أعلنت أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة عن فوز فيلم (لا أرض أخرى) “No Other Land” بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم وثائقي طويل، في حفل توزيع جوائز الأوسكار الذي أُقيم في مدينة لوس أنجلوس.
الفيلم، الذي يُعد إنتاجًا مشتركًا بين فلسطين والنرويج، أُنتج في عام 2024، وساعد في إخراجه أربعة مخرجين هم الفلسطينيان باسل عدرا وحمدان بلال، والإسرائيليان يوفال أبراهام وراحيل تسور.
أثار تتويج “لا أرض أخرى” جدلًا واسعًا من الجانبين، الإسرائيلي والفلسطيني، ففي الوقت الذي عبّرت فيه شخصيات ومؤسسات إعلامية إسرائيلية عن خيبة أملها، واعتبرت هذا التتويج بمثابة لحظة حزينة، ذهب متابعون عرب وفلسطينيون إلى التساؤل عما إذا كان هذا الفيلم ليصل إلى ما وصل إليه لو كان إنتاجًا فلسطينيًا خالصًا، وهو سؤال له ما يبرره، بالنظر إلى التاريخ الطويل للأفلام الفلسطينية مع جوائز الأوسكار.
استياء إسرائيلي
على امتداد أربع سنوات، بداية من سنة 2019، قام الناشط الفلسطيني باسل عدرا مع فريقه بتوثيق المأساة اليومية التي يعيشها أهالي قرية “مسافر يطا” في الخليل بالضفة الغربية، الذين يواجهون ممارسات الاحتلال الإسرائيلي الرامية إلى تهجيرهم قسرًا، وهدم منازلهم، والاستيلاء على أراضيهم بدعوى إقامة منطقة تدريب عسكري.
يتناول الفيلم، من خلال مشاهد حقيقية تمتد لساعة و35 دقيقة، رحلة عدرا في توثيق هذه المعاناة، بالإضافة إلى أرشيف غني جمعه المحيط العائلي لعدرا وجيرانه على مدار عقدين من الزمن.
وخلال الأحداث يُبرز الفيلم حياة المستوطنين الذين ينعمون بالأمن في المنطقة، مقابل المشاهد اليومية التي يعيشها الفلسطينيون في صراعهم مع جنود الاحتلال وجرافاته، ومعاناتهم مع انقطاع خطوط الكهرباء ومواسير المياه.
في ظل هذه الظروف القاسية اليومية، تتوطد علاقة عدرا مع الصحفي الإسرائيلي يوفال أبراهام الذي يعيش حياة بلا قيود أو اضطهاد، باستثناء ما يواجهه من تحديات بسبب تضامنه مع الفلسطينيين.
بدأت الحملة الإسرائيلية على الفيلم بتعرض منزل باسل للمداهمة مرتين من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي، حيث صودرت كاميراته وجهاز الكمبيوتر الخاص به، لكنها لم تنجح في منعه، إذ كان الفيلم حينها قد وصل إلى مرحلة المونتاج، ليُعرض لاحقًا في مهرجانات سينمائية دولية، بدءًا من مهرجان برلين السينمائي سنة 2024.
وبعد تتويجه، لم تتوقف هذه الحملة، حيث أثار الفيلم ردود فعل غاضبة من شخصيات ومؤسسات إعلامية إسرائيلية، إذ اعتبر وزير الثقافة الإسرائيلي ميكي زوهار، في تدوينة عبر حسابه على منصة “إكس“، أن فوز فيلم “لا أرض أخرى” بجائزة الأوسكار يشكل لحظة حزينة في عالم السينما، مندّدًا بما وصفه بـ”تضخيم الروايات التي تشوّه صورة إسرائيل”.
الموقف ذاته تبنّته القناة الـ14 الإسرائيلية، حيث اعتبرت أن هذا التتويج يثبت اختيار هوليوود الوقوف إلى جانب الطرف الآخر، واصفة الفيلم بأنه “وثائقي معادٍ لإسرائيل”.
فيلم “يغازل أحلام الصهيونية”
على الرغم من وفرة الإنتاجات التي تناولت المأساة الفلسطينية بمختلف أبعادها، إلا أنها ظلت بعيدة عن التتويج بالأوسكار، واكتفت بوصول فيلمين إلى القائمة النهائية للجائزة، وهما فيلم “الجنة الآن” (Paradise Now) عام 2006، وفيلم “عمر” عام 2013، واللذان نافسا على جائزة أفضل فيلم أجنبي دون أن يتمكنا من حصدها، يضاف إليهما ترشّح فيلم الهدية للمخرجة الفلسطينية البريطانية فرح النابلسي، ضمن القائمة النهائية للأفلام الروائية القصيرة.
