بينما تتعرض كوسوفو لضغوط دولية شديدة من أجل تسوية النزاع مع صربيا الذي يشكّل إحدى بؤر الاضطراب الكبرى في أوروبا، دفعت الانتخابات التشريعية (البرلمانية) التي سيطرت عليها ملفات الفقر والفساد والمحسوبية ووضع البُنى التحتية والخدمات العامة، الناخبين المستاءين إلى إقصاء “زعماء الحرب” بزعامة قادة الانفصاليين السابقين منذ إعلان استقلال الإقليم عام 2008.
صعود اليسار
بعد مرور نحو 20 عامًا على ما يطلق عليه الكوسوفيون اسم “التحرير”، تسابق للترشح على 120 مقعدًا في البرلمان 20 حزبًا و4 ائتلافات ومرشح مستقل واحد، كل حزب يطرح اسمين خاصين به لمنصب رئيس الوزراء.
من المرجح أن يشكل زعيم حزب “تقرير المصير” ألبين كورتي، الأقرب لتولي منصب رئيس الوزراء، الائتلاف الحكومي المقبل
آخر مرة آُجريت فيها انتخابات برلمانية في المقاطعة الصربية السابقة بعد إتمام مدة البرلمان بالكامل كانت عام 2007، وهذه المرة جاءت الدعوة إلى انتخابات مبكرة بعد استقالة رئيس الوزراء راموش هاراديناي، القائد الميداني السابق خلال الحروب اليوغسلافية الذي تنحى عن منصبه في يوليو/تموز الماضي بعد استدعائه من مدَّعين في لاهاي للشهادة على جرائم حرب في محكمة دولية جديدة.
وجاءت نتائج رابع انتخابات – في أصغر دولة أوروبية منذ إعلان استقلالها عن صربيا عام 2008 – مخيبة لآمال راموش وأنصاره المحاربين القدامى، حيث فاز حزب “فيتيفيندوسي” اليساري القومي الذي يعني باللغة الألبانية حزب حركة تقرير المصير، بالانتخابات التشريعية المبكرة التي أُجريت يوم الأحد الماضي في كوسوفو، بحصوله على 26% من الأصوات.
في حين أن عدد سكان كوسوفو لا يتجاوز 1.7 مليون نسمة، فإن نحو مليون من مهاجري ألبان كوسوفو شكلوا شريحة كبيرة من الناخبين المسجلين البالغ عددهم ما يقارب مليوني ناخب، بينهم آلاف الشباب.
زعيم حزب “تقرير المصير” ألبين كورتي
ومن المرجح أن يشكل زعيم حزب “تقرير المصير” ألبين كورتي، الأقرب لتولي منصب رئيس الوزراء، الائتلاف الحكومي المقبل، وكان قد استبعد في وقت سابق أي تعاون مع الحزب الديمقراطي الحاكم الذي كان مشاركًا في جميع الحكومات منذ عام 2007.
وقد يدفعه عزمه على التخلص من قادة الحرب السابقين إلى بناء تحالف مع حزب الرابطة الديمقراطية (يمين الوسط)، الذي تقوده القانونية فيوسا عثماني، البالغة من العمر 37 عامًا، وهي وجه جديد في السياسة، وتأمل أن تصبح أول امرأة رئيسة للوزراء في كوسوفو.
قلب الطاولة على زعماء الحرب
قتلت القوات الصربية أكثر من 10 آلاف شخص في حرب كوسوفو، مما أدى إلى تدخل حلف شمال الأطلسي (الناتو) في مارس/آذار 1999، الذي طرد القوات الصربية من المنطقة بعد حملة جوية استمرت 78 يومًا، لكن صربيا لم تعتذر مطلقًا عن جرائم الحرب التي اُرتكبت تحت حكم رئيس صربيا الأسبق سلوبودان ميلوسيفيتش.
بعد خمس سنوات تقريبًا عام 2005، أسس كورتي، البالغ من العمر 44 عامًا، حزب “فيتيفيندوسي” كحركة سياسية في البداية، وسعى من خلاله إلى تقرير مصير كوسوفو، وانتقد الوجود الدولي، وعلى رأسه بعثة الأمم المتحدة للإدارة المؤقتة في كوسوفو، وتركزت انتقاداته بشكل أساسي بشأن مهمة الأمم المتحدة التي تقوم بخصخصة الشركات المملوكة للدولة في كوسوفو، التي تعهد كورتي بالتحقيق فيها عندما يشكل حكومته.
