“لطالما كنت غريبًا”: الشتات المغاربي يروي معاناته مع العلاج النفسي

5811139_000-par3086423

ترجمة وتحرير: نون بوست

يعاني المرضى من أمر ما يجهلونه يدفعهم إلى الإحساس بالفشل، “شيء” يصفع أرواحهم ويلتف حول أجسادهم. يضاف إلى هذا الشعور ألم يعذبهم ويشد الخناق حولهم بقوة، لدرجة أنه لا يمكن تفسير سبب ذلك، هل هو ناتج عن سوء ظروفهم الحياتية؟ عن كآبة؟ أو عن قلق؟ أو قليلا من هذه الأسباب المتفرقة؟ يجيب المرضى بأنه “إحساس غريب وبغيض”.

نتيجة أصولهم الشمال إفريقية، يتولد لديهم الإحساس بأنهم يمثلون ذاك الشخص الغريب الأبدي في فرنسا، وأنهم ليسوا في المكان الصحيح، وأن حياتهم المهنية تنجرف مهما فعلوا. علاوة على ذلك، ينتابهم إحساس عميق بالانزعاج، لدرجة أن بعضهم لا يستطيع النوم ليلا، كما تجبرهم هذه الفوضى على استشارة معالج يحول دون فقدانهم لمداركهم العقلية.

ذكرت الطبيبة دو لا ميزونوف أنه “انطلاقا من الملاحظات الصغيرة غير المؤذية إلى المعاملة بتمييز وحشي، لم يعد هؤلاء الأشخاص قادرين على التغلب على الإهانات. “

كل يوم، في عيادة طبية صغيرة في مونروج، تستقبل الطبيب النفسية فاطمة بوفيه دو لا ميزونوف مرضى الشتات المغاربي للاستماع لمعاناتهم. وتستقبل مرضى تونسيين ومغاربة وفرنسيين من أصول جزائرية من كل الأعمار والفئات الاجتماعية. ويعاني هؤلاء الأشخاص من الأحكام المسبقة المتداولة حول الوافدين من شمال أفريقيا بشكل يومي.

ذكرت الطبيبة دو لا ميزونوف أنه “انطلاقا من الملاحظات الصغيرة غير المؤذية إلى المعاملة بتمييز وحشي، لم يعد هؤلاء الأشخاص قادرين على التغلب على الإهانات. ولكي نفهم الأوجاع التي تمس هويتهم، يجب الجلوس على مقربة منهم في المكتب مع الحفاظ على أسمائهم المستعارة والإنصات إليهم في العديد من الجلسات التي تتواصل نحو 30 دقيقة”.

دون طيات

سألت فاطمة بوفيه أحد مرضاها وهي مبتسمة “إذن، كيف الحال؟”، أجابها مريضها الأربعيني الذي لا زالت آثار شمس تونس بارزة على بشرته وهو يرتدي بدلة رسمية رائعة دون طيات “بخير”. وأضافت الطبيبة وهي بصدد قراءة الملف الخاص به “أشعر بأنك مرهق قليلا؟”، فقابلها بابتسامة صغيرة والقول “لقد فقدت كل ملذات العطلة التي قضيتها في تونس بسبب هذا الوضع الذي أعيشه في فرنسا”.

“هذا الوضع”؟ يقصد هنا بالخطاب السياسي المتواصل حول الهجرة الذي يؤثر سلبا على المهاجرين، علاوة عن الجدل الأهم الذي أثير حول هذا الموضوع، والذي يروج له إيمانويل ماكرون، بعد أن اجتمع يوم الاثنين 7 تشرين الأول/ أكتوبر في الجمعية الوطنية. علاوة على ذلك، لم تغب عن القنوات الإخبارية النقاشات الروتينية المناهضة للإسلام أو الحجاب من جديد، ما يؤثر على المريض وعلى وظيفته.

