بحجم لا يتناسب مع طبيعة عمله، وبلغة تحمل السخرية، وسابقة أعمال مشوهة، واستخفاف من الضباط والجنود على حد سواء، والتقليل من دوره ومكانته، ونظرة استعلاء حتى من أدنى الرتب في الجيش.. هكذا ظهر المراسل الحربي في فيلم “الممر” الذي عُرض على شاشات الفضائيات المصرية في ذكرى احتفالات انتصارات أكتوبر.
دور أثار حفيظة الأسرة الصحفية المصرية التي انتفضت رفضًا لهذه الصورة المشوّهة التي قدمها الفيلم الذي تقول بعض المصادر إنه أنتج تحت إدارة الشؤون المعنوية بالجيش المصري بهدف رفع الروح المعنوية لدى المواطنين عبر استلهام بطولات الماضي وتقديمها بشكل درامي بعد سنوات من الجفاء والقطيعة بين السينما وحرب العاشر من رمضان.
“لم تكن هذه الصورة الحقيقية للمراسل الحربي الذي كان جنبًا إلى جنب في كتف الجنود والضباط في ميدان القتال”، بهذه الكلمات عبر عدد من الصحفيين عن استنكارهم الشديد للسيناريو الذي كتبه مؤلف العمل ومخرجه في آن واحد، شريف عرفة، الذي اتهمه البعض إما بالجهل أو الانحطاط كما جاء على لسان عضو مجلس نقابة الصحفيين عمرو بدر حين قال: “اللي كتب شخصية الصحفي في فيلم الممر لو قاصد يسيء للصحفيين يبقى منحط.. ولو متخيل إن ده دور وشخصية المراسل الحربي فعلاً يبقى جاهل.. يعني منحط أو جاهل مفيش تالت”!
علامات استفهام عدة طرحها عدد من الغيورين على الصحافة بعد عرض الفيلم الذي سحبته الشركة المنتجة من دور السينما لعرضه على شاشات التليفزيون المصري بعد أقل من ستة أشهر على عرضه سينمائيًا، يأتي في مقدمتها الهدف الحقيقي وراء تقديم هذه الصورة عن الصحفي، وهل هو انعكاس واضح للعلاقة بين النظام الحاليّ والصحافة التي وصلت إلى طريق شبه مسدود في ظل حملة القمع والتنكيل بحرية الرأي والتعبير، أم أن هذه الصورة الذهنية التي يهدف القائمون على العمل تسويقها للمواطنين في محاولة للتقليل من دور الصحفي ومكانته؟
صورة مشوهة
البداية كانت باختيار شخصية ممتلئة الحجم للقيام بهذا الدور الذي يتطلب رشاقة وقوة جسمانية، تلتها اللحظات الأولى لدخول المراسل الحربي إحسان (أدى دوره الفنان أحمد رزق) لمكتب قائد الكتيبة المكلفة بتنفيذ عملية فدائية خلف خطوط العدو الصهيوني المقدم نور (قام بدوره الفنان أحمد عز)، إذ كانت أول كلمة قوبل بها بعد دخوله المكتب من أحد الضباط الموجودين، ساخرًا: “ده معانا ولا علينا”، تلاها ابتسامة من الصحفي ذاته لا تحمل أي مسؤولية للموقف الحرج الذي كانت به الدولة المصرية في هذا التوقيت بعد هزيمة 1967.
الصورة الأولى تمثلت في فقدان الصحفي لمسؤولية الحدث وجديته، تبعها وابل من السخرية والتهكم، سواء من الضباط أو الجنود، وصلت إلى حد سبه من أحد الجنود قائلاً: “داهية فيك وفي معرفتك.. خليك في جورنالك”، هذا بخلاف تقديمه في صورة الجاهل بأي صور القتال.
علاوة على ذلك تم تقديم الصحفي كشخص لا يهتم إلا بأخبار الفنانات الساقطات والعزف على أوتار الغواني والبعد تمامًا عن الحياة السياسية التي كانت تشغل الشارع المصري في هذا التوقيت عن بكرة أبيه، وكأن الصحفي كان شغله الشاغل الأمور التافهة البعيدة عن دائرة اهتمام المصريين.
وتلك الصورة الحقيقية
عدد من الصحفيين الذين عملوا كمراسلين حربيين شنوا هجومًا على العمل، البداية كانت مع الإعلامي حمدي الكنيسي رئيس الإذاعة المصرية الأسبق، الذي أكد أن تلك المشاهد تسيء للمراسليين الحربيين، وأن الكاتب شريف عرفة، أخطأ حينما اختار ممثلاً كوميديًا لأداء دور مراسل حربي، الذي يتسم بالجدية الشديدة.
