عاود الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، تهديده المتكرر لحركة المقاومة الفلسطينية (حماس)، بالجحيم والقتل إن لم تُطلق سراح كل المحتجزين لديها من الأسرى الإسرائيليين وحاملي الجنسيات الأخرى، معتبرًا أن هذا هو التحذير الأخير، موجهًا خطابه لقادة المقاومة بمغادرة غزة، وإلا “فأنتم أموات”.
الرئيس الأمريكي وفي سابقة لم تحدث من قبل، وجه تحذيرًا لشعب غزة بأكمله، في تغريدة نشرها على منصة “تروث سوشيال” مساء الأربعاء 5 آذار/مارس، مهددًا إياهم بالقتل والدمار، ومطالبًا بتركهم للقطاع، فالأمر لم يعد مقصورًا على قادة المقاومة ولا عناصر الفصائل وفقط.
يأتي هذا التهديد الذي لم يكن الأول من نوعه، كما يتوقع أنه لن يكون الأخير، بالتزامن مع مفاوضات مباشرة تُجريها الإدارة الأمريكية – في خطوة وصفت بأنها اختراق للمحظورات الدبلوماسية القائمة منذ عقود- مع حركة حماس في الدوحة، وُصفت بالإيجابية، حيث التقى وفد من الحركة بمبعوث الرئيس الأمريكي لشؤون الرهائن، آدم بوهلر، لمناقشة ملف الأسرى والرهائن والتباحث حول صفقة شاملة بين حكومة الاحتلال والمقاومة.
يد توضع على طاولة المفاوضات مع حماس، وأخرى تهدد على منصات التواصل الاجتماعي، ازدواجية أمريكية أقرب للتناقض -شكلًا- في التعاطي مع المشهد الغزي، لكن في المضمون تتسق بشكل كبير مع الاستراتيجية التي تتبناها الإدارة الأمريكية في ثوبها الجديد، تلك الاستراتيجية التي تعتمد على ثنائية الترهيب والترغيب.. فماذا تريد واشنطن من هذا التأرجح؟
التهديد وحده لا يكفي
في 10 شباط/فبراير الماضي وفي حديث هيمنت عليه لغة التطاؤس وغلفته الثقة الزائدة، وأمام جموع الصحفيين الصحفيين داخل مكتبه بالبيض الأبيض، وجّه ترامب تهديدًا مباشرًا لحماس، تهديد مُقيد بجدول زمني محدد، قائلًا: “فيما يتعلق بي، إذا لم تتم إعادة جميع الرهائن بحلول الساعة 12 ظهر السبت 15 شباط/ فبراير 2025، وأعتقد أنه وقت مناسب، أود أن أقول، ألغوا الاتفاق وستنهار كل الرهانات ودعوا الجحيم يندلع”.
اعتقد ترامب المُتورم بالغرور، والمُتخم بالعنجهية، أن هذا التهديد سيُحدث زلزالًا لدى المقاومة، ويُربك خططها، ويدفعها لإعادة النظر في حساباتها، وأن نتائجه ستتوالى تترا، وأنه قبل انتهاء المهلة المحددة ستنصاع حماس وتركع تحت أقدام سيد البيت الأبيض، مُقدمة قرابين الولاء والطاعة.
وجاءت اللحظة الحاسمة، حيث الساعات الأولى من صباح السبت 15 شباط/ فبراير 2025، لتفاجأ الإدارة الأمريكية وحكومة نتنياهو، بالمتحدث باسم كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، يعلن عن أسماء 3 أسرى فقط سيتم إطلاق سراحهم، ضمن الاتفاق المزمع، وبحسب بنوده، دون أي تغيير، بل وتجاوزت المقاومة عرفها التقليدي هذه المرة، لتكشف عن المكان الذي سيسلمون فيه.
