منذ تأسيسها عام 2005، اجتهدت حركة المقاطعة الدولية “البي دي أس” في دعوة العالم لمقاطعة دولة الاحتلال وسحب الاستثمارات منها ومعاقبتها على انتهاكات ضد الشعب الفلسطيني، وخلال 14 عامًا تقريبًا من التأثير والتغيير، أدرك الناشطون الفلسطينيون بأنها القشة التي يتعلق بها الغريق، فقد افتق الفلسطينيون طويًلا لوجود أي جماعة أو قوة تؤثر على صناعة القرار في هيئة أو جهة معينة، مثلما تفعل “البي دي أس” حاليًا.
قدمت الحركة حملة مضادة لتلك التي قدمتها دولة الاحتلال، وهو ما لم يثر إعجاب “إسرائيل” التي وظفت الأيديولوجيات اليمنية والسياسات الليبرالية في العديد من البلدان للتحالف معها والضغط على حكومات الدول حتى لا تتعاون مع حركة المقاطعة أو الداعمين لها، وذلك من خلال التشكيك في أهداف الحملة وتعريفها على أنها مجموعة “معادية للسامية”.
تدريجيًا، استطاعت جماعات الضغط الصهيونية التأثير على قرارات الكثير من المؤسسات والمنظمات الأكاديمية والاقتصادية والثقافية، حيال القضية الفلسطينية بشكل عام، وحملة المقاطعة بشكل خاص، مسببةً الصداع للمجتمع الدولي باحتجاجها المتواصل على مواقفه الحيادية أو المتحيزة للفلسطينيين.
في هذا التقرير، نستعرض جانبًا من تأثير هذه الضغوط على المؤسسات الدولية الثقافية، وكيف تخلّت عن معايير المصداقية والاستقلالية المهنية في سياساتها ومبادئها، خدمةً لمصالح “إسرائيل” واستجابةً لروايتها وضغوطها. ما جعل هذه المنظمات متهمة بـ”تسييس” فعالياتها وتغييب حرية الضمير والرأي والتعبير والانتقاد. وأبرز تلك الأمثلة لجان التحكيم في مؤسسات التكريم التي سحبت جوائزها من بعض الفائزين بسبب دعمهم لحركة المقاطعة وإبداء تعاطفهم وتضامنهم مع الشعب الفلسطيني، دون أن تكترث للديمقراطية وأخلاقيات المهنة وجوهر الفن.
جائزة آخن للفنون الألماني
منذ أيام قليلة، أعلنت مدينة آخن الألمانية عن نيتها سحب جائزة فنية مرموقة بقيمة 10 آلاف دولار تقريبًا منحتها للفنان اللبناني، وليد رعد، عن مشروعه “أطلس غروب” الذي يتناول تاريخ الحرب الأهلية اللبنانية من عام 1989 وحتى 2004، وهي جائزة تمنح كل سنتين لفنان معاصر وبارز. بسبب مساندة الفنان اللبناني لحملة المقاطعة الدولية “بي دي إس”، إلا أن مجلس “لودفيج للفن الدولي”، متحف في المدينة، وقف في صفه ورفض تطبيق هذا القرار، معلنًا أن جائزة عام 2018 ستبقى حاملةً اسم رعد.
مع العلم أن تقارير صحفية أشارت إلى أن رعد لم يفصح عن انضمامه لهذه الحركة بشكل علني وصريح، لكنه كان واحد من الفنانين الذين وقعوا على رسالة مفتوحة عام 2014 لها صلة بالحركة والتي شجعت الفنانين على الانسحاب من معرض تم تنظيمه في جامعة إسرائيلية. حتى الآن، لم يصدر أي تعليق من الرسام المعاصر.
جائزة نيلي ساكس الأدبية
تأسست الجائزة عام 1961 بمدينة دورتموند الألمانية، على اسم شاعرة وأدبية ألمانية حاصلة على جائزة نوبل في الأدب في عام 1966، مناصفةً مع الأديب اليهودي شموئيل يوسف عجنون لأعمالها الشعرية والمسرحية. وقد منحت الجائزة سابقًا لميلان كونديرا ومارجريت أتوود، وتبلغ قيمتها نحو 16 ألف و530 دولار أمريكي.