لم يخطر بذهن الكنيسي، الذي كان يقف مع الجنود منذ حرب 67 وحتى نصر أكتوبر، جنبًا إلى جنب على أرض سيناء، التي كانت تحت سيطرة العدو الصهيوني، أن يجد الصحفي الذي وثق تلك اللحظات، يتعامل بتلك الطريقة، في العمل الذي نال استحسان الملايين، وشاهده معظم أبناء الشعب المصري، خاصةً أنه يرى أن هذا الدور لا علاقة له بالمراسل الحربي.
“المراسل العسكري لم يكن أبدًا مهزوز ولا مهزوم ولا بيتبرق له وبيتشخط فيه من العساكر ويتريقوا عليه ولا كان الجيش – حتى اليوم – يوافق على ترشيح أي جرنال لصحفى بهذه المواصفات ولا تاريخه المهني كان في نشر أخبار البارات”، بهذه الكلمات عبرت الصحفية هبة باشا ابنة محمد باشا الذي عمل محررًا عسكريًا في جريدة الأهرام مدة 45 عامًا، عن غضبها من الصورة التي قدمها الفيلم.
الصحفية أشارت إلى أن والدها طيلة فترة عمله كمراسل حربي حقّق ضربات صحفية ونجاحات في نقل مشاهد المعارك للقارئ وكأنه يعيشها، مضيفة “المراسل العسكري كان عايش معهم في الخندق كواحد منهم وموثق بقلمه بطولاتهم وحتى مشاعرهم الإنسانية وسطوره كانت هي التي تشد عزم الشعب لأن الجرنال كان وسيلة رئيسية ومهمة لنقل المعلومات من حرب الاستنزاف إلى بعد 73”.
أما عمرو نبيل، مؤسس شعبة المصورين بنقابة الصحفيين، فأشار إلى أن “فيلم الممر عظيم كعمل مصري، ولكن لا يليق ونحن أمام عمل وثائقي تاريخي أن نضيف شخصية كوميدية لبث روح الفكاهة على العمل وتكون صحفي، فعمالقة مصر كانوا مراسلين حربيين.
وأوضح، أن مؤسسة الجمهورية قدمت خلال حرب الاستنزاف 3 شهداء هم: محمد بخيت أبو السعود المحرر العسكري الذي استشهد في مارس 1969، والمصور حسن عبد القادر الذي استشهد في أبريل 1970، والسائق محمد الكردي.
مما يعزز اتهامات التزييف والتزوير صورة الصحفي في الأفلام التي جسدت هذه الفترة التاريخية، بعد النكسة، حيث قدمته للمشاهد، المواطن القوي الحريص على مصلحة وطنه، الساعي لتقديم ما في وسعه لتحقيق الانتصار
تشويه وتزييف
اتهامات عدة بتعمد تزييف التاريخ وتشويه الحقائق وجهت للعمل الذي تجاوزت ميزانيته 100 مليون جنيه متصدرًا بها قائمة الانتاج السينمائي في مصر، لاسيما فيما يتعلق بالصورة التي قدمها للصحفي،وهو ما أشار إليه الصحفي محمود كامل، عضو مجلس نقابة الصحفيين، عبر حسابه على فيسبوك حين قال إنه: «ضد المصادرة على الفن ودوره في ترجمة جزء من الواقع مع رؤية فنية لها كل الحرية في تصوير ما تراه، أما وأنه عمل فني يوثق لمرحلة تاريخية مهمة ويرسخ لصورة ذهنية عن فئات بعينها فلنا هنا وقفة أمام تشويه ومغالطات تاريخية عن فئة بعينها، ليس دفاعا بسياسة القطيع، وليست مصادرة على رؤية فنية إذا اعتبرنا أنه عمل فني وله رؤية من الأساس».
وأضاف كامل «ضد سياسة القطيع وأن كل مهنة وفئة في المجتمع تدافع عن نفسها على طول الخط، هناك صحفي فاسد وضابط فاسد ومحامي فاسد ودكتور فاسد ووووو، وضد فكرة تقديس أي مهنة أو فئة فكل إنسان مهما عرف عنه وصف الشرف وكل الأوصاف الحميدة لديه عيوب ونواقص كثيرة».
