لا تكاد تُذكر الحروب حتّى تتبادر إلى الأذهان صورة الدّمار الأسود والمدن المتداعية والعدّادات المفتوحة للقتلى والجرحى والأسرى والمشرّدين؛ فالحرب هي اختبار البطش لدى الأمم، حيث يسكُت فيها كلّ صوت إلا صوت السلاح وقدرة كل طرف على أن يَسحَق كي لا يُسحَق، ولكن وسط هذا التباري والاستعراض الحربي، يبرز نوع آخر من القوّة النّاعمة، يراه القادة وصنّاع القرار رديفًا لشدة البأس في المعركة؛ وهو الرسائل الرمزية.
تعدّ الرسائل الرمزية خلال فترات الحروب أو معاهدات السلام أفعالًا أو شعاراتٍ تحمل دلالة ثقافية أو سياسية تُوجَّه للخصوم، وهي بديل دبلوماسيّ عن القول المباشر أو الفعل الصريح في الأزمات بين الأطراف المتعادية، وغالبًا ما تعبِّر عن بسط القوّة أو توظّف لردّ الاعتبار، وفي بعض الأحيان قد تكون مبادرةً للصلح.
تتّخذ هذه الرسائل الرمزية عدة أشكال؛ ما بين الشعارات التي تصاغ بعناية لتصل من خلالها الرّسالة، أو المراسم الممثلة بالاحتفالات وما يُستعرَض فيها، أو حتى الأفعال التي تهدف إلى إيصال فكرة ما؛ كتدمير مبانٍ لها رمزيتها التاريخية أو السياسية، وكالهدايا المتبادلة بين الشخصيات ذات العلاقة بالحرب.
ويتعدّد مضمون الرسائل التي يُراد إيصالها ويختلف باختلاف الحروب وطبيعة الطرفين المتصارعين وطبيعة الصراع نفسه وأسبابه، ولكن مع ذلك يمكن رصدُ مجموعة من الأنماط التي تشكّل مضمونًا شائعًا للرسائل الرمزية في الحروب، وهو ما سنمر عليه في هذه المقالة، تمهيدًا لمناقشة الرسائل الرمزية في مراسم تسليم المقاومة لأسرى الاحتلال في الآونة الأخيرة.
هدايا ورسائل التهديد والتّصعيد
غالبًا ما تكون الأجواء قبيل اشتعال الحروب مشحونةً بالتهديد والتصعيد، الذي لا يتخذ شكل الكلمات دائمًا، بقدر ما يُترجم إلى أفعال على الأرض، فعلى سبيل المثال، تبرز المناورات العسكرية التي تجريها الدول بوصفها رسالةً لإظهار القوة والاستعداد لدخول الحرب في مواجهة الدول المعادية، وقد تكون أيضًا وسيلة ضغط لتحقيق أهداف معينة، مثل جرّ الطرف الآخر إلى التفاوض أو إجباره على تقديم تنازلات، كرفع العقوبات مثلًا.
ولعل من أبرز الأمثلة على هذا النوع من الرسائل، اختبارات الصواريخ التي تجريها كوريا الشمالية؛ فهذه الاختبارات في جوهرها رسالة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، مفادها أنها قادرة على تهديد الأمن الأمريكي، من خلال إبراز تقدمها التقني والتكنولوجي في مجال صناعة الأسلحة الحربية.
إنَّ هذا الشكل من التهديد والتصعيد، المتمثل في المناورات العسكرية واختبارات الصواريخ، يظلُّ شكلًا خشنًا من الرسائل، فضلًا عن مباشرته ووضوحه، ولكن ثمَّة أشكالًا أخرى أكثر نعومة، بل قد تبدو للناظر إليها من الوهلة الأولى وكأنها رسائل سلام.
لعلَّ أبرز مثال على ذلك الهدية التي قدَّمها الرئيس العراقي صدام حسين عام 1989 لأمير الكويت الشيخ جابر الأحمد الصباح، خلال زيارة الأخير لبغداد، في ظل أجواء مشحونة بين البلدين؛ فقد كانت الهدية سلاح “كلاشنكوف” مذهَّبًا، قدَّمه صدام لأمير الكويت وهو يودِّعه بعبارة: “إن شاء الله ستجدني بالكويت في القريب العاجل”.
إنَّ تبادل الهدايا بين الزعماء يعدُّ سلوكًا دبلوماسيًا معتادًا، إلا أن هذه الحادثة كان يجب أن تُفهَم ضمن سياق التوتّر الكبير الذي ساد آنذاك، بسبب ثِقَل الدين العراقي للكويت، واستياء صدام من تخفيض الكويت والإمارات سعر بيع النفط.
وبذلك، حملت الهدية رسالة مبطَّنة تلوِّح بالغزو، وهو ما حدث فعلًا عام 1990 بعد طول مفاوضات واجتماعات عربية، ومن ثمَّ، فقد نظِرَ إلى هذه الهدية، في أدبيات حرب الخليج، باعتبارها رسالة تهديد واضحة من صدام حسين، تنبئ عن نواياه الحقيقية.