فوز “فيتيفيندوسي” يُنظر إليه باعتباره تطورًا مهمًا يرمز إلى الانفصال عن الماضي، وينهي سيطرة الحزب الديمقراطي الحاكم الذي ينتمي له الرئيس الحاليّ هاشم تاجي
عارضت حركة كورتي مهمة الأمم المتحدة حتى عام 2008 عندما أعلنت كوسوفو نفسها دولة ذات سيادة، وانتقلت الحركة في عام 2010 إلى الانتخابات السياسية، حيث حصلت على المركز الثالث في الانتخابات البرلمانية بنتيجة 12%، في حين حصل حزب كوسوفو الديمقراطي الحاكم على 33%، تلاه حزب الرابطة الديمقراطية بنسبة 23%.
في الانتخابات المبكرة التي أُجريت يوم الأحد، انخفض حزب كوسوفو الديمقراطي الحاكم إلى 21% من الأصوات، في حين تراجع حزب الرابطة الديمقراطية لكوسوفو المحافظ (LDK) بفارق ضئيل عن حزب “فيتيفيندوسي” المعارض، وحصل على نسبة 24%، وحصل تحالف مستقبل كوسوفو بقيادة رئيس الوزراء المنتهية ولايته راموش هاراديناي على 11%.
فوز “فيتيفيندوسي” أكثر المعارضين صراحةً لحزب كوسوفو الديمقراطي (PDK)، الذي كان يحكم كوسوفو بتشكيل ائتلافات مختلفة منذ عام 2007، يُنظر إليه باعتباره تطورًا مهمًا يرمز إلى الانفصال عن الماضي، وينهي سيطرة الحزب الديمقراطي الحاكم الذي ينتمي له الرئيس الحاليّ هاشم تاجي.
وكانت “أحزاب الحرب” تعوِّل على ناخبيها التقليديين، وبينهم المقاتلون القدامى وموظفو الإدارات العامة وسكان معاقل “القادة” السابقين، لكن الناخبين أظهروا أنهم متعطشون لاتجاه جديد، وفي حين كان هناك من يرغب في تأييد “الحرس القديم”، يطمح الجيل الشاب إلى تغيير رؤوس السلطة.
لوحة إعلانات تُظهر رئيس الوزراء المنتهية ولايته راموش هاراديناي
وبالنظر إلى كيفية إدارة كوسوفو من الحكومات المتعاقبة، فإن هذا يبدو أمرًا مفهومًا، حيث تحكم كوسوفو اليوم شخصيات برزت في الحرب ضد القوات الصربية التي وقعت بين العامين 1998 و1999، وراح ضحيتها نحو 13 ألف شخص.
من بين تلك الشخصيات، يبرز الرئيس هاشم تاجي (ثاتشي) أو “الثعبان”، كما عرف باسمه الحركي في أثناء الحرب، وهو الذي كان في الماضي الزعيم السياسي للمقاتلين الانفصاليين الألبان، الذي تنتهي ولايته في 2021، ورغم أنه غير معني مباشرة بالانتخابات، فإن المحللين يرون أن هزيمة حزب كوسوفو الديموقراطي ستشكل ضربة تضعف موقعه.
كما أن رئيس الوزراء المنتهية ولايته، راموش هاراديناي، المعروف بـ”رامبو”، كان أيضًا من قادة جيش تحرير كوسوفو، أمّا قادري فيسيلي الذي يترأس قائمة حزب كوسوفو الديمقراطي، أكبر “أحزاب الحرب” تلك، كان في الماضي قائد جهاز الاستخبارات الواسع السلطة.
ولم يفض عهد قادة الحرب السابقين إلى تطبيع الوضع مع صربيا، رغم مساعي الاتحاد الأوروبي المتخوف من استمرار بؤرة التوتر هذه بعد عقدين على انتهاء آخر النزاعات في البلقان، وهو الذي أدّى إلى تفكك يوغوسلافيا.
مواجهة الفساد أول التحديات
لا يمثل الوضع السياسي الداخلي القائم أخطر المشاكل، إذ يرى العديد من سكان كوسوفو أن أكثر ما يعانون منه هو صعوبة الأوضاع المعيشية والجمود اللذان أعقبا الاستقلال، حيث يعيش ثلث السكان تحت خط الفقر بينما يبلغ متوسط الأجور 360 يورو.
كوسوفو، بحسب الإدارة الأمريكية الداعم الرئيسي لها، ثاني أفقر دولة في أوروبا، وفي حين أن معدل النمو الاقتصادي السنوي بلغ 4% على مدى العقد الماضي، وفقًا لـ”رويترز“، فإن أكثر من 30% من المواطنين عاطلين عن العمل، في حين تصل البطالة بين الشباب إلى 50%.
ويُلقى باللائمة في مشكلة البطالة على “الفساد المستشري” الذي تميزت به الحكومة السابقة، ففي عام 2018، احتلت كوسوفو المرتبة الـ93 من أصل 180 دولة بسبب الفساد، وفقًا لمنظمة الشفافية الدولية.