بخلاف ذلك، يرى البعض أن فيلم “لا أرض أخرى” نجح هذه المرة في حصد الجائزة، نتيجة لهيمنة المعايير الغربية الاستعمارية في الانتقاء، وإلى كون الاعتراف بالإنتاجات الفلسطينية مرهونًا أولًا بوجود حاضن غربي، وثانيًا بعدم تجاوز الخطوط الحمراء، وتنسيق هذه الأعمال مع الأطر الاستعمارية المناهضة لها بحيث تتماشى مع المنظومة الغربية، وذلك ثمنًا للمساحة الممنوحة للفلسطينيين خلال الشراكة مع الجهات الغربية.
فبالعودة إلى كون الفيلم ثمرة شراكة بين فلسطينيين وإسرائيليين، يبدو أن هذا التتويج لا يعد انتصارًا للرواية الفلسطينية بقدر ما يرسّخ للسياسة الاستعمارية التي لا تعترف بمحنة الضحية إلا في حدود ما ترغب به، ما يدفع للتساؤل عمّا إذا كان سينال هذا التقدير لولا الشرعية التي اكتسبها من موقع أحد صناعه ضمن المنظومة الغربية.
وهو ما دفع البعض إلى اعتبار أن حصول الفيلم على الجائزة يعد انتصارًا لمخرجه الإسرائيلي يوفال أبراهام، الذي أكسب الفيلم شرعية للوصول إلى منصة الأوسكار، إذ تفضّل المؤسسات الغربية أن يبقى الفلسطيني موضوعًا للرواية لا صاحبها، فلا تُقبل روايته إلا عبر صوت وسيط يترجمها ويعيد كتابتها بمعايير تناسب البنية الاستعمارية.
كما تُعد السيطرة على السردية إحدى الأدوات التي يسعى من خلالها الاحتلال إلى تقويض الصوت الفلسطيني، ووضع عقبات أمامه ليواجه صعوبات في الوصول إلى الرأي العام دون تدخل أو إعادة صياغة من قوى مهيمنة.
ومن بين هؤلاء، المخرج السينمائي برهان سعادة، الذي غرّد عبر حسابه على “إكس” قائلًا: “لا أحد من العرب يصل فيلمه إلى الأوسكار لأنه مخرج عظيم، أو لأن فيلمه عظيم، بل لأن فيلمه يغازل أحلام الصهيونية العالمية”.
صحيح أن يوفال أبراهام له مواقف مناهضة لبعض ممارسات الاحتلال الإسرائيلي، لكنه يظل في النهاية جزءًا من منظومة الاحتلال التي كانت سببًا في المآسي التي يعيشها شعب كامل منذ النكبة إلى اليوم، حتى إن المتأمل في عنوان الفيلم لا أرض أخرى يجد أنه حمّال أوجه، إذ لا يصلح فقط تعبيرًا عن حال الفلسطينيين عمومًا، وأهل مسافر “يطّا” خصوصًا، لكنه يشير كذلك إلى أنه “لا أرض أخرى” لمخرجه الإسرائيلي أيضًا!
خطاب أبراهام والمساواة بين الضحية والجلّاد
خلال خطابهما على منصة التتويج بعد تسلمهما جائزة الأوسكار، دعا كل من باسل عدرا ويوفال أبراهام إلى وضع حد لسياسات التطهير العرقي التي يتعرض لها الفلسطينيون في غزة والضفة الغربية، إذ شكر باسل الأكاديمية المانحة للجائزة، معتبرًا أن التتويج شرف كبير لصنّاع الفيلم الأربعة، ومعبرًا عن أمله في أن تعيش ابنته حياة مختلفة عن تلك التي يعيشها هو وأهل بلدته “مسافر يطا” تحت الاحتلال الإسرائيلي.
وأضاف عدرا أن الفيلم المتوَّج يعبر عن الواقع القاسي الذي يعانيه الفلسطينيون على مدى عقود، مناشدًا العالم بأن يتخذ مواقفَ جادة لإيقاف الظلم وإيقاف التطهير العرقي الذي يمارسه الاحتلال على الشعب الفلسطيني.
في حين يبدو أن زميله يوفال أبراهام اختار ترديد الرواية الغربية التي تساوي بين الضحية والجلّاد، فبعد أن اعتبر أن فيلم “لا أرض أخرى” وسيلة لإيصال صور التدمير والفظائع التي تتعرض لها غزة وشعبها، والتي يجب إنهاؤها، استنكر ما وصفه بـ”وحشية أخذ الرهائن الإسرائيليين في جريمة السابع من أكتوبر”، ودعا إلى إطلاق سراحهم، مؤكدًا أن أمن “شعبه” رهين بعيش شعب باسل عدرا في حرية وأمان.
فيما يبدو وكأن أبراهام يؤرخ للمأساة الفلسطينية من يوم السابع من أكتوبر، متناسيًا أن هذه المأساة هي نتيجة للممارسات الوحشية وسياسات التطهير العرقي التي انتهجتها وتنهجها الحكومات المتعاقبة في بلده منذ النكبة حتى اليوم، إذ لم تجف بعد دماء أزيد من 48 ألف شهيد قتلهم الاحتلال في غزة منذ السابع من أكتوبر فقط.