قبل عدة أشهر، هرع هذا الرجل مسرعا لرؤية السيدة “بوفيه دو لا ميزونوف” للحديث معها عن الإساءة التي يتعرض لها في مكتب عمله. وباح هذا المريض، على غرار مرضى آخرين، بما يكتنزه قلبه من آلام إلى هذه الاختصاصية في الطب النفسي منذ نشر كتابها “عربية في فرنسا” سنة 2017. وتحدثت الطبيبة عن هجرتها من تونس إلى باريس والمجهود الذي بذلته لمكافحة الصور النمطية. وبالنسبة لهذا المريض الأربعيني، فإن “أصله العربي” لا يتطابق مع الكلام المبتذل الذي يبديه بعض زملائه الذين يعانون من المشكل ذاته، “الأمر الذي يزعجهم كثيرا”.

يعمل هذا المريض كمحلل في بنك فرنسي كبير، حيث أن كل طلباته لزيادة في الراتب أو الحصول على تسبقة مالية تقابل بالرفض. وذكر في خصوص ذلك “انتابني الشعور بأنني أنا المشكل في حد ذاته، وليس ما يمكنني تقديمه. وطبعا يؤثر ذلك سلبا على مردودي في العمل، قبل أن يستغلوا ذلك لمعاقبتي”. من جهتها، نوهت الطبيبة، التي طلبت منه التوقف عن العمل لأشهر بسبب مرضه، بأنه “يمكن أن يشكل هذا الوضع خطرا كبيرا”.

في سؤالها للرجل الجالس أمامها، قالت الطبيبة التي تبدي تعاطفا كبيرا مع حالته “هل أصبحت منطويا على نفسك؟”، وتقوم في الوقت ذاته بأخذ ملاحظات مكتوبة. ولا ينوي هذا المريض العودة للعمل مرة أخرى فقال ” ولكن اليوم كل شيء على ما يرام لأنني لم أعد أطلب أي شيء لتحسين وضعي المهني”. لكنه، يأمل في تحقيق أمر واحد، الزيادة في مرتبه المالي.

تابع الرجل بالقول “لقد تفاوضت بشكل سيء للغاية على راتبي، أطلب فقط أن أتلقى راتبا كباقي زميلاتي، وليس كباقي زملائي من الرجال، ولا أستطيع أن أطمح إلى أكثر من ذلك. وعلقت الطبيبة قائلة إن “ما يقوله المريض يثير الرعب، حيث أنه يعتبر وضعه أسوأ من وضع زميلاته الموظفات في العمل”.  

لكي يعالج هذا المريض نفسه، يزور تونس بانتظام منذ الثورة، تحديدا نهاية سنة 2010. أكد المريض وصوته يرتجف نوعا ما “لقد ولدت في فرنسا، ولكنني في تونس لا أعمل على أن أتقمص شخصية أخرى، بل أبقى ما أنا عليه”.

“أنا في حرب مع نفسي”

تنتاب شابة مغاربية في الثلاثينات من عمرها عدة أسئلة، فتسأل نفسها “هل أبقى ما أنا عليه؟ هل أذهب إلى مكان آخر؟ هل أعود إلى موطني الأصلي؟ بشعرها الأسود وتنورتها الطويلة على طريقة سكان نيويورك، تحس هذه المهندسة بأنها ضائعة في “أصولها الجزائرية”. ولدت في قسنطينة ضمن عائلة بورجوازية، حيث عاشت فترة مراهقة ممتعضة من الجزائريين.  

حيال هذا الشأن، قالت الشابة “عندما تكونين امرأة تعيش في الجزائر، فإن وضعك يكون معقدا، لقد كنت عنصرية نوعا ما تجاه الجزائريين، كما كنت أحتقرهم. لقد كانت لي نظرة سلبية جدا تجاه بلدي وكنت أرى فرنسا بلدا مثاليا”. عندما جاءت إلى باريس لمواصلة دراستها، لاحظت أن بعض الفرنسيين ينظرون لها، وقالت “نظروا إلي كما كنت أنظر للجزائريين، حيث أصبحت أحس بأنني جزائرية كالبقية.  

بعد مضي سنوات من العلاج والتعامل مع الكآبة، قبلت هذه الشابة أخيرا نفسها.

