16 عامًا مرت منذ الغزو الأمريكي للعراق، إلا أن لا شيء من أهداف هذه النقلة الكبيرة في تاريخ البلاد قد تحقق، بل أخذ هذا الغزو بالمنطقة كلها إلى عملية سياسية مشوهة قائمة على التحاصص والفصل الطائفي والعشائري الذي ظهر بشكله الواضح والصريح خلال السنوات العشرة الماضية.
إذ فتح طريقًا لتغلغل الفساد في كل جوانب الدولة حتى باتت الرشوة شائعة وطبيعية لتسيير أصغر أمر داخل أبنية الحكومة، فلم يعد بإمكان المواطن العراقي القيام بأي مشروع صغير أو كبير دون دفع الرشاوى للحصول على موافقات رسمية، أو حتى الحصول على وظيفة في الدولة حتى لو كانت تقتصر على حراسة مبنى البلدية، كما أعطى لرجال الدولة والسياسيين فرصة لا يهددها شيء لنهب ثروات البلاد والاستيلاء على أموال الشعب والإيقاع بهم في مشاكل طائفية ما زالت مستمرة حتى الآن.
ورغم ما تبع هذه النقلة الكبيرة من تغيير في شكل السياسية العراقية من شيوع الطائفية وخروج قوانين القبيلة فوق قوانين الحكومة وخروج ديمقراطية مشوهة وحرية لا تختلف عنها كثيرًا رغم إجراء انتخابات منظمة كل 4 سنوات بالإضافة إلى إضعاف بنية الجيش والأجهزة الأمنية، فإنها كانت سببًا في كسر حاجز الخوف لدى الشعب العراقي للخروج ضد السلطة الحاكمة والمطالبة بحقوقه في إطار حراك ثوري منظم أحيانًا وعشوائي أحيانًا أخرى، وهو ما كان حاضرًا ولا زال حتى اليوم.
2018 انطلاق شرارة الانتفاضة العراقية
شكّلت البصرة، المدينة الأكثر ثراءً بالذهب الأسود في العراق نقطة انطلاق شرارة الاحتجاجات المطالبة بإصلاحات لا تتعدى الحصول على خدمات الماء والكهرباء وتوفير فرص العمل في يوليو/تموز الماضي تزامنًا مع مفاوضات تشكيل الحكومة الجديدة.
إذ رفع المتظاهرون لافتات تطالب بحقوق اجتماعية تنهي مسلسل الامتيازات والمحاصصات الذي استمر طويلًا وتطالب بتغييرات في الدستور والقوانين تساعد على خلق فرص عمل للشباب، وسرعان ما توسعت تلك الاحتجاجات لتشمل مناطق أخرى تقع شمالي المحافظة، منها مناطق الشافي والغميج والشرش، إضافة إلى قضاء القرنة، مما أدى إلى قطع الطرقات إضافة إلى تعرض دوائر حكومية في تلك المناطق لتجاوزات كمحاصرة مراكز للشرطة واقتحام مكتب للمجلس الأعلى الإسلامي في قضاء المدينة وإحراق مقر المجلس البلدي ومنع موظفي الشركات النفطية من الدخول إلى القضاء.
يُقدّر عدد الأشخاص المختفين في العراق حتى نهاية عام 2018 بين 250 ألف إلى مليون شخص
استمرت هذه التظاهرات حتى وصلت إلى قلب العاصمة العراقية بغداد، فنظم المتظاهرون وقفات احتجاجية واقتحموا مطار النجف في جنوب بغداد، إلا أنه كان للحكومة العراقية رأي آخر، فواجهت الاحتجاجات السلمية بالعنف وإطلاق النار، فسقط ما يقارب 22 قتيلاً وأصيب 680 متظاهرًا بجروح مختلفة، كما وصل الأمر إلى اعتقالات واسعة طالت مثقفين ومتظاهرين من خلفيات مختلفة، ولم يكن الأمر مفاجئًا بتاتًا في سياسة تعامل الحكومة العراقية مع الاحتجاجات الشعبية، إذ يعتبر استخدام العنف لقمع المتظاهرين النتيجة الأبرز لما خلفته سياسة ما بعد عام 2003.
هذا إضافة إلى انتشار الاختفاء القسري الذي راح ضحيته الكثيرون عند قيام قوات الأمن العراقية باعتقال ما يقارب 1000 متظاهر تلاها رفض الاعتراف بمصيرهم. إذ يُقدّر عدد الأشخاص المختفين في العراق حتى نهاية عام 2018 بين 250 ألف إلى مليون شخص، مع أن العراق طرف في الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، إلا أن السلطات فشلت تمامًا في تنفيذ التزاماتها حتى وصل بها الأمر مع بعض الحالات إلى تنفيذ حكم الإعدام دون إجراء محاكمات عادلة.
لم تتغير طريقة تعامل الحكومة العراقية مع الاحتجاجات المستمرة منذ منتصف العام الماضي حتى يومنا الحاضر، بل على العكس ازدادت وحشية
كما استخدمت الحكومة العراقية سابقًا أجهزة الصعق الكهربائي ضدهم واستجوبتهم وأرغمتهم على توقيع أوراق دون الاطلاع على محتوياتها، كما عمدت السلطات إلى وضع قيود مشددة على إمكانية الدخول إلى الإنترنت، بما في ذلك وسائل التواصل الاجتماعي، حتى لا يتمكن المتظاهرون من مشاركة الصور وأشرطة الفيديو التي تبين الانتهاكات وهو ما يتكرر في الاحتجاجات الراهنة اليوم.