رد الاعتبار ومسح ذاكرة الهزيمة
تعدّ الذاكرة التاريخية للشعوب أساسًا قويًّا للرسائل الرمزية في الصراعات الدولية؛ فثمة صراعات تاريخية بين أمم معينة قد تخمد لمدة عقود وحتى قرون، ثم تعود لتشتعل من جديد، وخلال هذه الفترات الطويلة، تنشأ ذاكرة خاصة بالحروب بين الأمم المتصارعة.
تتوزع على شعورين: إما الشعور بالفخر والاعتزاز بسبب الانتصار في موقعة ما، وإما الشعور بالخزي والمهانة بسبب الهزيمة. والشعور الثاني يلتصق أكثر بذاكرة القادة، الذين حين تشتعل جذوة الحرب من جديد، يستغلونها لمسح ذاكرة الهزيمة ورد الاعتبار وإذلال الخصوم.

لعلّ أشهر مثال على ذلك هو “عربة كومبين”؛ فبعد أن أنهكت الحرب العالمية الأولى (1914-1918) ألمانيا، اجتمعت قوات الحلفاء مع ممثلي ألمانيا في عربة قطار في غابة كومبين الفرنسية، لإجبار ألمانيا على توقيع معاهدة فرساي 1919، التي حملت بنودًا مذلّة جعلتها تدفع تعويضات الحرب، وتلتزم بعدم التسليح، وتسليم بعض أراضيها، ما جعل خسارة الحرب تحمل لألمانيا أزمات اقتصادية طويلة الأمد وشعورًا بالذل لدى الألمان.
وحين سطع نجم هتلر سطع لاحقًا في ألمانيا واجتاح فرنسا عام 1940 ضمن الحرب العالمية الثانية، أصرّ على أن يجعل فرنسا توقّع استسلامها في عربة القطار نفسها التي وُقّعت فيها الهدنة؛ وبذلك تحولت العربة إلى رمز في الذاكرة الألمانية للنصر بعد أن ظلت رمزًا للهزيمة لعقود، ولكن هتلر أحرق العربة فيما بعد، ربما لأنه أدرك حتمية فشله وهزيمة ألمانيا للمرة الثانية، فأراد أن يمسح رمزية العربة كلها في شقيها؛ المهزوم والمنتصر.
إحلال السلام وتناسي العداء
قد تكون بعض الرمزيات التي يستخدمها القادة معبرة عن رغبتهم في السلام أمام العالم، وتجاوز ماضي العداء بين الطرفين، ويتبدى ذلك في مظاهر لها دلالتها؛ كأن يزور رئيس إحدى البلدان دولةً كانت في حالة حرب معه في الماضي، فتفسّر الزيارة هذه نيته في تجاوز الماضي وفتح صفحة جديدة بين البلدين.
مثال على ذلك زيارة الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون لجمهورية الصين الشعبية عام 1972، التي رمَزت إلى أن البلدين يريدان التعايش السلمي بينهما، مع احترام كل دولة سيادة الدولة الأخرى دون تدخل أو تعدٍ.

ولعل من أبرز الأمثلة على هذا النوع من الرسائل زيارة الرئيس المصري أنور السادات عام 1977 إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي، مشكّلًا بذلك صدمة للعرب والمصريين الذين أخذوا يحللون هذه الزيارة متفاجئين منها، وذهبت بعض التحليلات إلى أن الزيارة هي خدعة من السادات ومواربة قبل شن حرب كبرى.
لكن السادات ألقى أمام الكنيست الإسرائيلي خطابًا قطع فيه على العرب والمصريين الظنون، فذكر أن المصريين كانوا قد اعتقدوا أن هذه الزيارة كانت مواربةً منه وخطة سياسية ترمز للسلام أمام “إسرائيل”، ولكنها تشتت الانتباه لغاية شن حربٍ معهم، إلا أن الرمزية الحقيقية لهذه الزيارة كانت تعبيرًا عن نيته في إحلال السلام -المفترض- بين مصر و”إسرائيل”، إذ وقع لاحقًا معاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية في عام 1979.
الاحتلال زائل والمقاومة مستمرة
شهد العالم أجمع خلال الأسابيع الماضية تسليم الأسرى الإسرائيليين المحتجزين لدى المقاومة الفلسطينية في غزة “حماس” في مراسم غطّتها وسائل الإعلام، وتناولها المحللون السياسيون من جميع الجوانب العربية والإسرائيلية والغربية.
إذ وظفت حماس هذه المراسم في إرسال رسائل رمزية إلى الاحتلال تؤكد ثبات موقفها في رفض ممارساته والاعتراف به، وعدم المصالحة معه إلى حين زواله، كما أبرزت قيمها الإسلامية في التعامل مع أسرى الحروب بإحسان، وعقيدة الجهاد التي لن تندثر ما دام العدو موجودًا على الأراضي الفلسطينية.
