نجحت حركة النهضة الإسلامية في كسب رهان الانتخابات التشريعية وحصد المرتبة الأولى في برلمان تونس من حيث عدد المقاعد، إلا أن ذلك وضعها أمام تحدٍ جديد وهو تشكيل الحكومة القادمة، فالانتخابات التشريعية الأخيرة أفرزت تشكيلة برلمانية فسيفسائية يصعب التقريب بين مكوناتها.
الأولى لكن دون الأغلبية
فوز النهضة بالانتخابات لا يعني حصولها على الأغلبية النيابية التي تمكّنها من العمل بأريحية، وسيحتم عدم حصول حركة النهضة على أغلبية مقاعد البرلمان الجديد عليها، اللجوء إلى أطراف أخرى فائزة في الانتخابات حتى تشكّل الحكومة المرتقبة التي ينتظر منها التونسيون الكثير.
وفقًا لعمليات سبر الآراء، فازت حركة النهضة بالمركز الأول بنسبة 17.5% (40 مقعدًا من جملة 217)، يليها حزب “قلب تونس” لمؤسسه رجل الأعمال ومالك قناة “نسمة” الموقوف على ذمة القضاء بتهم تتعلق بالفساد، نبيل القروي بـ15.6% (33 مقعدًا).
مهمة النهضة في تشكيل الحكومة القادمة لن تكون سهلة، في ظل المؤشرات الحاليّة وصعود قوى تكن لها عداءً كبيرًا ولا مجال للتفاوض معها تحت أي مسميات
جاء في المرتبة الثالثة، حسب نتائج مؤسسة “سيغما كونساي” لسبر الآراء، “الحزب الدستوري الحر” سليل الحزب الحاكم السابق للرئيس الراحل زين العابدين بن علي بنسبة 6.8%، يليه في المرتبة الرابعة “ائتلاف الكرامة” الذي يقوده المحامي سيف الدين مخلوف المحسوب على قوى الثورة بنسبة 6.1%، بينما حل “التيار الديمقراطي” خامسًا بـ5.1%.
كما حل حزب “تحيا تونس” الذي يتزعمه رئيس الحكومة يوسف الشاهد في المركز السابع بنسبة 4.7%، بعد “حركة الشعب” ذات التوجه العروبي القومي، وتقهقر حزب “نداء تونس” الذي جاء بالمركز الأول في الانتخابات الماضية لعام 2014 إلى المركز العاشر بنسبة 2% من نسبة أصوات الناخبين المقترعين، في حين اندثرت الجبهة الشعبية اليسارية، وفق النتائج التقديرية التي قدمتها وكالة سيغما كونساي.
الاستمرار في سياسة التحالفات
إثر إعلان فوز النهضة، أكدت الحركة الإسلامية عن قرب بدأ التفاوض مع الأحزاب السياسية والمستقلين الفائزين والقريبين منها من أجل التوصل إلى تشكيل الحكومة الجديدة، وأوضح المتحدث الرسمي باسم النهضة عماد الخميري، في تصريح لرويترز أن حركتهم ستعمل على التفاوض مع الأحزاب والمستقلين القريبين منها من أجل التوصل لتشكيل حكومة تستجيب لطلبات التونسيين في العدالة الاجتماعية ومكافحة الفساد.
في نفس السياق أكد زعيم النهضة راشد الغنوشي، استمرار الحركة في سياسة الشراكة التي اعتمدتها في السنوات السابقة مع أحزاب أخرى على أسس مقاومة الفقر ومكافحة الفساد وتطوير الخدمات الاجتماعية للتونسيين.
واعتمدت حركة النهضة منذ سنة 2011 عقب فوزها بانتخابات المجلس التأسيسي على سياسة التوافق، فقد توافقت في البداية مع حزبي المؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل لحكم البلاد عقب الثورة، واختارت التوافق مع نداء تونس سنة 2014.
تأمل حركة النهضة في إيجاد حلول لمشاكل تونس
ساهم توافر بعض الشروط في المحيطين الإقليمي والدولي في السير بتجربة التوافق في تونس نحو الأمام لأن البديل كان مزيدًا من تعميق أزمة الدولة والدفع بها إن لم يكن نحو الفوضى مباشرة فنحو الفشل الذي سيقود إلى الفوضى التي تسعى لها خاصة بعض الأطراف الإقليمية التي يحرجها نجاح التجربة التونسية.