من المتوقع أن يواجه الحزب مقاومة كبيرة في مكافحة الفساد بسبب حقيقة أن الحزب الديمقراطي سيكون في المعارضة، وقد لا يرغب في التعاون في هذه العملية
وفقًا للمعهد الدولي لدراسات الشرق الأوسط ومنطقة البلقان (IFIMES)، ومقره ليوبليانا عاصمة سلوفينيا، ظلت حكومة كوسوفو “تتصف بالجريمة والفساد والمحسوبية” منذ 19 عامًا، مشيرًا إلى اختفاء ملياري يورو من أموال دافعي الضرائب في الاتحاد الأوروبي، أو أهدروا بشكل غير لائق في كوسوفو.
هذا الفساد الممزوج بالمحسوبية والمحاباة أجبر أكثر من 170 ألف شخص على الهجرة إلى أوروبا الغربية في السنوات الخمسة الماضية، وغادر أكثر من 200 ألف من سكان كوسوفو وتقدموا بطلب للجوء في الاتحاد الأوروبي منذ استقلالها، وفقًا لتقرير مفوضية الاتحاد الأوروبي، كما يغذي الفقر الهجرة غير الشرعية أكثر مما يغذيها صعود الإسلام المتشدد مع انضمام نحو 300 كوسوفي الى الجهاديين في سوريا والعراق.
وكما وعد خلال الحملة الانتخابية التي وضع خلالها توقعات كبيرة، ستركز مهمة كورتي المقبلة، على تحسين العدالة الاجتماعية والاقتصاد والقضاء على الفساد الذي يظل مشكلة دائمة في كوسوفو تؤثر على البلاد من جميع الجوانب.
كورتي الذي يعتزم تشكيل حكومته مع حزب الرابطة الديمقراطية من أجل دفع الحزب الديمقراطي الحاكم إلى المعارضة، تعهد بإصلاحات اقتصادية وتحسين وضع القانون والنظام في ديمقراطية غرب البلقان الوليدة، في وقت تغمره حالة من الاستياء في الأوساط الشبابية في كوسوفو من الوضع الاقتصادي بشكل عام.
تعاني كوسوفو من البطالة والفساد والفقر
وقال كورتي لأنصاره، في خطاب النصر، بالساحة الرئيسية لبريشتينا العاصمة: “إنها موجة جديدة ستقوي جمهوريتنا وتحرض على التنمية وتحقق المساواة لكم جميعًا”، وأضاف: “نحن نفتح فصلاً جديدًا، لن يكون هناك لصوص في حكومتنا، سيتم القبض على جميع اللصوص والتحقيق معهم والحكم عليهم أينما كانوا”.
لكن يبدو من الصعب جدًا على حزب كورتي تلبية التوقعات على وجه السرعة، ومن المتوقع أن يواجه الحزب مقاومة كبيرة في مكافحة الفساد بسبب حقيقة أن الحزب الديمقراطي سيكون في المعارضة، وقد لا يرغب في التعاون في هذه العملية.
المفاوضات مع صربيا
الفساد والاقتصاد ليسا التحديات الوحيدة للحكومة الجديدة، فثمة عقبة أخرى واجهت هذا الاقتراع، وهي العلاقات المتردية مع صربيا، التي تشهد بانتظام فترات من التصعيد الشديد حتى أمست مدينة ميتروفيتسا الشمالية التي يقطنها نحو 80 ألف مواطن أكثرهم من الصرب رمزًا للصراع السياسي القائم بين بلغراد وبريشتينا، في ظل جمود تشهده المفاوضات بين الطرفين.
تقف تلك العقبة في وجه تقارب كوسوفو وصربيا من الاتحاد الأوروبي الذي تتفاوض الدولتان للانضمام إليه، لكن من الواضح أن الاتحاد الأوروبي يريد انضمام صربيا، ويبدو أنه مستعد للتغاضي عن تدخلها المستمر في الشؤون الداخلية لكوسوفو.
ما زالت بلغراد ترفض الاعتراف بالاستقلال الذي أعلنه أحاديًا إقليمها السابق الذي يشكل الألبان غالبية سكانه، وتواصل اعتبار كوسوفو إقليمًا خاصًا بها، بل وتعرقل الاعتراف الدولي بها، وتتهم “القادة” لا سيما هاشم تاجي وراموش هاراديناي بأنهم مجرمو الحرب.
