفعت “لوموستي” تسوية قدرها مليوني دولار للجنة التجارة الفيدرالية الأمريكية (FTC)، لإنها وعدت مستخدميها بما لا تستطيع الوفاء به، إذ أشارت حملتها الإعلانية إلى قدرة برامجها على تحسين أداء الدماغ إلا أنها لم تمتلك ما يكفي من الأبحاث الداعمة لمزاعمها
أما فيما يخص حجم أرباحها، فقد حققت عمليات الشراء داخل هذا التطبيق ما مجموعه 7.4 مليون دولار في عام 2018، وهو رقم هائل بالنسبة للعبة رقمية. يفسر ذلك آدم بلاكر، نائب رئيس شركة “آب توبيا”، قائلًا بأن “لوموستي” وجدت خطة تسويقية ذكية، حيث أدرجت تطبيقها تحت فئتي التعليم والصحة، وهي القوائم التي تظهر بالدرجة الأولى في متاجر الهواتف الرقمية وبالتالي يسهل العثور عليها وتنزيلها، وذلك بالمقارنة مع التطبيقات التي تدرج تحت فئة الألعاب، وهي مساحة محدودة ويصعب التنافس فيها.
ورغم نجاحها في اقتحام هذا السوق بثبات، إلا أنها دفعت تسوية قدرها مليوني دولار للجنة التجارة الفيدرالية الأمريكية (FTC)، لإنها وعدت مستخدميها بما لا تستطيع الوفاء به، إذ أشارت حملتها الإعلانية إلى قدرة برامجها على تحسين أداء الدماغ في أنشطة العمل والدراسة والرياضة وتأخير التدهور المعرفي والإدراكي إلا أنها لم تمتلك ما يكفي من الأبحاث الداعمة لمزاعمها، ما اضطرها إلى التعهد بتعديل موادها التسويقية.
اتبعت التطبيقات الأخرى النهج التسويقي ذاته في استغلال مخاوف المستخدمين من فقدان الذاكرة والتدهور المعرفي، إذ يشير برنامج “بيك” الشهير إلى أن جميع ألعابه تم تطويرها بالتعاون مع علماء الأعصاب وخبراء التعليم والباحثين في تأثير الألعاب على الدماغ البشري، وذلك بالاستناد إلى دراسات من جامعات عملاقة مثل كامبريدج وييل، إلى جانبه، يعد تطبيق “إيلفات” مستخدميه بتحسين قدراتهم بداءًا من الرياضيات ووصولًا إلى مهارات التحدث والتي من شأنها “زيادة الإنتاجية وكسب القوة والثقة بالنفس”.
أدلة علمية موثوقة أم وعود تسويقية فارغة؟
في عام 2014، نشر مركز ستانفورد للعمر الطويل رسالة موقعة من 69 عالم من علماء الأعصاب والنفس المعرفي العالميين، يقولوا فيها أنه لا يوجد دليل علمي مقنع على أن ممارسة ألعاب الدماغ تحسن القدرات المعرفية، وصاحبتها كذلك دراسة أجريت مؤخرًا من علماء الأعصاب في جامعة ويسترن في كندا، تعتبر تطبيقات تدريب الدماغ رائعة في تحسين قدرات الفرد على لعب اللعبة بحد ذاتها وعلى المدى القصير ولا تأثير لها على صحة الدماغ وذاكرته. كما خرجت جامعة أوسلو من أبحاثها بنفس النتيجة.
ما يعني أن من المحتمل أن تعود هذه الألعاب بفائدة معرفية على الدماغ ولكنها لا تشهد أي تأثير أو تحسن خارج حدود حيز التطبيق، فقد يلاحظ بعض الأشخاص تحسن في أدائهم خلال ممارستهم للعبة أو تمرين ما داخل التطبيق ولكنهم لن يصبحوا أسرع في العثور على مفاتيح سياراتهم على سبيل المثال.
من جانب آخر، وجدت واحدة من الدراسات الصادرة عن جامعة جورج ماسون الأمريكية، بأن البيانات التي تعتمد عليها تطبيقات تنشيط الذاكرة في إثبات قدرتها على درء خطر التدهور المعرفي مبنية على آثار بلاسيبو أي تأثيرات وهمية، نتيجة للنشرات الإعلانية الحماسية التي تعطي دفعة ذهنية للمستخدمين وتجهزهم للعب بنشاط وفعالية أكبر من المعتاد، وليس لأن ألعاب الدماغ لها تأثيرات بيولوجية حقيقية على الدماغ.
تتضح هذه الحقيقة من خلال التجربة التي أجرتها الجامعة، حيث لعب 50 مشاركًا ضمن دراسة لتعزيز الذاكرة، ولكن تمت دعوتهم بطريقتين مختلفتين، الأولى من خلال أسلوب تسويقي حماسي معبأ بالتعبيرات التي تشير للذكاء والنشاط الدماغي والمعرفي، والثانية عبر دعوة مختصرة وخالية من أي جمل اندفاعية، وكانت النتيجة أن المجموعة الأولى المكونة من 25 شخصًا شهدت دفعة تبلغ من 5 إلى 10 نقاط في معدل الذكاء بعد ممارستهم للعبة، بينما لم تبين المجموعة الثانية أي تحسن معرفي يذكر.
يبقى شيئ واضح وهو أنه لا يوجد أي ضرر خطير لهذه الألعاب على الدماغ، بخلاف الأموال التي قد تسحبها من جيبك والوقت الذي تهدره في الوصول إلى مستويات متقدمة من الألعاب التي تعرضها لك
تأكيدًا على نتائج هذه التجربة، تواصل الباحثون الذين أجروا التجربة السابقة مع أكاديميين نشروا أبحاثًا في مجال التدريب المعرفي وعثروا على 17 دراسة من أصل 19 شملها البحث، دعت المشاركين من خلال ذكر النتائج التي ستترتب على البحث بشكل مسبق، ونظرًا لهذه الطعنة الإضافية لتطبيقات اللياقة الدماغية، قال سايروس فوروجي، عالم إدراك ومؤلف رئيسي في الدراسة: “من الضروري بالنسبة للباحثين أن يأخذوا بعين الاعتبار تأثير البلاسيبو لألعاب الدماغ قبل المضي قدمًا في أبحاثهم، لأن ذلك سيشوه نتائج بحثهم”.
بالنهاية، يبقى شيء واضح وهو أنه لا يوجد أي ضرر خطير لهذه الألعاب على الدماغ، بخلاف الأموال التي قد تسحبها من جيبك والوقت الذي تهدره في الوصول إلى مستويات متقدمة من الألعاب التي تعرضها لك. وبدلًا عن هذا وذلك، يكمن البديل الصحي حاليًا في محاولة تعلم شيء جديد بشكل مستمر، سواء كان ذلك لغة أو حرفة أو حتى أسلوب جديد من الرقص لإنه لم يثبت حتى الآن وجود أي برنامج لياقة رقمي لمنع ظهور مرض الزهايمر وغيرها من الأمراض التي تعطل ذاكرتنا وحياتنا اليومية.