وكالعادة شهدت مراسم التسليم عشرات الرسائل التي بعثت بها المقاومة للداخل والخارج، مشهدية رمزية مُعتادة، وإبهار غير مسبوق في إخراجها في سياق الإدارة الناجحة أمنيًا وسياسيًا وإعلاميًا ونفسيًا لهذا الملف، لتنتهي المهلة التي حددها ترامب الذي اضطر لابتلاع تهديده، والقفز عليه ببعض التصريحات المتناقضة التي حاول بها التغطية على عدم رضوخ حماس لتحذيراته المجدولة زمنيًا.
موقف حماس كان واضحًا، والرسالة كانت أشد وضوحًا، فالتهديد بالقوة وفرض الأمر بالتحذير والوعيد استراتيجية ما عادت تُجدي نفعًا مع المقاومة التي ما عاد لديها شيئًا لتخسره، فالقطاع بات شبه مدمر، والصمود الشعبي ثابت رغم مستوى التنكيل والإجرام غير المسبوق، ومن ثم فما يُقرع على طبول التهجير وخرق الاتفاق ومعاودة الحرب ما عاد يُسمع ولا يُحرك ساكنًا.. ومن هنا كان لابد من البحث عن استراتيجيات أخرى.
المفاوضات والتهديد.. ثنائية العصا والجزرة
تتعامل الإدارة الأمريكية مع حماس بنفس الاستراتيجية التي تتعامل بها مع أوكرانيا، حيث الثنائيات المزدوجة، يد تحمل الورود وأخرى تُظهر الشوك، فريق يقود مفاوضات في الدوحة ويجلس ظُهرًا على طاولة مفاوضات مع قادة الحركة في مشهد لم يحدث قبل ذلك، ورئيس يخرج في المساء ليغرد منفردًا بلغة تهديد قاسية.
وبعدما استقر في يقين إدارة ترامب أن لغة التهديد وحدها ليست كافية في التعامل مع المقاومة، كان لابد من الاستعانة بأدوات أخرى بالتوازي مع تلك اللغة، فكانت الدبلوماسية هي المكمل للثنائية الترامبية، تلك الثنائية التي تستهدف تحقيق هدفين رئيسيين، الأول يتعلق بتكثيف الضغط الممارس على حماس وترهيبها على طاولة المفاوضات لأجل تقديم المزيد من التنازلات والركوع أمام الإملاءات الأمريكية، خاصة مع تأكيد واشنطن إرسال شحنات تسليح إضافية ومتطورة للكيان الإسرائيلي الحائز على شيك على بياض من حليفه الأمريكي للعربدة في المنطقة كيفما شاء.
جزء آخر من الضغط الذي تمارسه الإدارة الأمريكية موجه للدبلوماسية العربية، والموقف الإقليمي الرافض لمخطط التهجير، والخطة المصرية التي تم تبنيها خلال القمة العربية التي عقدت بالقاهرة الثلاثاء الماضي، والتي لم تحظى بقبول كل من واشنطن وتل أبيب، في محاولة للدفع نحو إعادة النظر بشأنها على أمل الحصول على المزيد من التنازلات.
أما الهدف الثاني فيتمحور حول مساعي ترامب وإدارته للحفاظ على هيبتهما التي داست عليها المقاومة بأقدامها حين رفضت وتجاهلت التهديدات السابقة، وعلى جانب آخر، البحث عن أي انتصار سياسي في هذا الملف يٌنسب لتلك الإدارة، بحيث يتم الترويج لأي اتفاق يُتوصل إليه مع المقاومة على أنه رضوخ واستجابة فورية للتهديدات المقدمة، بما يٌرضي جنون العظمة الذي يهيمن على الرئيس الأمريكي.
ماذا عن المقاومة؟
تعي المقاومة جيدًا حساسية الموقف ووضعيتها الصعبة، خاصة بعد الخسائر الفادحة التي تعرضت لها طيلة الحرب، لكنها في المقابل لا يمكن أن تمنح الاحتلال وحليفه الأمريكي بالسياسة ما عجز عنه بالقوة العسكرية، ومن ثم تحاول مسك العصا من المنتصف، في ضوء حزمة من الحسابات والمقاربات التي تضعها في الحسبان.