يمثّل الفوز المفاجئ لحزب من أقصى اليسار خبرًا غير سار بالنسبة لآفاق اتفاق بين كوسوفو وصربيا يفتح طريقًا أمام الطرفين للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي
كما تمنع صربيا وحلفاؤها – وفي طليعتهم روسيا والصين – كوسوفو من شغل مقعد في الأمم المتحدة، كما تتصدى كذلك لمحاولات كوسوفو الانضمام إلى منظمة الشرطة الجنائية الدولية (الإنتربول).
وتعتبر بلغراد وحلفاؤها أن قرار مجلس الأمن رقم 1244 الصادر في يونيو/حزيران 1999 ما زال نافذًا، وهو يضع كوسوفو تحت حماية دولية ويعتبرها جزءًا لا يتجزأ من يوغوسلافيا (التي حلت محلها صربيا في القانون الدولي).
في المقابل، تتمسك بريشتينا باعتراف 116 دولة من أصل 193 دولة أعضاء في الأمم المتحدة، بما في ذلك 23 من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي البالغ عددها 28 دولة، ودول كبرى مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا، لكن بلغراد تعلن بانتظام سحب دول صغيرة اعترافها، في حين ترفض عشرات الدول الاعتراف بالإقليم الصربي السابق كدولة ذات سيادة.
ويمثّل الفوز المفاجئ لحزب من أقصى اليسار خبرًا غير سار بالنسبة لآفاق اتفاق بين كوسوفو وصربيا يفتح طريقًا أمام الطرفين للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ذلك أنه في حال أصبح ألبين كورتي رئيسًا للوزراء في كوسوفو، فإنه سيكون من الصعب عليه إقامة علاقات مع الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش وتشكيل جبهة كوسوفية موحدة في المفاوضات، فقد سبق أن انتقد الحكومات السابقة لنهجها تجاه صربيا في الحوار الذي توسط فيه الاتحاد الأوروبي، وبدأ عام 2011، لتطبيع العلاقات كشرط لعضوية الاتحاد الأوروبي.
جدارية تصور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب في إحدى ضواحي بلغراد
توقفت المحادثات بين صربيا وكوسوفو، في حين أن اتفاقًا تم توقيعه عام 2013 برعاية الاتحاد الأوروبي ما زال حبرًا على ورق في الجزء الأكبر منه، وتضمن محادثات عن الطاقة والاعتراف المتبادل بدرجات التعليم العالي إلى السماح بحرية الحركة.
منذ ذلك الحين تم إحراز تقدم ضئيل في المفاوضات، إلى أن تدهور الوضع في نوفمبر/تشرين الثاني 2018 عندما فرضت كوسوفو ضريبة استيراد “انتقامية” بنسبة 100% على واردات المنتجات الصربية، قائلة إنها لن تلغي الضريبة إلا بعد اعتراف صربيا باستقلال كوسوفو، لكن هذه الجمارك أدت إلى انتعاش “شبكات التهريب الخطيرة”.
وفي مقابلة مع وكالة “أسوشيتيد برس” نُشرت في 8 من أكتوبر/تشرين الأول، بدا من تصريحات زعيم حزب يسار الوسط الذي فاز بأغلبية الأصوات أنه ليس في عجلة من أمره لتجديد محادثات صربيا، وقال إن مفاوضات بريشتينا وبلغراد ليست في مقدمة قائمة الأشياء التي يجب القيام بها، ولا يمكن أن تكون أولوية قصوى في اليوم الأول يصبح فيه رئيسًا للحكومة الجديدة.
The Serbian @SRBDiplomacy MFA propaganda and diplomatic campaign against #Kosovo is continuing in a dirty way. Kosovo will take measures to defend its integrity and sovereignty. This campaign has only one goal to escalate the relations with #Kosovo and we will not tolerate this.
— Behgjet Pacolli (@pacollibehgjet) August 26, 2019
وبعد أيام من إجراء الانتخابات، من المقرر أن يزور مبعوث الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الجديد إلى صربيا وكوسوفو ريتشارد جرينيل، الذي سيحتفظ بدوره كسفير في برلين، المنطقة، مما يثير احتمال بذل جهود جديدة لإنهاء أحد أكثر النزاعات عنادًا في البلقان بعد أن احتل الاتحاد الأوروبي لسنوات زمام المبادرة في التوسط بالمناقشات بين الأعداء السابقين في زمن الحرب.
لكن مع وجود المعيَّنين الجدد من الولايات المتحدة، والمعروفون تقليديًا بأنهم قريبون جدًا من رئيس كوسوفو هاشم تاجي الذي يؤكد ضرورة إشراك الولايات المتحدة في تسوية النزاع بين بلده وصربيا، وأيضًا مع عدم اليقين على مستوى الاتحاد الأوروبي، سيكون من الصعب على كوسوفو التعامل مع مسألة إعادة الحوار مع جارتها الشمالية العدائية، صربيا.