رغم الأوضاع الاقتصادية الهشة والضغوط الحياتية الشديدة قلما تجد بيتا مصريًا لا يوجد به مدخن، إذ بات هذا السلوك بشتى أنواعه سمة بارزة في مصر التي باتت واحدة ضمن قائمة أكثر 10 دول يحرص سكانها على التدخين بمختلف أشكاله، وفق ما كشفت الدراسات والإحصائيات العالمية.
فما بين الكيف الذي تحول إلى إدمان وطريقة للهروب من أوضاع غير مستساغة، يقبع الملايين في مصر أسرى لهذه العادة الصحية الضارة، ورغم التحذيرات المتتالية لخطورة التدخين وتبعاته، إلا أن ذلك لم يحرك ساكنا في مجتمع، كثير منه ينظر إلى السيجارة أو حجر الشيشة على أنه الدواء الشافي لكثير من الأمراض.
الأمر تجاوز مجرد سلوك من الممكن مقاومته وتنحيته إلى إمبراطورية من المستحيل الاقتراب منها، رغم المناشدات المحلية والدولية، خاصة بعدما باتت المصدر الأول للدخل القومي للبلاد، فاقت في بعض الأوقات دخول قناة السويس والسياحة، وتحولت مع مرور الوقت إلى عصب أساسي للاقتصاد المصري من الصعب التخلي عنه لاسيما في هذا التوقيت.
280 مليون سيجارة يوميًا
تتصدّر مصر قائمة الدول العربية فيما تحتل مرتبة متقدمة بين الدول الأكثر تدخينًا في العالم، حيث وصل استهلاك المصريين للسجائر يوميًا خلال عام 2017/2018 إلى 280 مليون سيجارة، وفق دراسة حديثة أعدها مركز القاهرة للدراسات الاقتصادية والاستراتيجية.
الدراسة كشفت أن استهلاك المصريين للسجائر خلال العام 2017-2018 بلغ حوالي 83 مليار سيجارة سنويًا، تقدر تكلفتها بـ73 مليار جنيه، في حين وصل استهلاك “تبغ المعسل” إلى 50 ألف طن سنويًا بقيمة 3 مليارات جنيه، وهو الرقم القابل للزيادة في ظل الإقبال المتنامي على هذه العادة.
وقد بلغ المتوسط العام لإنفاق الأسرة المصرية على الدخان، نحو 1724.9 جنيه سنويًا، أي ما يمثل 4.7% من إجمالي الإنفاق السنوي، البالغ 36700 جنيه للأسرة، فيما بلغت نسبة المدخنين 21% من إجمالي عدد سكان مصر، يضاف إليهم 23% مدخن سلبي، ويموت سنويا 171 ألف شخص لإصابتهم بأمراض تتعلق بالتدخين، وفق إحصائيات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء(حكومي).
عن مدخني الشيشة، فيشكلون نحو 19.9 في المئة من عدد المدخنين، بواقع 17.2 في المئة بالفئة العمرية من 15 إلى 29 سنة، و18.6 في المئة للفئة العمرية من 30 إلى 44 سنة،
ووفق الأرقام وصلت نسبة المدخنين الذين تتراوح أعمارهم ما بين 15 و69 سنة إلى 22.7 في المئة من إجمالي السكان، وانحصرت أعلى نسبة للتدخين فى الفئة العمرية من 30 إلى 44 سنة، وتبلغ نسبة الذكور المدخنين بصفة يومية 81.4 في المئة من إجمالي الذكور المدخنين، مقابل 18.6 في المئة للمدخنين بصفة غير يومية.
أما عن مدخني الشيشة، فيشكلون نحو 19.9 في المئة من عدد المدخنين، بواقع 17.2 في المئة بالفئة العمرية من 15 إلى 29 سنة، و18.6 في المئة للفئة العمرية من 30 إلى 44 سنة، و23.4 في المئة للفئة العمرية من 45 إلى 59 سنة، و27.3 في المئة للفئة العمرية من 60 إلى 69 سنة.
4 مليار دولار ضرائب سنوية
تشكل الضرائب المحصلة من شركات التبغ في مصر الجزء الأكبر من ميزانية الضرائب الإجمالية المستحقة من كافة مؤسسات الدولة، إذ بلغت العام الماضي قرابة 60.1 مليار جنيه (3.7 مليار دولار) بينما تستهدف زيادة هذا العام قدرها 11.6% لتصل إلى 67.1 مليار جنيه (4 مليار دولار)، وذلك وفقا لما أظهرته بيانات مشروع الموازنة العامة للدولة، للعام المالي 2019/2020.