بمنطق برغماتي بحت فإن حماس وبقية فصائل المقاومة لا يرغبون في الصدام مع ترامب وإدارته، حتى في ظل السجال وحرب التصريحات هنا وهناك، بل تحاول قدر الإمكان الإبقاء على باب الحوار مفتوحًا مهما كانت ضبابية المشهد، ومن ثم كانت الاستجابة قبل أسبوعين لدعوة ترامب لها إلى تقديم بادرة حسن نية بشأن الإفراج عن الأسرى.
وكانت الحركة قد أطلقت سراح الأسير الإسرائيلي الذي يحمل الجنسية الأميركية، ساجوي ديكل تشين، خلال الدفعة السادسة، قبل الأخيرة، والتي شملت 3 أسرى، ضمن المرحلة الأولى لاتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة، وذلك كـ”عربون حسن نوايا” مُقدم للإدارة الأمريكية.
وعلى الأرجح ستُبقي حماس على باب الحوار مفتوحًا مع واشنطن، مهما كان مستوى وحجم التهديدات والتحذيرات الصادرة عن الرئيس الأمريكي، الذي يبدو أن الحركة باتت مؤهلة للتعامل مع تصريحاته بذكاء سياسي ملحوظ، لئلا تخرج عن سياقها الكلامي وفقط، وهو ما تكشفه ردود فعل المقاومة وقادتها بين الحين والأخر.
متحدث باسم حماس: تهديد ترامب المتكرر يشكل دعما لنتنياهو للتنصل من اتفاق غزة
https://t.co/LZTRq57sd7 pic.twitter.com/oxVTVuVmkr— Shorouk News (@Shorouk_News) March 6, 2025
من جانبه، حاول رئيس المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة، سلامة معروف، تفنيد التصريحات الصادرة عن ترامب، والرد عليها بشكل دبلوماسي، دون استخدام لغة تصعيدية مماثلة، حيث بدأ حديثه بالإشارة إلى أن الاحتلال هو لب المشكلة وعصبها وسببها الرئيسي وليست المقاومة، وأن ما يحدث اليوم في الضفة الغربية والقدس -حيث لا حماس هناك- هو خير دليل، محذرًا من أن مثل تلك المواقف والتهديدات “هي التي تمنح مجرم الحرب بنيامين نتنياهو القوة والقدرة على الاستمرار في جرائمه طالما أنه يحظى بالدعم والتشجيع المطلق لارتكاب المزيد من الجرائم بحق 2.4 مليون إنسان”.
وردًا على قول ترامب “فقط الأشخاص المرضى والمنحرفون يحتفظون بالجثث”، قالت الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء، إن عدد الجثامين الفلسطينيين المحتجزة الموثقة لدى الاحتلال ارتفع إلى 665 شهيدًا، بينهم شهداء محتجزون منذ ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وبحسب الحملة فإن 259 جثة لفلسطينيين (من بينهم 9 سيدات و59 طفلًا) استشهدوا منذ بدء الحرب على غزة في تشرين أول/ أكتوبر 2023 لا زالت محتجزة لدى الاحتلال إلى جانب 67 أسيرًا فلسطينيًا قضوا داخل سجون الاحتلال، هذا بخلاف ما كشفته مصادر إسرائيلية عن احتجاز “إسرائيل” لأكثر من 1500 جثمان شهيد في معسكر “سدي تيمان” جنوب فلسطين المحتلة.
أخيرًا.. فمن المتوقع مواصلة هذا الضغط الأمريكي على المقاومة والوسطاء والأطراف العربية المنخرطة في المشهد حتى زيارة المبعوث الخاص للرئيس الأميركي دونالد ترامب للشرق الأوسط ستيف ويتكوف، الذي دعا الحكومة الإسرائيلية لاستمرار وقف إطلاق النار حتى زيارته للمنطقة بعد أيام، آملًا أن يسفر هذا الضغط على حصاد يُلبي طموحات الإدارة الأمريكية ويمنح تل أبيب النصر المزعوم.