انضمت إلى القائمة الروائية البريطانية الباكستانية كاميلا شمسي في تاريخ 6 سبتمبر/أيلول من العام الحالي، بعد تصويت هيئة التحكيم لصالح حصولها على الجائزة بعدما أشادت بكتابتها التي رأت بأنها “تبني الجسور بين المجتمعات”، ولكن بدلت اللجنة موقفها وقررت إلغاء التكريم بعدما علمت بتضامنها مع حقوق الشعب الفلسطيني ومشاركتها في أنشطة الحملة الدولية المقاطعة للاحتلال الإسرائيلي والمعروفة اختصارًا باسم “بي دي إس”. وهي حركة تسعى إلى “مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، من أجل تحقيق الحرية والعدالة والمساواة في فلسطين وصولًا إلى حق تقرير المصير لكل الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات”.
بررت الهيئة موقفها، قائلةً: “موقف شمسي السياسي عبر المشاركة الفعالة في المقاطعة الثقافية ضمن حملة بي دي إس يتعارض بوضوح مع الأهداف القانونية للجائزة. المقاطعة الثقافية لا تتجاوز الحدود، لكنها تؤثر على المجتمع الإسرائيلي بأسره بغض النظر عن عدم تجانسه السياسي والثقافي الفعلي. بهذه الطريقة فإن عمل كاميلا شمسي سيحجب عن السكان الإسرائيليين. وهذا يتناقض مع دعوة جائزة نيللي ساكس لإعلان وتجسيد المصالحة بين الشعوب والثقافات”.
في المقابل، انتقدت شمسي “انحناء هيئة المحلفين أمام الضغط وسحبها جائزة من كاتبة تمارس حرية الرأي والتعبير”، مضيفةً أنه من المثير للغضب “اعتبار حركة المقاطعة مسألة مخزية وغير عادلة، في حين أنها تنظم حملات ضد حكومة “إسرائيل” بسبب أعمالها التمييزية والوحشية ضد الفلسطينيين”. إلى جانب ذلك، أشارت شمسي إلى ممارسات الاحتلال القمعية وعدم تناسقها مع معايير اللجنة التي تسحب الجائزة لدعمها “حملة غير عنيفة للضغط على الحكومة الإسرائيلية”.
انتقد 60 أكاديميًا يهوديًا وإسرائيليًا هذا القرار وقالوا في خطاب مفتوح إنه جزء من اتجاه يسعى إلى “وصم مؤيدي حقوق الإنسان الفلسطينية بمعاداة السامية”. صاحبت هذه الضجة إدانة من “المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان”، الذي عد سحب الجائزة اعتداءً صارخا على الحق في حرية التعبير
وتضامنًا معها، وقع أكثر من 300 كاتب وروائي على بيان مساند وداعم لها، وتكمن المفارقة أن أكثر من 40 منظمة يهودية وقعت عليه أيضًا على اعتبار أن “هناك خلطًا شديدًا بين العنصرية ضد اليهود ومعارضة سياسات “إسرائيل” ونظام الاحتلال، كما أن هذا الخلط يقوض نضال الفلسطينيين من أجل الحرية والمساواة والعدل، وكذلك النضال العالمي ضد السامية، كما أن هذا الأمر يعمل على حماية “إسرائيل” من تحمل مسؤولية المعايير الدولية لحقوق الإنسان والقانون الدولي”.
إضافة إلى البيان، انتقد 60 أكاديميًا يهوديًا وإسرائيليًا هذا القرار وقالوا في خطاب مفتوح إنه جزء من اتجاه يسعى إلى “وصم مؤيدي حقوق الإنسان الفلسطينية بمعاداة السامية”. صاحبت هذه الضجة إدانة من “المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان”، الذي عد سحب الجائزة اعتداءً صارخا على الحق في حرية التعبير في ألمانيا، مشيرًا إلى دور الروائية البريطانية في حركة مقاطعة “إسرائيل” منذ عام 2014 بسبب انتهاكات الأخيرة وممارساتها القمعية ضد الشعب الفلسطيني.