الملاحظ أنه خلال السنوات الست الأخيرة على وجه التحديد شهدت الضرائب على السجائر في مصر قفزة غير مسبوقة، إذ ارتفعت بنسبة تصل إلى نحو 183.8%
وكشفت القوائم المالية للشركة الشرقية للدخان “إيسترن كومباني” التابعة للشركة القابضة للصناعات الكيماوية، إحدى شركات قطاع الأعمال العام، للعام المالي 2018- 2019 تحقيق أرباح بلغت 3.73 مليار جنيه، فيما أوضحت قوائمها المالية أن إجمالي ما وردته ” للخزانة العامة للدولة حتى 30 يونيو الماضي نحو 65.3 مليار جنيه كضرائب ورسوم جمركية، وهو ما يوازي نحو 218 مليون جنيه يوميا خلال أيام العمل المتاحة المقدرة بـ300 يوم.
والملاحظ أنه خلال السنوات الست الأخيرة على وجه التحديد شهدت الضرائب على السجائر في مصر قفزة غير مسبوقة، إذ ارتفعت بنسبة تصل إلى نحو 183.8% وهي الزيادة التي تسير في منحنى متصاعد مع زيادة أسعار بيع التبغ والتي باتت ظاهرة شبه سنوية خلال الفترات الأخيرة.
وقد ارتفع حجم الضرائب المحصلة من شركات السجائر في مصر من 19.2 مليار جنيه في 2013/2014، إلى 54.5 مليار جنيه في العام المالي 2017، إلى 60.1 مليار جنيه في 2018، وصولا إلى 67.1 مليار جنيه بنهاية العام الجاري، وفق ما ذكرت بيانات وزارة المالية.
جدير بالذكر أن الضرائب بصفة عامة تشكل نحو أكثر من 80% من إجمالي إيرادات الدولة المحققة، وهو ما أظهرته البيانات الرسمية الصادرة عن جهاز التعبئة العامة والإحصاء والتي كشفت عن تحقيق الدولة لإيرادات ضريبية بقيمة 354.2 مليار جنيه خلال الفترة من يوليو _ فبراير 2017/ 2018 تشكل نسبة 82.2% من إجمالى الإيرادات المحققة خلال تلك الفترة.
عرف المصريون التدخين منذ بدايات القرن السابع عشر، حيث دخل نبات التبغ للبلاد أول مرة سنة 1601 وكانت تستخدم بداية الأمر عن طريق المضغ قبل اختراع السجائر
وعليه فإن ضرائب التبغ وصناعة السجائر في مصر تمثل قرابة نحو 20% من إجمالي إيرادات الدولة الضريبية، لتتصدر بها قائمة مصادر الدخل بصفة عامة، متفوقة في ذلك على العديد من القطاعات الحيوية والتي ربما تتراجع حجم إيرادتها وفقا للظروف الأمنية والسياسية، المحلية والإقليمية والدولية، كما حدث مع السياحة وقناة السويس.
أربعة عقود من التدخين
عرف المصريون التدخين منذ بدايات القرن السابع عشر، حيث دخل نبات التبغ للبلاد أول مرة سنة 1601 وكانت تستخدم بداية الأمر عن طريق المضغ قبل اختراع السجائر، إلا أنها قوبلت برفض رسمي من الوالي العثماني آنذاك، يقول المؤرخ العلامة الجبرتي أن ( أن الوالي العثماني أصدر أوامر بمنـع شـرب الـدخان فـي الشوارع وعلى الدكاكين وأبواب البيوت وشدد في النكـال بمـن يفعل ذلك ووصل الامر لحد الاعدام فلقد اعتبرها الناس عادة بذيئة قبيحة ).
عرفت الدولة المصرية صناعة السجائر رسميًا بعد ثورة 1919، حيث تم تدشين أول شركة لهذا الغرض حملت اسم شركة سجائر محمود فهمي
وظلت مصر تعتمد على التبغ المستورد حتى عام 1799، أثناء الحملة الفرنسية، حينها بدأ سكان مدينة الفيوم زراعته بعد انتشار استعماله، وفي عام 1840 بدأ تحويل التبغ إلى سجائر ملفوفة، وكان للفرنسيين الفضل في ذلك عندما قاموا بلف التبغ داخل ورق رقيق فانتشرت عادة شرب السجائر في أوروبا وانتقلت منهاالى مصر.
