ترجمة وتحرير: نون بوست
في طابور مزدحم لاستخدام بعض ماكينات الصراف الآلي في وسط دمشق، نفد صبر رجلين يصطفان في طابور لساعات في برد الشتاء القارس للحصول على فرصة لسحب مبلغ 30 دولارًا كحد أقصى، يصرخ أحدهما: “لم أحصل على نقود لإطعام أولادي منذ يومين”.
فبعد مرور ثلاثة أشهر على انتهاء الحرب الأهلية السورية التي استمرت 14 عامًا، ومع بدء شهر رمضان المبارك، حلّ الغضب محل النشوة بسبب استمرار تدهور الاقتصاد وعدم قدرة الحكومة الجديدة على تغيير ذلك.
انكمش الاقتصاد السوري خلال الحرب بنسبة 85 بالمئة، وانخفضت الصادرات من 18 مليار دولار سنويًا قبل الحرب إلى 1.8 مليار دولار في عام 2021، وبلغت احتياطيات النقد الأجنبي 18.5 مليار دولار في عام 2010، لكن لم يتبق منها سوى 200 مليون دولار، وهو مبلغ لا يكفي لتغطية شهر من الواردات، وانخفضت الليرة السورية من 50 مقابل الدولار إلى ما يقرب من 11,000 ليرة مقابل الدولار، وأصبحت الأجور العادية لا تكفي لتغطية حتى نفقات المعيشة الأساسية؛ حيث يعيش أكثر من 90 بالمئة من السوريين تحت خط الفقر.
تعد العقوبات الأمريكية أحادية الجانب هي الأشد قسوة، فهي تحظر جميع التعاملات بين الكيانات الأمريكية والسورية، وكذلك جميع استخدامات الدولار في المعاملات التي تشمل سوريا، ولا يقتصر الحظر على الأمريكيين وحدهم: فالشركات والأفراد الأجانب يواجهون أيضًا عقوبات صارمة في أمريكا إذا ما تعاملوا مع سوريا، وقد جعلت هذه العقوبات “الثانوية” من المستحيل تقريبًا، على سبيل المثال، على أي بنك أجنبي كبير تسهيل المدفوعات إلى سوريا.
وعلى الرغم من وجود إعفاء من الناحية النظرية للمساعدات الإنسانية، إلا أن المؤسسات المالية قلقة بشأن كيفية إثبات أن المدفوعات مؤهلة لكونها مساعدات مالية، وبالمثل، فإنه على الرغم من تعليق بعض العقوبات الأمريكية في يناير/كانون الثاني لمدة ستة أشهر، إلا أن بعض العقوبات الأخرى لا تزال قائمة.
علّق الاتحاد الأوروبي أيضًا بعض القيود المفروضة على التجارة والاستثمار، وليس كلها، مما أدى من تخوف معظم الممولين من التعامل مع مثل هذا النظام المعقد والمحفوف بالمخاطر.
قطع شرايين الحياة
ونجا نظام الأسد من هذا الحصار الخانق لفترة طويلة لسببين: أولاً، أقام النظام صداقات مع أطراف أخرى منبوذة، بما في ذلك إيران وروسيا، مما ساعد في دعمه، ليس فقط عسكريًا بل اقتصاديًا أيضًا. ثانيًا، حوّل النظام سوريا إلى دولة مخدرات، وبحلول أوائل العقد الحالي، أصبحت أكبر منتج للكبتاغون في العالم، وهو مخدر شبيه بالأمفيتامين، والذي كان يدرّ عليها حوالي 6 مليارات دولار سنويًا، وبقي معظم هذا الدخل في الخارج، واستُخدم لسداد قيمة واردات النظام.
غير أن هاتين الآليتين توقفتا عن العمل، ويحرص الزعيم الجديد لسوريا، أحمد الشرع، على أن يُنظر إليه على أنه شرعي، واتخذ إجراءات صارمة ضد إنتاج الكبتاغون، كما أنه ليس صديقًا لإيران وروسيا، اللتين هاجمت قواتهما هيئة تحرير الشام خلال الحرب الأهلية.