المراسلة شيماء جلال والتي عملت كمحررة عسكرية لمدة 9 سنوات، كتبت على صفحتها هي الأخرى تقول أن “المحرر العسكرى بيتعمل عليه تحريات من كل الجهات الأمنية الموجودة فى البلد ..عامة وحربية وأمن وطنى وسياسى وجنائى وأداب وحتى المرور لو عنده عربية، مراجعة الأقارب من الدرجة الأولى والثانية والثالثة، يعنى باختصار مينفعش يكون جاى من ورا الراقصات”
فيما أوضح حسين الزناتي عضو مجلس نقابة الصحفيين ورئيس لجنة النشاط، أنه كان يحب “ألا تكون الصورة سلبية بهذه الدرجة، كنا نريد أن يكون المراسل العسكري في فيلم الممر قريبًا وشبيها لمن كان موجودًا في العمل”، مشيرًا إلى ضرورة أنَّ يضع كاتب السينارو نصب عينيه في أي عمل يشمل أحد أدواره صحفيا؛ نماذج كالأستاذ هيكل وعبده مباشر وإبراهيم حجازي ومكرم جاد الكريم ومحمد باشا وغيرهم.
ومما يعزز اتهامات التزييف والتزوير صورة الصحفي في الأفلام التي جسدت هذه الفترة التاريخية، بعد النكسة، حيث قدمته للمشاهد، المواطن القوي الحريص على مصلحة وطنه، الساعي لتقديم ما في وسعه لتحقيق الانتصار، وياتي على رأس تلك الأعمال فيلم “العمر لحظة” للمؤلف يوسف السباعي والمخرج محمد راضي.
فبعد الهزيمة، وجدت الصحفية نعمت التي جسدت دورها الفنانة ماجدة، والتي تعمل مع زوجها في الجريدة التي يرأس تحريرها ، أنهما على خلاف كبير في الرُّؤَى ، فيما يتعلق بأحوال البلاد والحرب ؛ مما يدفعها في اتجاه العمل التطوعي في إحدى المستشفيات ، حيث تتعرف هناك على مجموعة من الجنود الذين ترتبط بهم برابطة إنسانية قوية ، وبأحد الضباط ، كما تسافر كذلك إلى الجبهة لمساعدة الجنود في حل مشاكلهم وهمومهم، ونجحت في نقل المشاهد البطولية للجنود في الميدان للشارع الذي تعاطف مع جيشه وأبطاله، ما كان له أبلغ الأثر في ترميم الروح المعنوية للجنود التي تعرضت لكثير من الشروخ في أعقاب النكسة.
السنوات الأخيرة على وجه التحديد دخلت العلاقة بين السلطة والصحافة إلى نفق مسدود، فالسلطة لا تقبل إلا بالأصوات التي تعزف على أوتارها، وترى في معارضتها خيانة للوطن وهدم للوطنية
ليس مصادفة
ذهب عدد من الصحفيين إلى أن تقديم صورة المراسل الحربي بهذه الكيفية ليس امرًا عشوائيًا ولا قبيل المصادفة، فالصورة مقصودة وتعكس نظرة السلطة للصحافة بوجه عام، وهو ما أشار إليه الصحفي محمد الجارحي، عضو الجمعية العمومية لنقابة الصحفيين الذي أوضح أن مسلسل إهانة الصحفيين بدأ قبل فيلم الممر بكثير.
الجارحي على صفحته على فيس بوك كتب يقول ” كان مطلوب يتكسر الصحفيين وحصل، وكان مطلوب الجرايد تبقى مالهاش لازمة وشبه بعضها وحصل، والصحفي اللي له شنة ورنة ومقال منه يهز الدنيا ما بقاش موجود، والرقيب اللي كان بيتكسف دلوقتي بقى بيوزع المانشيتات، والصحفي المخبر اللي كان بيتدارى دلوقتي بقى بجح”
وتابع” إهانة الصحفيين حصلت لما النقابة اللي كان بيتعمل لها ألف حساب من أكبر راس في البلد، ما بقتش قادرة على واحد زي مرتضى، ولأول مرة في التاريخ اقتحم الأمن أبوابها، الإهانة مش بس من شريف عرفة اللي كتب وأخرج الفيلم، الإهانة كانت من اللي وافق ع النص واللي اعتمد الفيلم وراجعه.. وجعني دور أحمد رزق جداً لكن وجعي مش هيجي ذرة في وجع كل مراسل حربي لسه عايش وهيشوف الفيلم”
بدوره كشف الصحفي أحمد محمود أن السنوات الأخيرة على وجه التحديد دخلت العلاقة بين السلطة والصحافة إلى نفق مسدود، فالسلطة لا تقبل إلا بالأصوات التي تعزف على أوتارها، وترى في معارضتها خيانة للوطن وهدم للوطنية، وهو ما تعزز بشكل أكبر في السنوات الخمس الأخيرة التي لا صوت علا فيها إلا صوت المعركة.
