بعينين شاخصتين ووجه شاحب وأرجل ما عادت تعرف دروب الحي وأزقته، يجوب أيمن الخميري (33 عامًا) الشوارع المحاذية لمنزل عائلته بأحد الأحياء المتاخمة للعاصمة تونس ذهابًا وإيابًا، محاولًا استرجاع بعض من ذاكرته الممسوحة، وفق ما يتداوله الجيران، بفعل الأدوية والعقاقير التي كان يتعاطاها في سجنه بإيطاليا.
يجلس العائد إلى تونس رغمًا عن أنفه بقرار استبعاد من السلطات الإيطالية وحيدًا شارد الذهن يتجنب مخالطة الناس ومجالس المقاهي، إلا أنه يتحدث عن نفسه لنفسه بصوت مرتفع، وعن أمواله وسياراته التي تركها في بلد الرومان ومغامراته مع المافيا وتجار المخدرات ومناوشاته مع الحرس الإيطالي الـcarabiniere، وأيضًا عن كرهه للبوليس التونسي (الحاكم).
أغلال العقول
في تصريح لـ”نون بوست” قال شقيق الخميري إن الأخير يُعاني من اضطرابات نفسية حادة استوجبت دخوله إحدى المصحات الخاصة لشهر كامل من أجل تنظيف جسده من السموم التي كان يتعاطاها، إضافة إلى زياراته المتكرّرة لطبيب نفسي، غير أن حالته لم تعرف استقرارًا بل ازداد سلوكه عدوانيةً”، متابعًا القول: “وصل به الأمر إلى محاولة قتل أبي أثناء فض نزاع دار بينه وبين أحد شباب الحي”.
تقدر نسبة السجناء الأجانب بـ38.7% حسب إحصائية لوزارة العدل الإيطالية، منهم 7261 سجينًا عربيًا من المغرب وتونس وبدرجة أقل مصر والجزائر
وأشار المتحدث إلى أن شقيقه عانى في السنوات الـ5 التي قضاها في سجون إيطاليا من الضيم والحيف، أضرب عن الطعام أكثر من مرة وتعرض للعنصرية وسوء المعاملة، مضيفًا: “كانوا يحقنونه لتخديره أو يصرفون له أدوية بجرعات زائدة عن المقادير التي حددها الطبيب أو يحرمونه من التواصل مع أهله ومحاميه”.
وفي ذات الإطار، قال يوسف بن مسعود (35 عامًا) مهاجر غير شرعي مرحّل في تصريح لـ”نون بوست”: “لا أتذكر من العامين ونيف التي قضيتها في سجن Regina Coeli بروما إلا تلك اللحظات التي أحصل فيها على قرص الـsubitex أو أي نوع آخر من الحبوب ثم أعود إلى كهف الغياب”. مشيرًا: “الطبيب النفسي لا يعيرك أي اهتمام بضعة أسئلة يكتب على إثرها الوصفة وأحيانًا يترك لك اختيار الدواء”، متابعًا القول: “الكوادر الطبية إذا علموا أنكstranieri (أجنبي) يعطوك ما تشاء من أدوية وفي حال طالبت بحقوقك سيعاقبونك إما بالحقن أو بحرمانك من جرعات علاجية ليمارسوا عليك أقسى أنواع التعذيب النفسي”.
وفي سياقٍ ذي صلة، قال إسكندر العياري التونسي المقيم بإيطاليا والنزيل السابق في سجن San Vittore بمدينة ميلانو، في اتصال هاتفي بـ”نون بوست”: “السلطات الإيطالية لا تولي اهتمامًا بصحة المساجين النفسية والعقلية وبالانتهاكات العنصرية التي تطال خاصة الأجانب”، مضيفًا: “أغلب المسجونين العرب (المغرب العربي) يُعانون من اضطرابات عقلية وأمراض نفسية”.
وتقدّر نسبة السجناء الأجانب بـ38.7% حسب إحصائية لوزارة العدل الإيطالية، منهم 7261 سجينًا عربيًا من المغرب وتونس وبدرجة أقل مصر والجزائر.