بدأ الأمر يتحول لعقدة نفسية “عندما لم أستطع أن أفعل شيئا، بدأ يتولد لدي الإحساس أنني أتعرض للتمييز بسبب كوني جزائرية، وقد هيمن ذلك على أفكاري، ودخلت في حرب مع نفسي”. لقد عاشت وقتا طويلا وصعب “كجزائرية”، لم تعتبر نفسها “مثل الآخرين” أبدا، لا مثل زملائها في الدراسة، ولا مثل أولئك الذين ولدوا في فرنسا والذين هم من أصل جزائري، فشخصيتها لا تتأقلم مع أفكارهم نظرا لأنها تعاقر الكحول وتأكل لحم الخنزير. وعلقت قائلة “يجب أن أكون مسلمة بالقوة بالنسبة للبعض، فالكلام المبتذل يجعل الحياة الصعبة، لدرجة أننا نتعرض للاعتداء أحيانا في كل مكان”.

بعد مضي سنوات من العلاج والتعامل مع الكآبة، قبلت هذه الشابة أخيرا نفسها. وبعد أن حظيت بالجنسية الفرنسية، عملت على فهم الأسباب التي دفعتها إلى عبور البحر الأبيض المتوسط. وتساءلت “حقيقة، ما الذي أفعله هنا؟” ثم سكتت. أرادت أن تدرس في أوروبا لتساعد في تنمية أفريقيا، ثم ساد المكان صمت قصير انهمرت إثره دموعها. وأكدت قائلة ” بطريقة ما، أريد تجنب أن أمنع الناس من مغادرة بلدانهم، فهنا بمثابة منفى صعب. وأنا لم أدرك ذلك. لكن هذا الإحساس بعدم الشعور بالرضا عن المكان الذي تريد أن تكون فيه، يبقى إحساسا يصعب التعايش معه”.

بعد أحداث 11 أيلول /سبتمبر   

تستقبل فاطمة بوفيه دو لا ميزونوف منذ 11 سنة في عيادتها مرضى “يعيشون ألما حقيقيا غير مفهوم”، وهو ما قالت بشأنه “قبل أن أمارس مهنتي في مستشفى سانت- آن، كانت عيادتي تتميز بجو مختلف، فالمرضى يحبذونها لأنها تفضي إلى الألفة وتدفعهم للشعور بالثقة وعدم الكشف عن هويتهم. في واقع الأمر، بعد نحو 25 سنة من ممارسة الطب النفسي في فرنسا، دائما ما يعترضني مرضى يشتكون من التمييز”. ولكن بالنسبة لها قد تغير كل شيء بعد أحداث 11 من أيلول /سبتمبر 2001.

أكدت اللجنة الاستشارية الوطنية لحقوق الإنسان في فرنسا أن أغلب الممارسات ذات الطابع العنصري تطال “الجالية المغاربية” بنسبة بلغت نحو 42.2 بالمئة من الاعتداءات القاسية تجاههم.

جاء على لسان الطبيبة قولها إنه “كان هناك أشبه بالانتفاضة في قضايا الهوية التي لم يطرحها سابقا الكثير من الأشخاص، وتفاقمت هذه الأزمة خلال النقاش حول الهوية الوطنية سنة 2009، والذي تعقد خلال فترة رئاسة نيكولا ساركوزي. في المقابل، استمرت المعاناة ولا يبدو أن هناك بوادر حل ما، خصوصا وأن النقاشات حول الهجرة أو حول الإسلام أضحت دائما ضمن الأجندة السياسية. وقد ظهرت شخصيات فرنسية تسببت في توتر الوضع أكثر فأكثر على غرار إريك زمور أو آلان فينكلكروت”.

في تقريره الذي نشر خلال شهر شباط /فبراير 2018 حول “مكافحة العنصرية بمختلف أشكالها”، أكدت اللجنة الاستشارية الوطنية لحقوق الإنسان في فرنسا أن أغلب الممارسات ذات الطابع العنصري تطال “الجالية المغاربية” بنسبة بلغت نحو 42.2 بالمئة من الاعتداءات القاسية تجاههم.

في 22 كانون الثاني/ يناير 2010، تظاهر الناس أمام مدينة ليون لحظة وصول وزير الهجرة الفرنسي، إريك بيسون، في إطار النقاش الدائر حول الهوية الوطنية.

