شكّل الاستثمار في البنية التحتية أحد أهم المجالات التي ارتكزت عليها إدارة حزب العدالة والتنمية في خططها التنموية للنهوض بالبلاد، حيث استفادت مشاريع النقل الحديدي من هذه الاستثمارات التي شهدت في السنوات الأخيرة تطوراً في النوع والكم.
سكك الحديد في العهد العثماني: القطار كرمز للسيادة
لم يكن في مقدور الدولة العثمانية ذات الأراضي الممتدة شرقاً وغرباً الإ السعي للحاق بركب الدول الغربية التي أخذت في مد سكك الحديد على طول أراضيها. ونتيجة لضعف الخبرة العثمانية في مجال بناء ومدّ سكك الحديد وضعف الموارد المادية؛ اعتمدت الدولة على شركات غربية نالت امتياز تشغيل الخطوط وجني أرباحها بالإضافة إلى التحكم في مواقع إنشائها التي حرص على أن تراعي مصالح الدولة الغربية بما يخدم استراتيجياتها ورأس مالها المستثمر في الدولة.
بحلول عام 1856 حصلت شركة روبرت ويلنكس الانجليزية على امتياز انشاء وتشغيل أول خط سكة حديدية في الأناضول وصل ما بين مدينتي أزمير وايدن، ليتبعه لاحقاً إنشاء عدد من الخطوط الجديدة التي أخذت في ربط مدن وحواضر الدولة العثمانية بعضها ببعض، وبحلول 1883 بدأ قطار الشرق بنقل المسافرين من باريس مروراً بعدد من العواصم وصولاً الى مدينة اسطنبول عاصمة الدولة العثمانية.
أولى السلطان عبد الحميد الثاني أهمية خاصة للسكك الحديدية حيث بدأ في عهده العمل على خط سكة حديد بغداد-برلين التي كان من المقرر ربطها بالخط الأوروبي لتصل الى مدينة برلين عاصمة الإمبراطورية الألمانية. واجه المشروع عدداً من الصعوبات والمعوقات، على رأسها الاعتراض الإنجليزي والروسي، إذ رأت الإمبراطورية البريطانية تهديداً استراتيجياً لهيمنتها على خطوط المواصلات البحرية.
أما المشروع الآخر الذي اكتسب أهمية سياسية واستراتيجية فكان مشروع سكة الحجاز، الذي عد مشروعاً حميدياً بالدرجة الاساسية، إذ شكل التجسيد العملي والأهم لفكرة الجامعة الاسلامية التي طرحها السلطان عبد الحميد.
بدأ العمل على المشروع في العام 1900 بمساعدة مجموعة من الفنيين والمهندسين الألمان. شكل المشروع في كل مرحلة من مراحله تحدياً حقيقياً أمام الإدارة العثمانية التي استعانت بقوات الجيش لإنجاز مراحل المشروع، أما تمويل المشروع فقد اعتمدت الدولة العثمانية فيه على مواردها المحلية حيث تم جمع ثلثي مالية المشروع من حملة التبرعات التي أطلقها السلطان عبد الحميد الثاني. وبعد 8 سنوات كانت حافلة بالصعوبات والتحديات افتتح الخط في الأول من سبتمبر من عام 1908 في ذكرى اعتلاء السلطان عبد الحميد للعرش.
اختصر القطار مدة السفر ما بين دمشق والحجاز الى 5 أيام بعد أن كانت تصل إلى ما يقرب الـ 40 يومًا، حيث ساهم القطار في إحداث نقلة نوعية في عدد الحجيج، الأمر الذي ترك أثره على الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للمناطق التي مرت منها خطوط القطار.
ارتكزت فلسفة الدولة العثمانية في بناء خطوط سكك الحديد على طبيعة التهديدات التي كانت تواجهها الدولة والتي جاء على رأسها تمرّد أقاليمها المترامية الأطراف، لذلك شكل بناء خطوط سكك الحديد ممارسة تندرج في إطار فرض السيادة على هذه المناطق، والإعداد لحمايتها والدفاع عنها، حيث أثبت سكك الحديد مدى فعاليتها وقدرتها على التأثير على مجريات الأمور، فبفضل سكة الحجاز استطاع فخر الدين باشا الصمود في المدينة المنورة أمام حصار قوات الشريف حسين له، كما استطاع الأتراك الصمود في كوت العمارة بفضل قربها من سكك الحديد، أما الأثر الأهم لسكك الحديد وخطوط التلغراف فكان في خلال حرب الاستقلال حيث استطاعت الحركة الوطنية بفضل شبكة سكك الحديد وخطوط التلغراف المنتشرة على ربوع الأناضول تجميع قواها وحشد الشعب التركي للمواجهة.
سكك الحديد في عهد الجمهورية
مرّت سكك الحديد في الجمهورية التركية في مرحلتين متباينتين في درجة اهتمام الدولة بسكك الحديد. امتدت الأولى من نشأة الجمهورية حتى العام 1950، حيث اتخذت الإدارة التركية استراتيجية ذات ثلاث أبعاد، ركز البعد الأول على إنشاء خطوط جديدة وتطوير الشبكة ورفع كفائتها، فيما ركز البعد الثاني على تأميم خطوط الشبكة القائمة والتي خضعت لسيطرة الشركات الأجنبية المنشأة لها، أما البعد الثالث فتمثل في تنظيم إدارة الشبكة.
أسفرت هذه السياسة عن افتتاح عدد كبير من خطوط السكك الحديدية حيث وصل طول الخطوط التي تم إنشاؤها في هذه الفترة ما يقرب من 3802 كم، ليصل إجمالي طول خطوط السكك الحديدية في الجمهورية التركية عام 1950 الى 7671 كم حيث ورثت الجمهورية التركية ما يقرب من 4018 كم من خطوط سكك الحديد التي تم إنشاؤها في عهد الدولة العثمانية.