عواقب تعاطي المخدرات والمؤثرات العقلية يتم اكتشافها بعد فترة طويلة كما يؤكد أولئك الذين انتهوا الآن من قضاء عقوباتهم أو من وجدوا أنفسهم يواجهون كوابيس جديدة خارج السجن
وأوضح العياري أن السجين العربي أو الإفريقي في إيطاليا يُعاني من هاجسين قاتلين أولهما العجز عن التواصل مع سكان العالم الجديد (السجن) وذلك لعدم تمكّنه من اللغة المحلية، والثاني يكون عادة أشد وطأةً وأثرًا على نفسيته والمتمثل في الخوف من الترحيل الإجباري إلى بلده الأصلي بعد انقضاء العقوبة، وهي أسباب تدفعه إلى العزلة والاكتئاب ومن ثم يكون الإدمان على العقاقير سواء مخدرات بأنواعها أم حبوب هلوسة.
عواقب تعاطي المخدرات والمؤثرات العقلية يتم اكتشافها بعد فترة طويلة كما يؤكد أولئك الذين انتهوا الآن من قضاء عقوباتهم أو من وجدوا أنفسهم يواجهون كوابيس جديدة خارج السجن: الأمراض والاكتئاب والرهاب والخوف من المساحات المفتوحة أو حتى عبور الشارع.
غياب الصحة والأمن
وفقًا لبحث أجرته الجمعية الإيطالية للطب والسجون بالتعاون مع جمعية الطب النفسي كجزء من مشروع “معًا” ونشره موقع panorama، فإن 3 سجناء من أصل 4 يُعانون من مرض عقلي، ويُعاني غالبية النزلاء داخل المؤسسات من الاكتئاب باختلاف درجات الخطورة ومن اضطرابات ذهنية وشخصية.
وكان مدير المركز الطبي لسجن Don Bosco di Pisa فرانشيسكو جيرودو، أكد في تصريح لصحيفة l’espresso، أن “العلاجات والعقاقير المقدمة من شأنها أن تدمر صحة المساجين”، مضيفًا: “لا يُمكنك التعرف عليهم، لا يُمكنهم الوقوف يجرون أرجلهم وأعينهم شاردة في الفراغ، وجوههم عبارة عن جمجمة ضاعت فيها علامات الحياة، السجون الإيطالية أصبحت مصانع زومبي، هذا الوضع المأساوي سيزيد إن بقينا صامتين”.
لم تطل الاتهامات الكادر الطبي فقط، فدائمًا يكون الحراس والأمن تحت مجهر المراقبة إما لتقصيرهم وتهاونهم في التفتيش أو تورطهم في إدخال الممنوعات والاتجار بها في المؤسسات السجنية
صيحة الفزع التي أطلقها المختص الإيطالي جاءت بعد انتقادات واسعة للمنظومة السجنية وإدارة تلك المؤسسات، حيث كشفت مصادر عن غياب الرعايا الصحية وتقاعس الإطار الطبي عن أداء مهامه، وقالت أليساندرا نالدي (مهتمة بحقوق سجناء بلدية ميلانو): “لا يوجد اهتمام بتشخيص الحالات ووصف العلاج الملائم، هناك توزيع الأدوية المهدئة بسهولة تامة، في سجن San Vittore 30% من السجناء يتعاطون بانتظام أدوية نفسية، ولكن 90% منهم يخضعون لما يسمى العلاج المسائي، وهذا يعني أنه من الأسهل إيجاد مسكنات بدلاً من الأسبرين”.
من جانبه، أكد فابيو غوي (المنتدى الوطني لحقوق السجناء بمنطقة لاتسيو) “لا يوجد في معظم المؤسسات رصد مركزي وسجلات طبية محوسبة، لذلك من المستحيل حساب عدد متعاطي المخدرات وبشكل أعم المرضى”.
ولم تطل الاتهامات الكادر الطبي فقط، فدائمًا يكون الحراس والأمن تحت مجهر المراقبة إما لتقصيرهم وتهاونهم في التفتيش أو لتورطهم في إدخال الممنوعات والاتجار بها في المؤسسات السجنية. وأكدت ليو بنديتشي من اتحاد شرطة السجون وجود تقصير أمني بالقول: “قد يحدث أنه في الفناء خلال ساعة الهواء، يتم بيع نصف كبسولة من Subtex مقابل عبوتين من السجائر، في حين تُباع Rivotril أو Tranquirit بخمسة”.
معايير حقوق الإنسان
وفقًا لتقرير حمل عنوان: “السجن وفقًا للدستور” الصادر عن جمعية أنتيجون، إحدى أكبر المنظمات المدافعة عن حماية حقوق السجناء، يوجد 60439 سجينًا في السجون الإيطالية التي تقدر طاقة استيعابها بما يقرب من 50511 سريرًا، أي بمعدل ازدحام رسمي يبلغ نحو 120% وهي أعلى معدلات مسجلة في التكتل الأوروبي وتأتي بعد المجر وفرنسا.