لعل أول رمز وقف عنده العالم هو تلك الطاولة التي توسّطت المنصة لتوقيع وثيقة تسليم الأسرى عليها، وما لفت الأنظار هو أن الطاولة تضمنت علمين يمثلان جهة الاتفاق: علم فلسطين، وعلم فلسطين!
كانت تلك رسالة واضحة من حماس بعدم اعترافها بـ”إسرائيل”، وبأن العلم الوحيد الذي يُرفع في هذه الأرض هو علم فلسطين، وأن أي مفاوضات قادمة في هذه الأرض لا يجب أن تتضمن اعترافًا بـ”إسرائيل”؛ التي هي في الاعتراف الدولي الحديث دولة في شمال فلسطين، ولكنها بالنسبة لحماس جزء مغتصب من الأرض الفلسطينية.

ومن الرموز الأخرى ذلك الاستعراض العسكري بأعداد كبيرة من رجال المقاومة المسلحين باللباس العسكري والسيارات والأسلحة، ففضلًا عن أن هذه المشاهد كانت صادمة من حيث إنها توضح بقاء المقاومة في القطاع بعد خمسة عشر عامًا من حرب الإبادة، تمثلت الرمزية في أن المقاومين ركبوا السيارات وحملوا الأسلحة التي غنموها في يوم السابع من أكتوبر 2023.
هذه الصورة ليست إلا رسالةً قاسية للاحتلال، ليس فقط بأن المقاومة باقية، بل بأنها قادرة على رسم مشهد من المستقبل؛ مشهد وراثة الأرض كاملة بمعداتها وأسلحتها من الاحتلال بعد حرب التحرير.
رسالة أخرى تمثلت في ظهور الأسرى الإسرائيليين إلى الإعلام بمظاهر حسنة وملابس نظيفة وهم يبتسمون ويحيون الشعب الغزيّ ويشكرون المقاومة على حسن تعاملهم، عدا عن الميداليات التي يحملونها لخريطة فلسطين والأساور التي قُدّمت إليهم كهدايا.
إذ إن هذا المشهد ينقل رسالة واضحة تهدم سردية الاحتلال التي استمرت خمسة عشر شهرًا، والتي صورت المقاومة حركة إرهابية وحشية، ليقول بوضوح إنها ليست سوى حركة مقاومة تسعى لتحرير أرضها من احتلال غاصب.
وخلال الحرب، كانت أبواق “إسرائيل” تحاول نشر معلومات عن انقلاب أهالي غزة على الحركة، واعتبارها شرًّا أقحمهم في حرب هم في غنى عنها، ولكن كان لحماس ردٌّ آخر من قلب الشارع الغزي؛ إذ صورت الحركة ترحيب الأهالي بكل مراسم تسليم الأسرى، بما في ذلك الأطفال، والدعاء والهتاف لها، وحتى نشر الورود من النساء الغزيات على رجال المقاومة.
هكذا، كانت الرسالة بأنّ المقاومة هي “اليوم التالي” في غزة، وبأنها هي الممثل الشرعي والمقبول من الشعب الغزي الذين يقفون مع أبنائهم المقاتلين ضد الاحتلال، رغم الفاتورة الباهظة التي دفعوها.

وقد حملت منصات تسليم الأسرى كلها ملصقات وشعارات رمزية عالية الجودة وواضحة الرسالة؛ فبعد مقترح ترامب بتهجير أهل القطاع والاستثمار في غزة، رفعت حماس ملصقًا يحمل شعار “نحن الطوفان، نحن اليوم الآتي” لتخبر العالم من خلاله رفض مشروع تهجير أهالي القطاع، وأنهم موجودون في أرضهم اليوم وفي المستقبل.
لم تكن هذه الرسائل غريبة تمامًا إذا وُضعت في ميزان الصراع والحروب كما قدّمنا من أمثلة في المقالة، ولكن الغريب تمثّل في أثرها وفاعليتها؛ إذ استطاعت الحركة استفزاز الاحتلال حقًا وجرّته إلى محاولة مجاراة الرسائل بصورة صبيانية أضحكت العالم.
فألبس الاحتلال الأسرى الفلسطينيين المفرج عنهم زيًّا مطبوعًا عليه آية من التوراة تقول: “أطارد أعدائي فأدركهم، ولا أرجع حتى القضاء عليهم”، وأخرى تحمل عبارة “لا ننسى ولا نغفر”، ثم كادت “إسرائيل” تطيح بتسليم الدفعة الأخيرة من الأسرى في المرحلة الأولى من الاتفاق متذرعةً بقسوة المشاهد الرمزية في التسليم، قبل أن تُحل هذه المسألة مع تدخل الوسطاء.
ومهما يكن من أمر، ستظلّ تلك الرسائل عالقةً في أرشيف القضية الفلسطينية، ولربما تذكرتها الأجيال اللاحقة وهي تردد ذلك الشعار: “نحن الطوفان، نحن اليوم الآتي”.