وكثيرًا ما يؤكد رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي، أن التوافق سيستمر في تونس بعد الثورة ولا بديل عنه ولا أحد قادر على أن يحكم وحده أو أن يقصي الآخر.
ويعد التوافق السياسي في تونس “أحد أهم مقومات الصمود أمام محاولات الانفلات بالوضع الاجتماعي والأمني في البلاد”، حسب تصريح سابق لأستاذ العلوم السياسية بالجامعة التونسية هاني مبارك، “لنون بوست”، الذي أكد أيضًا أن “هذا التوافق أغلق مساحات كبرى من الفراغات التي كان يمكن للانفلات النفاذ من خلالها حيث ضيق من هوامش المناورة من الأطراف وسد منافذ التلاعب على المتناقضات”.
التحالفات الممكنة
مهمة النهضة في تشكيل الحكومة القادمة لن تكون سهلة، في ظل المؤشرات الحاليّة وصعود قوى تكن لها عداءً كبيرًا ولا مجال للتفاوض معها تحت أي مسميات، مع ذلك توجد بعض القوى التي يمكن أن تلتقي معها النهضة في الحكم، أبرزها ائتلاف الكرامة، حيث أعلن سيف الدين مخلوف أن ائتلاف الكرامة لا مانع له في التحالف مع حركة النهضة.
وأوضح مخلوف في تصريح لإذاعة “موزاييك” الخاصة أن خط الفرز بالنسبة لإئتلاف الكرامة هو “خط الثورة ومكافة الفساد بعيدًا عن أي منطق أيديولوجي وأن ما يجب أخذه بعين الاعتبار هي الأفكار التي ستخرجنا من الأزمة”.
وأكد المحامي الشاب أن ائتلاف الكرامة لن يتسرع بإعلان الانضمام للمعارضة، وأن هناك إمكانية لتشكيل الحكومة، مشترطًا أن يكون الخط الثوري وتحسين حياة الناس هي القاعدة التي يجب اتباعها في تشكيلها.
ثاني الأحزاب التي يمكن أن تتحالف معها النهضة هو التيار الديمقراطي الذي سبق أن شارك مؤسسه محمد عبو في الائتلاف الذي قادته حركة النهضة عقب انتخابات المجلس التأسيسي سنة 2011، قبل أن يستقيل من وزارة الإصلاح الإداري التي كان يشغلها حينها.
رغم التكاليف الباهظة التي ستتكبدها البلاد، في مجالات عدة، نتيجة إعادة الانتخابات التشريعية، فإن هذا الحل يبقى مطروحًا بقوة
عبو الذي رفض في البداية التحالف مع النهضة ما جعله محل انتقادات كبرى من طرف فئات شعبية كثيرة، عاد ليؤكد مجددًا أنه يرفض الاتهامات له ولحزبه بالتهرب من المسؤولية، وقال عبو خلال استضافته في قناة الحوار التونسي الخاصة أمس الثلاثاء: “لا نريد أن يتهمنا أحد بأننا نتهرب من المسؤولية وها هنا نعلن أننا مستعدون للمشاركة مع النهضة في الحكم بشروط”.
وأوضح عبو أن هذه الشروط تتمثل في تمكين حزبه من حقائب الداخلية والعدل والإصلاح الإداري إلى جانب اختيار رئيس حكومة مستقل وكفء ونزيه وقوي”، وأضاف قائلاً: “هذه شروطنا للمشاركة ونحن أيدينا مفتوحة”.
وقال إنه يريد الإصلاح وفي حال الاتفاق يجب أن يكون وفق برنامج يمضى أمام جميع التونسيين ويتم تطبيقه والالتزام به ومن يخون العهد يعرف التونسيون أنه الخائن، وفق تعبيره، وشدد بالقول “دون هذه الصلاحيات التيار لا يحكم”.
ثالث الأطراف التي يمكن أن تلتقي معها حركة النهضة في الحكم هو حزب “تحيا تونس” الذي تشكل حديثًا على أنقاض حزب نداء تونس، ويقوده رئيس الحكومة الحاليّ يوسف الشاهد الذي يتوقع أن يفوز بقرابة 17 مقعدًا في هذه الانتخابات.
