في أجواء باهتة ومراسم محدودة داخل مبنى “الكرياه” في “تل أبيب”، تولَّى إيال زامير رسميًّا منصب رئيس أركان جيش الاحتلال الإسرائيلي، خلفًا لهرتسي هاليفي، الذي اضطر إلى الاستقالة تحت وطأة الفشل العسكري المدوي في هجمات أكتوبر/تشرين الأول.
وبينما بدا شكل الاحتفال روتينيًّا، حُمِّل مضمونه رسائل دراماتيكية عكست عمقَ الأزمة التي تعصف بالمؤسسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، وصراعها المفتوح مع حكومة بنيامين نتنياهو، الذي تفاقم منذ ضربة 2023 القاسية.
يحل زامير في الموقع العسكري الأرفع في “إسرائيل”، وسط تحديات غير مسبوقة تتجاوز حدود استمرار الحرب على غزة أو سيناريوهات استئنافها، إذ يرث مؤسسة عسكرية مهشَّمة معنويًّا وعملياتيًّا، مطالَبةً اليوم بإعادة بناء نفسها، واستعادة ثقة جمهورها الداخلي، وإعادة النظر في عقيدتها الأمنية التي قُوِّضت أمام أعين العالم في يوم واحد هو السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
من إيال زامير؟
وُلد إيال زامير عام 1966 في “إيلات” جنوبي الأراضي المحتلة، لأسرة تحمل جذورًا مهاجرة، فجده أهارون وصل إلى فلسطين من اليمن في عشرينيات القرن الماضي، وانخرط في صفوف منظمة “إيتسل” الصهيونية، وشارك في عمليات تهجير الفلسطينيين، وأما من جهة والدته، فتعود أصول العائلة إلى سوريا.
التحق بالمدرسة الإعدادية العسكرية للقيادة الصغرى قبل أن يبدأ خدمته العسكرية في سلاح المدرعات، فتدرج في المناصب حتى أصبح أحد أبرز جنرالات الجيش، ويحمل زامير شهادة البكالوريوس في العلوم السياسية من جامعة “تل أبيب”، ودرجة الماجستير في الأمن القومي والعلوم السياسية من جامعة حيفا، وهو خريج برنامج الإدارة العامة من جامعة وارتون الأمريكية.

شارك زامير في محطات مركزية من القمع والاعتداءات ضد الشعب الفلسطيني، فكان له دور في قمع الانتفاضتين الأولى (1987-1994) والثانية (2000-2005)، وفي الأخيرة تحديدًا، أشرف كقائد لواء احتياط على العمليات العسكرية في جنين، وقاد كتيبة 75 في جنوب لبنان خلال فترة الاجتياح الإسرائيلي، كما شارك ضمن القوات التي تولت مهام في محيط مجزرة صبرا وشاتيلا في سبتمبر/أيلول 1982.
خلال العقود الماضية، تدرج زامير في مناصب قيادية رفيعة داخل جيش الاحتلال، بينها قيادة قوات المدرعات الاحتياطية، ولواء المدرعات السابع، وفرقة الاحتياط 143، والفرقة 36، وصولًا إلى قيادة القوات البرية، كما شغل منصب السكرتير العسكري لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بين عامي 2012 و2015، في فترة حافلة بالتصعيد ضد الفلسطينيين.
وفي عام 2018، تسلَّم قيادة المنطقة الجنوبية لجيش الاحتلال، فأشرف على قمع المشاركين في مسِيرات العودة الكبرى على حدود قطاع غزة، التي قُتل وأُصيب خلالها الآلاف برصاص الاحتلال.
لاحقًا، تولى منصب نائب رئيس الأركان في عهد أفيف كوخافي بين عامي 2018 و2021، وكان له دور محوري في التخطيط والإشراف على العمليات العسكرية ضد قطاع غزة والضفة الغربية، والتي شهدت تصعيدات دموية واسعة.
ويمثِّل تعيين زامير نقطة تحول في قيادة جيش الاحتلال، إذ يُعَدُّ أول رئيس أركان قادم من سلاح المدرعات منذ أكثر من نصف قرن، وثالث رئيس أركان قادم من مدينة أم الرشراش المحتلة “إيلات” بعد شاؤول موفاز وغادي آيزنكوت، وهو أكبر من تولَّى هذا المنصب سنًّا، إذ تسلمه في الـ59 من عمره، متجاوزًا أسلافه الذين أنهوا خدمتهم في سن أصغر.