جائزة “فريد شاتلزوورث” لحقوق الإنسان
في شهر تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي، قررت مديرة مؤسسة “برمينغهام لحقوق الإنسان” في ولاية ألاباما الأمريكية، أندريا تايلور، تكريم المناضلة والأكاديمية الشهيرة، أنجيلا ديفيس، على اعتبار أنها” واحدة من أبطال حقوق الإنسان المعروفين على مستوى العالم، والتي منحت صوتًا للعاجزين عن الكلام”.
عرفت ديفيس، الأمريكية من أصل إفريقي، في نشاطاتها الحقوقية وتحديدُا في الحركة التحررية المعروفة باسم “الفهود السود”، منذ أواخر الستينيات التي شهدت على أبرز وأهم حركات النضال من أجل تحقيق المساواة والعدل، وهو الدافع الذي جعل ديفيس واحدة من الناشطات الداعمات للقضية الفلسطينية، ولكنه في الوقت نفسه كان سبب سحب التكريم منها.
فلقد أعلنت المؤسسة في بيان، في أواخر كانون الأول/ ديسمبر الماضي، أن “داعمين للمؤسسة وغيرهم من الأفراد والمنظمات المهتمة بالموضوع، داخل وخارج مجتمعنا المحلي، بتقديم طلبات بأن نعيد النظر في قرارنا”. مضيفةً أنه “عند فحص بيانات ديفيس وسجلها العام، توصلنا إلى استنتاج مفاده أنها لا تستوفي جميع معايير” جائزة “فريد شاتلزوورث لحقوق الإنسان ولا تمثل أفكار القس شاتلزوورث”. دون أن توضح ما هي المعايير المقصودة.
الاحتجاجات على الجائزة، جاءت من “المجتمع اليهودي المحلي وبعض حلفائه”. واصفًا هذا القرار بـ “الانفعالي” لأنه يدعو إلى التفرقة والانقسام
تعليقًا على هذه الحادثة، أوضحت ديفيس أن “المعهد تهرب من ذكر الأسباب الحقيقية الكامنة خلف قراره المفاجئ”، وعبرت عن أسفها لأنها “تُتَّهم بسبب تضامنها الأممي مع الفلسطينيين”، مؤكدةً أنّها “غير سعيدة بشكل استثنائي لأن الأمر يتعلق بحركة أممية واسعة للدفاع عن الحقوق المدنية، التي من خلالها “استرجعت حريتها”، معتبرةً قرار السحب هجوم على العدالة. جدير بالإشارة، إلى أن القرار لاقى استياءً ورفضًا من 3 أعضاء من داخل المعهد، إذ قدموا هؤلاء استقالاتهم احتجاجًا على قرار الهيئة.
أوضح عمدة مدينة برمنغهام، راندال وودفين، بأن الاحتجاجات على الجائزة، جاءت من “المجتمع اليهودي المحلي وبعض حلفائه”. واصفًا هذا القرار بـ “الانفعالي” لأنه يدعو إلى التفرقة والانقسام. في نفس السياق، ذكرت صحيفة “ذي جارديان” البريطانية، أن العديد من ناشطي حقوق الإنسان في الولايات المتحدة، اعتبروا قرار المؤسسة “مشينًا”، باستثناء بعض المسيحيين البيض الصهاينة، وهي الفئة التي تملك القوة للدفع بقرار كهذا أكثر مما لدى المجتمع اليهودي الصغير.
وإلى ذلك، كشفت هذه القرارات عن قدرة جماعات الضغط في التلاعب والتأثير على صناعة القرار في مختلف المؤسسات، وهو ما يهدد مبادئ الديمقراطية ويقود إلى خلق مؤسسات عالمية تفتقر إلى التنظيم والشفافية والتركيز وتضعف دور المجتمع المدني في التعبير عن ميوله وتوجهاته السياسية خوفًا من العقاب. في الوقت ذاته، تشير إلى نجاح حركة “البي دي أس” في ضم شخصيات عالمية وبارزة إلى حملتها بالرغم من جميع العوائق التي تغرسها “إسرائيل” أمامها، وهو ما يقلق سلطات الاحتلال بسبب تحول هذه الحركة إلى منصة للحديث عن جرائمها وتعريتها من أي شرعية تحت غطاء الدفاع عن حقوق الإنسان.