أما المرحلة الثانية من عمر الجمهورية والتي بدأت مع تولي الحزب الديمقراطي بزعامة عدنان مندريس الحكم عام 1950، فقد شهدت ما يشبه النكوص في الاهتمام ببناء سكك الحديد ومدها، التي حل محلها الطرق البرية التي نالت حصة من دعم مشروع مارشال الأمريكي، فخلال العام 1950 استخدمت خطوط السكك الحديدية لنقل ما نسبته 76% من البضائع المتنقلة ما بين المدن التركية. في حين ساهمت الطرق البرية بنقل ما نسبته 24% من البضائع، بالإضافة إلى ذلك استخدم 51% من المسافرين الأتراك خطوط السكك الحديدية للتنقل ما بين المدن التركية، في حين استخدم 49% الطرق البرية.
وبحلول عام 1960 بدأت الأمور بالتغير لصالح الطرق البرية التي ساهمت في نقل 75% من المسافرين الأتراك في حين ساهمت السكك الحديدية بنقل 25% منهم فقط. أما فيما يتعلق بالبضائع فارتفعت مساهمة الطرق البرية من 24% عام 1950 إلى 44% عام 1960، فيما انخفضت مساهمة شبكات السكك الحديدية في نقل البضائع من 76% إلى 56%.
استمر هذا الوضع في عهد الخطط الخمسية للدولة التركية في الفترة التي تلت عام 1960، فعند وضع الخطة الخمسية الرابعة للفترة ( 1979-1983)، استحوذت الطرق البرية على 46.9% من الميزانية المخصصة للمواصلات، في حين حصلت شبكات السكك الحديدية على ما نسبته 39%.
سكك الحديد في الالفية الثانية
يعد الاستثمار في البنية التحتية وتطويرها من أهم المجالات التي ركزت إدارة حزب العدالة والتنمية على إنجازها وتطويرها، حيث استعدات مشاريع وخطوط السكك الحديدية مكانتها من جديد، فارتفعت قيمة المبالغ المستثمرة في مشاريع السكك الحديد من 1.555 مليار ليرة عام 2003 لتصل إلى 14.097 مليار ليرة عام 2018، فيما وصل طول السكك الحديدية عام 2018 لما يقرب من 12.710 كيلومتر.
ولم تقتصر مشاريع تطوير سكك الحديد على زيادة طول خطوط السكة بل تم إدخال تغيرات نوعية متعلقة في زيادة فعالية المركبات وتطويرها، وزيادة الاعتماد على الكهرباء كوسيلة لشتغيل العربات وبالتالي استخدام طاقة نظيفة في تشغيل المركبات والعربات.
وجاء التطوّر الأهم في افتتاح خطوط القطارات السريعة التي دخلت الخدمة عام 2009 بافتتاح خط أسكيشيهر- أنقرة، ليتبعها خط أنقرة- قونيا عام 2011، فيما تم افتتاح خط اسطنبول- أنقرة عام 2013، لتصبح القطارات السريعة ممتدة من مدينة قونية وسط الأناضول الى مدينة اسطنبول غربي الأناضول. كما ارتفعت مسافة خطوط القطارات السريعة من 397 كيلو متر عام 2009 الى 1.213 كيلومتر عام 2018.
خطوط القطار السريع في تركيا
وبالإضافة إلى تمديد خطوط السكك الحديدية، شهدت تركيا تطوراً نوعياً آخر على مستوى صناعة القطارات وعربات الجر، حيث حققت تركيا في السنوات الأخيرة تقدماً ملحوظاً في صناعتها وتطويرها وخاصة القطارات السريعة.
ختاماً: تركيا ومبادرة الحزام والطريق
شهدت مدينة باكو عاصمة أذربيجان في أكتوبر 2017 افتتاح خط باكو تبليسي قارس، بحضور رؤساء تركيا أذربيجان وجورجيا وكازاخستان. يتمد الخط من مدينة قارص التركية إلى العاصمة الأذربيجانية باكو ماراً في العاصمة الجورجية تبليسي، حيث جاء المشروع في إطار مبادرة الممر الوسط التي تحضي برعاية وتشجيع الدولة التركية.
تهدف المبادرة الى ربط تركيا بدول آسيا الوسطى من خلال ممر بري ينطلق من مدينة قارص شرقي تركيا مروراً بجورجيا ليصل لاحقاً الى بحر قزوين المقرر أن تنطلق منه عبارات بحرية الى دولة تركمستان وكازخستان المطلات على بحر قزوين، ومن دولة تركمستان تنطلق البضائع لاحقاً إلى دول أفغانستان وباكستان فالصين.
كما من المقرر أن يتم ربط مدينة قارص بخطوط قطارات سريعة مع مدينة أدرنة ومن ثم أوروبا، ومدينة مرسين على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وبذلك تتحول مدينة قارص لعقدة مواصلات مهمة في شبكة السكة الحديدية التركية.
بالإضافة إلى مبادرة الممر الوسط التي تحقق الحلم التركي في الاتصال بالشعوب الناطقة باللغة التركية في وسط آسيا، تسعى تركيا للعب دور محوري في مبادرة الحزام والطريق الصينية من خلال ربط “الممر الوسط” بالخطوط الصينية، حيث أبدت تركيا اهتماماً كبيراً بالمبادرة منذ ظهورها عام 2013، إذ تأتي المبادرة الصينية في ضوء الطموحات التركية لأن تكون محوراً استراتيجياً في اتصال القارة الأوروبية مع القوى الآسيوية الصاعدة اقتصادياً، وفي هذا الإطار تأتي الاستثمارات التركية الكبيرة في مجال البنية التحتية وتطويرها.