عقيدته القتالية: الضربات الاستباقية وبلا رادع أخلاقي
يحمل زامير إلى رئاسة أركان جيش الاحتلال عقيدة قتالية هجومية تقوم على المبادرة الاستباقية والحسم السريع، وهو نهج عبَّر عنه مرارًا خلال مسيرته العسكرية، خصوصًا في خطابه الأخير كنائب لرئيس الأركان، إذ أطلق تحذيرًا استراتيجيًّا بالغ الأهمية لم يلقَ اهتمامًا كافيًا في الأوساط السياسية والإعلامية، فقال: “قد نواجه معركة ثقيلة وطويلة ومتعددة الجبهات، متزامنة مع تحديات داخلية في الخطوط الأمامية والعمق، ولذا نحتاج إلى قدرة على الحسم والصمود الطويل وقوات احتياط قوية”.
وحذَّر من أن جيش الاحتلال الإسرائيلي بات قريبًا من الحد الأدنى المطلوب لحجم تشكيلاته العسكرية، في ظل تصاعد التهديدات المركَّبة، مشددًا على ضرورة الاستعداد لحروب طويلة ومعقَّدة، لا مجرد “جولات قصيرة” كما يفضِّل الساسة في “إسرائيل”.
خلال سنوات خدمته، كان زامير من أبرز المعارضين لتقليص ألوية المدرعات، ورفض إغلاق سرب المروحيات القتالية، ودعم فكرة وزير الأمن السابق أفيغدور ليبرمان بإنشاء “سلاح الصواريخ” في الجيش، وأبدى قلقه العميق من الاعتماد المفرط على سلاح الجو كأداة الحسم الوحيدة، مطالبًا بإعادة الاعتبار للمناورة البرية وتعزيز قدراتها.
وفي الفترة التي قاد فيها المنطقة الجنوبية، أعدَّ خطة شاملة لحرب في قطاع غزة تقوم على شن هجوم بري مباغت وسريع، بمشاركة عدة فرق عسكرية دفعة واحدة، لتحقيق الحسم المبكر وتفادي استنزاف طويل الأمد، كما حدث لاحقًا في معركة “السيوف الحديدية”.
وفي مقالة له عام 2007، في مجلة “معراخوت” العسكرية، عرض عقيدته القتالية القائمة على الحرب الوقائية، معتبرًا أنه: “من الأفضل التحرك أولًا وضرب العدو قبل أن يفرض علينا واقعًا أكثر تعقيدًا وظروفًا أشد قسوة… القرار المبكر تحت ظروف محسوبة أفضل من الانتظار حتى نجد أنفسنا في مواجهة أكثر دموية”، وفق قوله.
يتبنى زامير في رؤيته الحربية نظرة توسعية لمفهوم “الأهداف المشروعة”، فيرى أن كل من يساهم في دعم المقاومة، سواء كان مدنيًّا أو جزءًا من البنية التحتية المجتمعية، هو هدف مشروع، كما يبرر إصابة المدنيين خلال العمليات العسكرية، معتبرًا أن المسؤولية تقع على القيادات المحلية والمنظمات الفلسطينية لا على جيش الاحتلال الإسرائيلي.
لا يخفي زامير تأييده العلني لسياسة العقوبات الجماعية ضد الفلسطينيين، مؤكدًا مشروعيتها ما دام ثمة “إرهاب شعبي”، كما يقترح وسائل تشمل: العقوبات الاقتصادية، وقطع الكهرباء، وفرض الإغلاقات، وحظر المواد الخام والوقود.
ويعزِّز هذه العقيدة بتأكيده شرعية الاغتيالات المستهدفة بحق قادة المقاومة، معتبرًا أنها “وسيلة ردع شخصية” لمنع القيادات من التفكير في جدوى الاستمرار في المواجهة.
مهمات مُلحَّة: بين ترميم الجيش وترضية القيادة السياسية
لم يكن تعيين زامير رئيسًا لأركان جيش الاحتلال مجرد خطوة لسد الفراغ الذي خلفته استقالة هاليفي عقب إخفاقات السابع من أكتوبر/تشرين الأول، بل بداية عهد جديد في العلاقة بين القيادة السياسية والمؤسسة العسكرية بالنسبة لنتنياهو الذي يأمل أن يشكِّل زامير جسرًا لإصلاح التوتر المتصاعد بين الطرفين.
يرى اليمين الصهيوني في زامير شخصية “الجنرال المخلص”، الذي يحترم القيادة السياسية ويكنُّ الولاء لنتنياهو شخصيًّا، وهو انطباع تعزَّز خلال سنوات عمله كسكرتير عسكري لرئيس الوزراء ومدير عام لوزارة الأمن لاحقًا.