بالعودة إلى العيادة، أي بعد مضي بضعة أيام، وصلت سيدة شابة أخرى، يعلو جسدها وشم قبائلي وترتدي قميصا وسروالا رياضيا أسود، كانت تبتسم سعيدة بتوقيعها عقد عمل في شركة أمريكية بعد أن عرقلت وظيفتها السابقة حياتها. فمنذ بضع سنوات تقريبا، كانت تعمل في مركز اتصال، وخلال مقابلة العمل تلقت ترحيبا كبيرا بسبب إتقانها للغة الفرنسية.

جاء على لسان هذه الشابة أنه “خلال تفاوضي على الراتب، أكدت لهم أنه ليس لدي سوى تصريح إقامة، بعد ذلك، تغيرت لهجتهم تجاهي وطلبوا مني العمل على إصلاح بعض الجوانب، على غرار لهجتي. لقد صدمني ذلك تماما. وطلبوا منها أيضا أن أغير اسمي خلال المحادثات الهاتفية، وأتبنى اسما فرنسيا”.

تابعت الشابة بالقول “كانوا يتنصتون على مكالماتي في العمل، بعض الزملاء كان يسخرون مني عبر تقليد صوتي. لقد كنت تلك العربية التي جاءت من بعيد، ولو قالوا لي ذلك قبل أن آتي إلى فرنسا، لكنت كذبت كلامهم المبتذل واعتبرته مجرد شيطنة للفرنسيين، لقد شعرت بالاختناق وبأن جسدي يهتز، كما انتابتني الكوابيس لمدة سنتين”.

لمواجهة هذا الضرر النفسي، تدعو الطبيبة المسؤولين عن التماسك الوطني الفرنسي إلى “تهدئة الأجواء” و”إيقاف العنف اللفظي” تجاه الأشخاص الذين يتعرضون أكثر فأكثر للتجريح

لا تريد هذه الشابة اليوم أن تكون “ضحية” أو أن تسكت عن الوضع الحالي، فالتقاطها للصور في فرنسا “لا يعني أنه هنالك احترام للتنوع في الشركة التي تعمل فيها”، ولكنها كانت تفصل الظهور في الصور مبتسمة. وجاءت هذه الشابة من تونس لمواصلة دراستها قبل أن تتزوج بفرنسي التقت به منذ 11 سنة. وبعد الزواج، دخلت في صراع حاد مع عائلة زوجها، وهو ما قالت بشأنه “كنت أشبه بشخص غير مرغوب فيه، لقد تفاجئوا بأنني أتكلم العربية”.

التماسك الوطني

تعترض فاطمة بوفيه قصص مثل هذه بصفة متواصلة، حيث تنصت لمرضاها الحائرين والمجروحين، إذ أنها دائما تجلس أمامهم وتتحدث إليهم كثيرا وتحفزهم، وتعرف عن ظهر قلب قصصهم وتعمل على علاج الحالات الأكثر قسوة عبر تقييم مضادات الاكتئاب لتخفيف معاناتهم العقلية.

داخل عيادتها، تتراكم قصص الحياة مثل هذا المريض الذي يخبرها أن أحد الزملاء سأله ذات يوم “إذا كان بإمكانه التبول خلال شهر رمضان”. فيما يتساءل آخرون عن إمكانية ترك أطفالهم يأكلون لحم الخنزير، وإعطاء أبنائهم اسمًا “اقل عروبة”، أو عن ختان الأولاد. يدعي الجميع أنهم مضطرون للعمل أكثر من الآخرين، ولا يمكن لهم أن يردوا الفعل لإعطاء صورة جيدة عن أنفسهم ولكي يتجنبوا تشبيههم بالمتطرفين دينيا أو بالجانحين.

لمواجهة هذا الضرر النفسي، تدعو الطبيبة المسؤولين عن التماسك الوطني الفرنسي إلى “تهدئة الأجواء” و”إيقاف العنف اللفظي” تجاه الأشخاص الذين يتعرضون أكثر فأكثر للتجريح. وأضافت الطبيبة أن ” هناك كلمات تهدم الأرواح. وكل الأحكام المسبقة التي يعاني منها الكثيرون هي عبارة عن تعرضهم لصدمات تؤلمهم”. كما أن علاجها أيضًا يكلف المجتمع باهظا، حيث يتم تغطية الجلسات والأدوية الموصوفة جزئيًا عبر الضمان الاجتماعي، كما أن عيادتها اكتظت بالمرضى.

المصدر: لوموند