بالإضافة إلى ذلك، اعتبر الصحفي الإسرائيلي أن هذا العمل المشترك بين الفلسطينيين والإسرائيليين “يجعل صوتهما أقوى”، في إشارة صريحة إلى إمكانية “التعايش بسلام بين الشعبين”، فيما يمكن اعتباره تعويدًا للرأي العام على فكرة أن “إسرائيل” كيان ديمقراطي مسالم ووجوده طبيعي في الخريطة الجغرافية والسياسية بيننا.
تطبيعي فني
حصل فيلم “لا أرض أخرى” على منحة الإنتاج من مبادرة “Close Up”، وهي منظمة غير ربحية تأسست في بروكسل. وكانت حركة المقاطعة العالمية “BDS” قد أدانت سابقًا مساعي هذه المبادرة إلى تطبيع العلاقات بين السينمائيين العرب والإسرائيليين، ووصفت أنشطتها بأنها تعزز وجود الاحتلال في المشهدين الثقافي والسينمائي في المنطقة، وتساوي بينه وبين ضحيته.
كما أكدت أن هذه الأنشطة تروّج لدور الاحتلال في المنطقة باعتباره كيانًا طبيعيًا تربطه علاقات عادية مع دولها وشعوبها، مشددة على أن الفلسطينيين ليسوا بحاجة إلى وسيط إسرائيلي لإضفاء الشرعية على روايتهم.
وباعتباره عملًا مشتركًا بين فلسطينيين وإسرائيليين، فإن فيلم “لا أرض أخرى” يخرق معايير التطبيع المتوافق عليها في فلسطين خلال المؤتمر الأول لحركة المقاطعة عام 2007، الذي ضم غالبية القوى السياسية والأطر النقابية والأهلية الأخرى، إضافة إلى الاتحادات الشعبية وشبكات حقوق اللاجئين وغيرها.
هذا التتويج يطرح أكثر من سؤال، خاصة بشأن إمكانية تحرر الإنتاجات الفلسطينية من المعايير الغربية، لتحكي لوحدها، دون وساطة، قصتها، وتشق طريقها إلى منصات الاعتراف والتكريم.
ولم تعلن حركة المقاطعة عن موقفها من الفيلم قبل حصوله على جائزة الأوسكار، مبررة ذلك بعدم اعتباره أولوية حينذاك، واكتفت – بحسب بيانها – بمشاركة موقفها مع عدد من صناع الأفلام ومنظمي المهرجانات الذين طلبوا ذلك.
لكن بعد الشهرة التي حظي بها الفيلم عقب فوزه بالجائزة، أوضحت الحركة أنها شعرت “بضرورة توضيح أوجه مخالفة الفيلم لمعايير مناهضة التطبيع، وذلك من باب تحصين فهمنا الجماعي للتطبيع ومخاطره”، حتى لا يُستخدم الفيلم لتلميع الإبادة.
واتهمت الحركة هوليوود بأنها، ومن خلال عقود من ممارساتها في نزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين والعرب والمسلمين والسود و”الشعوب الأصلية”، قد سهّلت الإبادة الجماعية التي ترتكبها “إسرائيل”، فإذا كان كثيرون يعتبرون أن “لا أرض أخرى” عمل ينتصر لحقوق الشعب الفلسطيني، فإنهم أغفلوا مشكلة التطبيع التي تكمن فيه.
في المقابل، انتقد البعض بيان حركة المقاطعة، معتبرين أنه “ينحاز، بحسن نية، إلى الحركة وضوابطها أكثر بكثير مما ينحاز إلى القضية الفلسطينية”، مشيرين إلى أن هذه الضوابط يمكن مراجعتها متى كان الإنتاج يخدم مصلحة القضية الفلسطينية.
وأكدوا أن الموقف لا يجب أن يتحدد فقط بناءً على كون الفيلم عملًا مشتركًا بين إسرائيليين وفلسطينيين، بل استنادًا إلى طبيعة العمل ذاته وما إذا كان يخدم القضية الفلسطينية أم لا.
نجح صناع فيلم “لا أرض أخرى”، بأدوات بسيطة، وبصورة حية ومباشرة، في إيصال معاناة الفلسطينيين مع المساعي المستمرة لـ”إسرائيل” لإبادة شعبٍ أو تهجيره ونهب أملاكه، إلى العالم، خاصة معاناة منطقة “مسافر يطا” التي يهددها كابوس التهجير القسري منذ عقود، ليُتوّج بواحدة من أرقى جوائز السينما العالمية، غير أن هذا التتويج يطرح أكثر من سؤال، خاصة بشأن إمكانية تحرر الإنتاجات الفلسطينية من المعايير الغربية، لتحكي لوحدها، دون وساطة، قصتها، وتشق طريقها إلى منصات الاعتراف والتكريم.