وخلال الحرب على غزة، وقف زامير إلى جانب نتنياهو في خلافاته مع وزير الأمن السابق يوآف غالانت، ما جعله خيارًا مثاليًّا للمرحلة المقبلة في نظر الائتلاف الحاكم.
كما يُصنف زامير بوصفه يمتلك خبرة سياسية واسعة، فهو يعرف تفاصيل النظام السياسي الإسرائيلي ويجيد المناورة داخله، ورغم علاقته الوثيقة بنتنياهو، يصفه المقربون منه بـ”الرجل الصلب” القادر على اتخاذ قرارات مستقلة وصعبة إذا تطلَّب الأمر، دون التفريط بثقة القيادة السياسية أو إحداث قطيعة معها.
ورغم أهمية إعادة بناء الثقة بين الحكومة والجيش، تبقى مهمة ثانوية أمام سلسلة من المهام العاجلة التي تواجه زامير في ظل أزمة عميقة تعصف بالجيش، وفي مقدمتها:
إعادة هيكلة القيادة العليا للجيش: عبر الإطاحة بالضباط الكبار الذين تورطوا في الفشل الذريع في هجوم أكتوبر/تشرين الأول. وتشير التسريبات إلى نية زامير الإطاحة بقائد الاستخبارات العسكرية “أمان” شلومي بيندر، وقائد الجبهة الداخلية رافي ميلو، وقائد سلاح الجو تومر بار، وقائد العمليات عوديد باسيوك.
ملء الشواغر القيادية الحساسة: يتعين عليه تعيين نائب لرئيس الأركان، وقادة جدد للقيادتين الشمالية والجنوبية، في ظل استقالات متتالية لضباط كبار، مثل يارون فينكلمان وجوردين.
تعزيز الجهوزية للمعركة القادمة: يُدرك زامير أن إعادة بناء ثقة الجمهور في الجيش لا تتحقق بنشر التحقيقات فحسب، بل بقرارات حاسمة تطيح بالمقصِّرين وتعيد هيكلة الأداء العملياتي والاستخباراتي.
كما يتمتع زامير بعلاقات قوية مع الولايات المتحدة، وقاد بنفسه عمليات شراء الأسلحة الطارئة خلال الحرب، وتابع ملف تعزيز الصناعات العسكرية المحلية وتنسيق التعاون مع جيوش العالم، ما يجعله، من وجهة نظر كثيرين، الرجل المناسب لمرحلة حساسة قد تشهد تصعيدًا غير مسبوق مع إيران، مع دعم أمريكي مباشر.
بجانب ذلك، من الملفات المتفجرة التي ستلقى على طاولة زامير ملف تجنيد الحريديم، في ظل الضغوط السياسية من حكومة نتنياهو لفرض معادلة تُبقي هذه الفئة خارج معادلات الخدمة العسكرية أو تضمن لهم امتيازات خاصة. ورغم علاقته الجيدة بنتنياهو، يدرك زامير حاجة الجيش الملحَّة لقوى بشرية جديدة لتعويض النقص الحاد، ما دفعه سابقًا إلى تبنِّي موقف واضح بضرورة دمج الحريديم في الخدمة.
عام 2025: عام الحرب والاستنزاف
في أُولى تصريحاته عقب تولِّيه منصب رئاسة الأركان، رسم إيال زامير ملامح المرحلة المقبلة بوضوح، معلنًا أن عام 2025 سيكون عامًا للحرب بامتياز، مليئًا بالقتال والتحديات العسكرية المستمرة، وأكد أن المعركة التي انطلقت في أكتوبر/تشرين الأول 2023 لم تضع أوزارها بعد، ممتدة إلى جبهات متعددة.
وفي خطاب تنصيبه، شدد على أن دروس الحرب الجارية تؤكد أنه لا يمكن لـ”إسرائيل” الاتكال إلا على نفسها، ولا سيما في مجالات التسليح والذخائر، داعيًا إلى تعزيز الاعتماد على القدرات الذاتية العسكرية لضمان الجاهزية لأية معركة طويلة ومعقَّدة.
وأطلق تهديدًا صريحًا لأعداء “إسرائيل”، مستشهدًا بنص توراتي من سفر المزامير: “أتبع أعدائي فأدركهم، ولا أرجع حتى أفنيهم”، في تأكيد لرؤية قتالية قائمة على الاستئصال الكامل للخصوم.