كل الظروف الهيكلية المقلقة ساهمت في تعميق الأزمة الصحية للمساجين سواء على المستوى النفسي كارتفاع حالات الاضطراب العقلي والانتحار، أم على مستوى الجسدي كارتفاع الإصابات بفيروس فقدان المناعة والالتهاب الكبدي الفيروسي (ب)
لا يعتبر الاكتظاظ الشديد واللا-إنساني المرض الوحيد الذي يصيب السجون الإيطالية، فغياب التجهيزات وانعدام المرافق الضرورية يخلق أزمة حقيقية. حيث أكدت تقارير أن 35.3% من السجون لا يوجد فيها ماء ساخن، 7.1% ليس لديهم تسخين فعال و20% لا توجد فيها مساحات تسمح للسجناء بالعمل، و18.8% من المؤسسات لديها زنازين لا يتم فيها احترام 3 أمتار مربعة (الحد الأدنى وفق معايير الاتحاد الأوروبي).
وانخفضت تكلفة السجين بشكل كبير من 137.02 يورو عام 2018 إلى 131.39 يورو 2019، رافقتها زيادة في الانتهاكات خلال عام 2018 120 حالة جديدة، أي بمعدل حالة كل ثلاثة أيام تقريبًا، وتتعلق بالإساءات وسوء المعاملة ومطالب غير محققة.
إلى ذلك، كل الظروف الهيكلية المقلقة ساهمت في تعميق الأزمة الصحية للمساجين سواء على المستوى النفسي كارتفاع حالات الاضطراب العقلي والانتحار (35 حالة انتحار من جملة 96 حالة وفاة في 2019) وفق موقع ristretti، أم على مستوى الجسدي كارتفاع الإصابات بفيروس فقدان المناعة (5 آلاف حالة) والالتهاب الكبدي الفيروسي (ب) 6500 حالة، وما بين 25 و35% من المساجين مصابين بالتهاب الكبدي (س)، طبقًا لما أورده الموقع الإيطالي abruzzoweb.
سجون تونس
وفي سياقٍ ذي صلة، قال طبيب مقيم في قسم الطوارئ بمستشفى الرازي للأمراض العقلية رفض كشف اسمه لأنه غير مخول بالحديث لوسائل الإعلام، أن غياب الرقابة الصارمة والمتابعة الطبية الدقيقة يعقد مراحل علاج المرضى سواء كانوا داخل السجون أم خارجها، مضيفًا “لا نستطيع الحكم ما إذا كانت السجون الإيطالية تفتقد لآليات الرقابة وكوادر طبية ماهرة، لكن البلد الأوروبي معروف بانتشار المخدرات والمافيا والجريمة المنظمة، كل الفرضيات واردة من تمييز عنصري إلى سياسات ترفض الإنفاق على مهاجرين غير شرعيين يمثلون لها عبئًا اقتصاديًا”.
يدخل المساجين التونسيون عادة الحبوب عن طريق الطعام الذي يؤتى به في الزيارات ويسمى “المرهوجة” وهي دس الأقراص المخدرة في الأكلات
وتابع الطبيب قوله: “نحن في تونس لا نملك إمكانات إيطاليا التقنية والمادية ولكن لنا قوانين وأعراف نسير وفقها، لا نصرف للمريض المسجون أدوية إلا بعد فحوصات سريرية واختبارات المدارك والسلوك، أما دخول الحبوب والأقراص المخدرة إلى السجون لا ترتقي إلى التجارة”.
ويدخل المساجين التونسيون عادة الحبوب عن طريق الطعام الذي يؤتى به في الزيارات ويسمى “المرهوجة” وهي دس الأقراص المخدرة في الأكلات.
أخيرًا، يقول الفيلسوف والكاتب الروسي الشهير فيدور دوستوفيسك “درجة الحضارة لأي مجتمع تقاس بسجونها أو كيفية التعامل مع أسراها”، لذلك يرى مراقبون أوروبيون ومهتمون بقضايا السجناء وملفات حقوق الإنسان، أن على ساسة روما القلق جيدًا تجاه التقارير “المروعة” عن أوضاع السجناء والمؤسسات الإصلاحية.
وعلى الضفة الأخرى، فإن دول منشأ المهاجرين مطالبة هي الأخرى برعاية شؤون مواطنيها ولو كانوا في سجون أوروبا ولا تكتفي بتعداد الجثث التي ألقتها قوارب الموت.