وأضاف في تصريحاته لـ “نون بوست” أن الصورة المقدمة لا تعكس نظرة السلطة للصحفيين، فهم على دراية كاملة بحقيقتهم ودورهم المؤثر القادر على هز أركان أي نظام أيا كانت دعائمه، فهم عين الشعب المبصرة على فساد الحكومات وتجرؤ الأنظمة، ومن ثم كان هذا الموقف المتشدد منهم، لاسيما أصحاب الصوت المستقل بعيدًا عن القطيع.
وأشار إلى أن ما قدمه الممر هو الصورة التي يود القائمون على العمل توصيلها للمشاهد، وكأنهم يرسلون رسالة ضمنية مفادها : “هذا هو الصحفي الذي يدعي الوطنية ويرفع شعارات الحريات، هذا هو الصحفي الذي ينتقد النظام ويوجه سهامه لمرمى الحكومة، الصحفي غير المسئول، المهتم بالتفاهات والمسائل العارضة بعيدًا عن هموم الوطن والمواطنين”.
صدام واشتباك مستمر.. هذا هو واقع العلاقة بين السلطة والصحافة في مصر في السنوات الماضية، حيث تعرضت الحريات الإعلامية لواحدة من أحلك فترات تاريخها سوادا
الأمر ذاته أكد عليه الكاتب الصحفي معتز جابر، الذي كشف أن الروح الانتقامية من الصحفي لا تزال تسيطر على فريق كبير من السلطة، لافتا إلى أن ذلك ليس حكرًا على النظام الحالي وفقط، بل هو ديدن كافة الأنظمة السابقة، فالصحفي في نظرهم هو الفاضح لفسادهم الكاشف لعوراتهم.
وأضاف لـ “نون بوست” أن مثل هذه المحاولات التشويهية للصورة ليست وليدة اليوم، إلا أنها لم تكن بالفجاجة التي وصلت إليها حاليًا، حتى تحولت مهنة الصحفي إلى وصمة لدى البعض، وناقوس خطر يهدد مستقبل البعض الأخر، بعدما كانت تاجا فوق رؤوس أصحابها.
علاقة صدامية
صدام واشتباك مستمر.. هذا هو واقع العلاقة بين السلطة والصحافة في مصر في السنوات الماضية، حيث تعرضت الحريات الإعلامية لواحدة من أحلك فترات تاريخها سوادا، ما بين اعتقالات بالجملة، وحجب للمواقع، ومصادرة للصحف، وتهميش لدور الصحفيين.
وتشير التقارير والإحصائيات الصادرة عن المنظمات الدولية إلى تراجع ترتيب مصر في مؤشرات الحريات الصحفية، إذ وصلت للمركز 163 عالمياً ضمن قائمة تضم 180 دولة، في مؤشر التصنيف العالمي لحرية الصحافة الذي أصدرته منظمة “مراسلون بلا حدود” لعام 2019.
هذا بخلاف التشريعات القانونية التي صادق عليها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والتي حملت وفق وصف البعض “احتضار رسمي ” للصحافة في الدولة الأولى صحفيًا، عربيًا وشرق أوسطيًا، كان هدفها السيطرة على الإعلام والإنترنت، في مقدمتها: قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات، وقانون تنظيم الصحافة والإعلام والمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، وقانون الهيئة الوطنية للصحافة، وقانون الهيئة الوطنية للإعلام.
العديد من المؤشرات تكشف نظرة السلطات للصحافة والصحفيين، البداية كانت مع المواقع المحجوبة والتي وصل عددها إلى 513 موقعا على الأقل منذ مايو 2017، هذا بخلاف لائحة الجزاءات التي أصدرها المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام (مؤسسة حكومية مصرية تحل محل وزارة الإعلام)، إذ اعتبرت “الحلقة الأخيرة في إعلان وفاة الصحافة والإعلام، لما فيها من قيود تستهدف مصادرة حرية الرأي والتعبير في الصحف والقنوات وحتى مواقع التواصل الاجتماعي”.
علاوة على توثيق ما يقرب من 54 صحفيات مقيدًا في كشوف نقابة الصحفيين قيد الاعتقال، بجانب مثل هذا العدد تقريبا غير مقيد، من مراسلين ومصورين ومتدربين، وتوجت هذه الممارسات باحتلال مصر المركز الثاني في قائمة الأسوأ في مؤشر “لجنة حماية الصحافيين الدولية” عام 2015، كما كانت من ضمن العشرة مراكز الأولى في بلدان حبس الصحافيين عام 2014.