تصفية الناشطين المعارضين
شهدت الفترة ما بين عاميّ 2018 و2019 موجة احتجاجات مستمرة في الشارع العراقي إلا أنها كانت هادئة أحيان وبارزة أخرى. وقد تخللها ملاحقات واعتقالات وحتى اغتيالات لوجوه معروفة بمعارضتها لشكل السلطة الحالي أو حتى تطالب بحقوق أخرى يذكر من بينها قيام مجهول _ على حدّ تعبير السلطات العراقية _ بإطلاق الرصاص على الناشطة الحقوقية سعاد العلي في مدينة البصرة أثناء ركوبها السيارة في سبتمبر 2018. إذ كانت العلي من أبرز الحقوقيات المؤيدات للمظاهرات التي نُظمت في البصرة ضد الحكومة المركزية بسبب نقص مياه الشرب النظيفة والكهرباء وارتفاع معدلات البطالة في المحافظة الغنية بالنفط كما أنها كانت تترأس منظمة “الود العالمي” لحقوق الإنسان.
أيضًا جاء اغتيال الروائي والأديب علاء المشذوب في فبراير من هذا العام صدمة كبيرة للكثير من الأدباء العراقيين إذ تم إطلاق 13 رصاصة عليه أمام بيته فيما يعرف عنه رفضه التدخلات الخارجية في العراق وانتقاده المستمر على العلن للدور السلبي الذي يقومون به بعض رجال الدين العراقيين. بينما علّق بعض الأدباء والناشطين بأن قتل المشذوب مقتله، قال “عملية قتل الكلمة الحرة والصادقة ووأد الجمال”.
ثم تلاه لاحقًا خبر مقتل الناشط ورسام الكاريكاتير حسين عادل وزوجته داخل منزلهم بعد أيام من مشاركتهم في تظاهرات بمدينة البصرة ومساعدتهم في نقل الجرحى إلى المراكز الطبية في بداية أكتوبر الجاري بينما قالت مصادر أمنية لمواقع إخبارية بأنهم سبق وأن تلقوا تهديدات من جماعات مسلحة قوية في المدينة العام الماضي.
2019 عام تحول الاحتجاجات إلى حراك ثوري
لم تتغير طريقة تعامل الحكومة العراقية مع الاحتجاجات المستمرة منذ منتصف العام الماضي حتى يومنا الحاضر، بل على العكس ازدادت وحشية الأمن والميليشيات التابعة له في التصدي للمتظاهرين، ورغم ذلك أخذت الاحتجاجات عمقًا أكبر وصدى واسعًا، فباتت تطالب بإزالة الطبقة السياسية الحاكمة بأسرها وترفض التدخل الإيراني في العراق، فيما تزداد الضغوط السياسية على الحكومة حتى دعا بعض رجال البرلمان إلى انتخابات مبكرة تحسم الأمر.
الاحتجاجات التي بدأت في بداية الشهر الحاليّ، بساحة التحرير وسط العاصمة بغداد، بمشاركة أكثر من ألف محتج، مطالبين بإصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية، امتدت للعديد من المحافظات بمختلف أطيافها وانتماءاتها الدينية وليست لها قيادة واضحة أو محددة، إنما هي احتجاج شعبي غير مسبوق أدى إلى ارتباك واضح في أداء رجال السياسة العراقية التي لطالما كانت معتادة على احتجاجات وخلافات داخلية فقط بينما ما يحدث اليوم يشبه إلى حدّ ما تحديًا مجتمعيًا مادته الأساسية شبان وصحفيون مثقفون يصل حدّ مطالبهم إلى إسقاط النظام وإعدام رؤوس الفساد والمجرمين القابعين في سجون الدولة.
رغم تزايد القتلى والمصابين الذين وصلت أعدادهم إلى 110 قتلى و6 آلاف جريح حتى الـ7 من أكتوبر، فإن التوقعات تفيد بأن المظاهرات السلمية ستستمر في التزايد
في حين كان هناك بعض المساندين لهذا الحراك كونه يطالب بمطالب اجتماعية، لو طبقت ستحل أزمة كبيرة في البلاد، أمثال علي السيستاني الذي يمثل أعلى مرجعية شيعية في العراق. حثّ السيستاني جميع الأطراف على وقف العنف وألقى باللوم على الطبقة السياسية بسبب فشلها في إصلاح البلاد، كما دعا الحكومة إلى “تحسين الخدمات العامة وإيجاد وظائف وتجنب المحسوبية في الخدمة العمومية ووضع حد لقضايا الفساد”.
وبينما يغيب عن المشهد أي توثيق لمنظمات حقوق الإنسان العالمية أو المحلية ورغم تزايد عدد القتلى والمصابين الذين وصلت أعدادهم إلى 110 قتلى و6 آلاف جريح حتى الـ7 من أكتوبر، فإن التوقعات تفيد بأن المظاهرات السلمية ستستمر في التزايد وستجد طريقًة أكثر تنظيمًا للوصول إلى حل سياسي يقتضي مرحلة انتقالية جديدة.