يُناط بزامير اليوم أكثر من مجرد قيادة الجيش في معركة مستمرة، بل إعادة هندسة العلاقة بين المؤسسة العسكرية والسلطة السياسية، بما يخدم استكمال مشروع الحسم الصهيوني
وقدَّم تصورًا مظلمًا للمرحلة المقبلة، فدعا إلى الاستعداد لـ”حرب استنزاف متعددة القطاعات”، تشمل خطوط المواجهة الأمامية والعمق الإسرائيلي معًا، معتبرًا أن جيش الاحتلال بات يعيش فعليًّا هذه الحالة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، في مواجهة تهديدات غير مسبوقة من قوى متعددة تحيط بـ”إسرائيل”، التي قال إنها تواجه “تهديدًا وجوديًّا مستمرًا” وسط بيئة إقليمية معادية وصفها بـ”الشرسة والقاتلة”، معتبرًا أن الحل الوحيد لضمان بقائها تعزيز “الجدار الحديدي” عبر تطوير قوة ردع هجومية ودفاعية قادرة على مواجهة أي سيناريو محتمل.
من جانبه، استغل نتنياهو مراسم تنصيب زامير ليكرر وعوده التعبوية بتحقيق النصر في الحرب الجارية، متعهدًا بالقضاء الكامل على القدرات العسكرية والسياسية لحركة حماس، وضمان إعادة جميع الأسرى الإسرائيليين، وإزالة أي تهديد مستقبلي من غزة. وفي رسائل واضحة إلى الحلفاء والخصوم معًا، أكد أن “وكلاء إيران في المنطقة” الهدف المباشر للمواجهات القادمة، ملوِّحًا بتوسيع نطاق الحرب لتحقيق الحسم الكامل.
وأشاد نتنياهو برئيس الأركان الجديد، كاشفًا أنه سبق أن حاول تعيينه في المنصب قبل سنوات لكنه لم ينجح، واصفًا إياه بأنه “صاحب تصميم صلب كالفولاذ، نابض بروح الصهيونية”.
مشروع الحسم الصهيوني
يأتي تعيين زامير رئيسًا للأركان في توقيت حساس تتقاطع فيه حاجة حكومة نتنياهو اليمينية مع شخصية جنرال يحمل عقيدة قتالية هجومية صريحة، تقوم على الاستئصال الشامل لأعداء “إسرائيل”، دون أي اعتبار للمدنيين أو القوانين الدولية.
بالنسبة لنتنياهو، لا يمكن التفكير في شخصية أكثر ملاءمة لإدارة هذه المرحلة من زامير. فالأول، الغارق في أزماته السياسية والقانونية، وفي حاجة دائمة لتصدير الحرب والهروب إلى الأمام، وجد في زامير الرجل المثالي: ضابط شديد الولاء، خبير في العمل السياسي والأمني، صاحب علاقات متينة مع واشنطن، ويمتلك سجلًا حافلًا بالعمل معه شخصيًّا خلال فترات حرجة، كسكرتير عسكري لرئاسة الوزراء وإدارة ملفات استراتيجية كصفقات السلاح.
كما يتمتع زامير بقدرة على المناورة وضبط الخلافات، ما تحتاجه المؤسسة العسكرية لترميم علاقاتها بالقيادة السياسية، بعد الشروخ العميقة التي أحدثها فشل السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وصراع الجنرالات مع حكومة الحسم.
ويُناط بزامير اليوم أكثر من مجرد قيادة الجيش في معركة مستمرة، بل إعادة هندسة العلاقة بين المؤسسة العسكرية والسلطة السياسية في “إسرائيل”، بما يخدم استكمال مشروع الحسم الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني، الذي يقوم على استراتيجية مركَّبة من حرب استنزاف طويلة، قوامها الإبادة والتجويع والتهجير، بالتوازي مع فرض ترتيبات سياسية تهدف إلى تفكيك المقاومة وتجريدها من أوراق القوة.
بهذا المعنى، ليس زامير مجرد قائد عسكري جاء في لحظة أزمة، بل التعبير العملي عن انزياح المؤسسة الأمنية الإسرائيلية نحو تبنِّي عقيدة هجومية متوحشة ومعلنة، تتقاطع مع أطماع اليمين الفاشي في تحقيق “نصر تاريخي”، يعيد رسم موازين القوى في فلسطين والمنطقة، دون أي سقف لعدد الضحايا أو مستوى الدمار.
بالتالي، يبدو أن “إسرائيل” اختارت المضيَّ أبعد ما يمكن في حرب مفتوحة، بلا حدود زمنية أو سياسية، هدفها تصفية غزة، وترميم الردع المهتز، وترسيخ معادلة القوة الإسرائيلية حتى لو كان الثمن حربًا إقليمية طويلة.