عرفت الدولة المصرية صناعة السجائر رسميًا بعد ثورة 1919، حيث تم تدشين أول شركة لهذا الغرض حملت اسم شركة سجائر محمود فهمي، والتي أنتجت سجائر تحمل اسم “بيت الامة 1919” وكان لها إعلانا طريفا كان شعاره فيه “السجائر التي يحبها الرياضيون ” ونشر في مجلة “الألعاب الرياضية”.
ولعشرات السنين احتكر الأرمن صناعة السجائر في المحروسة، حيث أسسوا 20 مصنعا، منها 16 مصنعا في القاهرة واثنان بالإسكندرية ومصنع واحد بمدينة المنصورة وآخر بمدينة الزقازيق، وأقدمها مصنع سركسيان الذي أسسه كريكو سركسيان بشبرا أما أشهرهم فهي الماتوسيان.
ظل المصريون بعيدين عن هذه الصناعة لعقود طويلة، إذ اكتفوا بدور المستهلك وفقط، وذلك حتى عام 1920 حين أسس السلطان أحمد فؤاد أول شركة مصرية لصناعة التبغ، حملت اسم “الشركة الشرقية للدخان Eastern Company” وهي المتواجدة حاليًا والتي تحتكر صناعة السجائر في مصر.
تسيطر الشرقية للدخان على نصيب الأسد من سوق السجائر المصرية، إذ تنتج قرابة 75 بليون سيجارة سنويًا
الشركة تأسست برأس مال قدره 25 ألف جنيه، وكان الغرض منها، محاربة الإنتاج الأجنبي للسجائر، ومع مرور الوقت حققت نجاحات عدة دفعت الشركات الأرمينية للاستسلام واندماج بعضها فيما أغلق الأخر، وفي عام 1927 تحديدًا أعلنت شركات ميلكونيان وجامسراجان وإيبيكيان من الأرمن، وصوصة وماخريديس وباباثوليوجو من اليونانيين، فضلا عن مؤسستي ماسبيرو الإنجليزية وشركة الدخان الإنجليزية الأمريكية خضوعها الكامل للشركة المصرية.
تسيطر الشرقية للدخان على نصيب الأسد من سوق السجائر المصرية، إذ تنتج قرابة 75 بليون سيجارة سنويًا، بمعدل نحو 210 ألف سيجارة يوميا، بما نسبته 90% من إجمالي المنتج بصفة عامة، ولديها قرابة 21 مصنعا فى كافه أنحاء البلاد، وتخطط لزيادة خطوط الإنتاج في عدد من المحافظات البعيدة نسبيًا عن العاصمة.
شركة الشرقية للدخان
تمتلك الشركة 9 مصانع لإنتاج أصناف السجاير والغليون والسيجار بالجيزة والطالبية والإسكندرية والسادس من أكتوبرو 3 مصانع لإنتاج أصابع الفلتر بالجيزة والطالبية والإسكندرية، ومصنع لإنتاج علب الكرتون والطباعة بمخازن الزمر بالجيزة، و 6 مصانع أخري لإنتاج دخان المعسل بالجيزة والطالبية والإسكندرية ومنوف وطنطا وأبوتيج و3 مصانع لإنتاج الدخان المجنس بالجيزة والطالبية والإسكندرية و2 مصنع للتصنيع الأجنبى بالزمر والطالبية.
تستهدف الشركة رفع مبيعاتها من المعسل خلال العام المالي المقبل 2019 – 2020 إلى 20 ألف طن”، وفقاً للموازنة التقديرية للشركة، التي اعتمدتها الجمعية العامة للشركة في مارس (آذار) الماضي، بحسب هاني أمان رئيس الشركة، الذي أوضح أنها “تستهدف ضخ 64.87 مليار سيجارة خلال العام المالي 2019 – 2020 بالسوق المحلية والتصدير وإنتاج مشترك، بينما تستهدف خلال العام المالي المقبل أن يصل إجمالي ما يؤول للدولة من حصيلة الضرائب والرسوم نحو 67.7 مليار جنيه (نحو 4 مليارات دولار أميركي)”.
وهكذا تبقى صناعة التبغ في مصر شريانا حيويًا للاقتصاد المصري، وواحدًا من أبرز مصادر الدخول الدائمة والتي لا تتأثر في الغالب بالمستجدات المحلية والإقليمية والدولية، وعليه من الصعب والخطورة في آن واحد وقف تدفقه رغم دعوات التحذير المتتالية التي تشير إلى أن التدخين يقتل نحو 170 ألف مصري سنويًا.