لئن لم يعلن بعد هذا الحزب عن موقفه الرسمي من المشاركة في الحكومة من عدمها، فإن المتوقع ألا يرفض حزب يوسف الشاهد دعوة النهضة له للتحالف معها مجددًا، خاصة أن الحكومة الحاليّة تجمع الطرفين.
فيتو في وجه حزب القروي
في مقابل هذه التحالفات المفترضة، وضعت حركة النهضة فيتو في وجه حزب قلب تونس الذي يقوده نبيل القروي، وصاحب ثاني أكبر حاصل انتخابي باعتبار تورط رئيسه في قضايا فساد، وتعهدت قيادات النهضة بعدم العمل مع “الفاسدين والمتورطين”.
وكانت قيادات “النهضة” قد شددت على نية الحزب عدم تكرار خطأ “التحالف مع الفاسدين”، وقال زعيم الحركة راشد الغنوشي في قناة حنبعل الخاصة: “منفتحون على الجميع ولا بد من شراكات لقيادة تونس ومواجهة التحديات، والنهضة استفادت من تجربة التاريخ، فلا شراكة مع المتورطين في الفساد فشرط من شروط الشراكة مكافحة الفساد ومقاومة الفقر”.
ويتهم حزب نبيل القروي بالفساد ورعاية الفاسدين، حيث يحاكم رئيسه الذي يعد أحد رجال نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، ثم أحد مؤسسي حزب نداء تونس، وريث التجمع الدستوري الديمقراطي (حزب بن علي)، بتهم تتعلق بالفساد.
إعادة الانتخابات
في حال لم تتوصل حركة النهضة إلى إيجاد التحالفات اللازمة لتشكيل الحكومة الجديدة، فستضطر الحركة إما إلى الدفع بشخصية مستقلة تلقى قبولاً من مختلف الأطراف لتشكيل حكومة تكنوقراط أو اعلان فشلها في المهمة المناطة إليها، وبالتالي الذهاب إلى إعادة الانتخابات.
وينص الفصل 89 من الدستور التونسي على تكليف رئيس الجمهورية، مرشح الحزب أو الائتلاف الانتخابي الحاصل على أكبر عدد من المقاعد بمجلس نواب الشعب، في أجل أسبوع من إعلان النتائج النهائية للانتخابات، بتكوين الحكومة خلال شهر يجدد مرة واحدة.
عند تجاوز الأجل المحدد دون تكوين الحكومة أو في حالة عدم الحصول على ثقة مجلس نواب الشعب، يقوم رئيس الجمهورية في أجل عشرة أيام بإجراء مشاورات مع الأحزاب والائتلافات والكتل النيابية لتكليف الشخصية الأقدر من أجل تكوين حكومة في أجل أقصاه شهر.
إذا مرت أربعة أشهر على التكليف الأول، ولم يمنح أعضاء مجلس نواب الشعب الثقة للحكومة، لرئيس الجمهورية الحق في حل مجلس نواب الشعب والدعوة إلى انتخابات تشريعية جديدة في أجل أدناه 45 يومًا وأقصاه 90 يومًا.
توقعات بإعادة اللانتخابات في حال فشل النهضة في تشكيل الحكومة
رغم التكاليف الباهظة التي ستتكبدها البلاد، في مجالات عدة، نتيجة إعادة الانتخابات التشريعية، فإن هذا الحل يبقى مطروحًا بقوة، وإذا تم اللجوء إليه ستكون الإعادة في الأشهر الأولى من السنة المقبلة، وعندها يتوقع أن تحدث مفاجآت كبرى.
وبموجب الدستور التونسي الجديد الصادر في فبراير/شباط 2014، يكون رئيس الوزراء المنتمي لأكبر حزب بالبرلمان التونسي هو المهيمن على معظم السياسات الداخلية، في حين يتحمل رئيس الجمهورية المسؤولية المباشرة عن الأمور الخارجية والدفاع.
وكان الناخبون في تونس قد أدلوا بأصواتهم، الأحد، في 13 ألف مكتب اقتراع، موزعين على 4567 مركز تصويت، في 33 دائرة انتخابية داخل تونس وخارجها، وشارك في تأمين العملية الانتخابية 70 ألف عنصر أمن، حسب وزارة الداخلية.