وبدلاً من ذلك، حاول الشرع تحرير الاقتصاد، على أمل تحفيز النمو؛ فقد عمل على تبسيط الرسوم الجمركية ورفع الحظر على العملة الأجنبية، كما يحاول القيام بإصلاح جذري للبيروقراطية؛ حيث أقال الكثير من موظفي الخدمة المدنية، ووعد برفع رواتب الذين بقوا منهم بشكل حاد، كما يأمل في جذب الاستثمار الأجنبي لإحياء صناعة الطاقة في سوريا وإعادة بناء بنيتها التحتية، ولكن بدون تخفيف العقوبات، فإن كل هذه الجهود سوف تذهب سدى.
إن طوابير الانتظار أمام ماكينات الصراف الآلي في دمشق هي مؤشر على مدى ضعف الاقتصاد ومدى ضرر العقوبات؛ حيث تعاني سوريا من نقص حاد في الأوراق النقدية، وفي اقتصاد يعتمد بشكل كبير على النقد، فإن ذلك أشبه بالتعرض لسكتة قلبية.
فالشركات لا تستطيع دفع الأجور، ولا تستطيع العائلات شراء السلع الأساسية، ويشير أحد التجار إلى أن السيارات التي تم استيرادها إلى سوريا بعد سقوط الأسد تتراكم عليها الأتربة؛ حيث لا يستطيع أحد أن يجمع ما يكفي من النقود لدفع ثمنها، وقد يكون لدى كل من الشركات والأفراد أرصدة في حساباتهم المصرفية، لكن البنوك ليس لديها ما يكفي من الأوراق النقدية لدفعها، بل إن البنك المركزي أصدر تعليمات لهم بالحد من عمليات السحب.
إن النقص في السيولة النقدية حاد لدرجة أن قيمة الليرة السورية ترتفع مقابل الدولار، على الرغم من كل المشاكل الاقتصادية التي تعاني منها سوريا، كما أن أسعار السلع اليومية آخذة في الانخفاض، ويرجع ذلك جزئيًا إلى أن استيرادها أصبح أسهل الآن، ولكنه قد يكون أيضًا بسبب قلة السيولة النقدية التي يمكن الشراء بها.
ولم تقدم الحكومة أي تفسير واضح لما يحدث؛ حيث يشتبه البعض في أن السماح للسوريين بامتلاك عملات أجنبية، وانتشار عمليات الصرافة التي أعقبت ذلك، قد سحب كميات كبيرة من النقد من النظام المصرفي، بينما يشير آخرون إلى أن تعليق معظم التحويلات الإلكترونية أدى إلى زيادة اللجوء إلى النقد.
الكهرباء مشكلة أخرى، فالكهرباء تعمل في معظم الأحياء لمدة ساعة أو ساعتين فقط في اليوم، وقد انخفضت قدرة توليد الكهرباء في سوريا من تسعة جيجاوات في عام 2010 إلى أقل من اثنين جيجاوت اليوم، وتعمل محطات الطاقة التي بقيت بعد الحرب بالغاز الطبيعي الذي تنتجه سوريا، ولكن ليس بكميات كافية؛ فقد انخفض إنتاجه إلى ما بين 2 مليار و3 مليار متر مكعب سنويًا، أي حوالي ثلث مستوى عام 2010 ونصف ما تحتاجه لإبقاء محطات الطاقة المتبقية تعمل بكامل طاقتها.
وليس من الواضح ما إذا كانت الحكومة قادرة على دفع ثمن الغاز الأجنبي، أو البدائل مثل النفط أو الكهرباء المستوردة مباشرة من الأردن أو تركيا المجاورة، وكانت إيران تزود سوريا بـ70 ألف برميل يوميًا من النفط، أي نصف احتياجاتها، لكن تم إغلاق هذا المنفذ، وعندما طرحت الحكومة الجديدة مناقصة عامة في يناير/كانون الثاني لتوريد ما يكفيها لشهرين تقريبا، لم تتلق أي عروض، وكان مقدمو العروض المحتملون قلقين بشأن الامتثال للعقوبات والجدارة الائتمانية للحكومة.
وكانت سوريا تنتج ما يكفي من النفط لتلبية احتياجاتها الخاصة بالإضافة إلى صادرات مربحة؛ فقد كانت عائدات النفط تمثل 30 بالمئة من ميزانية الدولة، لكن الإنتاج انهار من 400,000 برميل يوميًا قبل الحرب إلى 50,000 برميل يوميًا الآن، وتقع العديد من الآبار التي لا تزال تعمل في الشمال الشرقي، في المناطق التي تسيطر عليها ميليشيا كردية.
ويقول جون بيل من شركة “جلف ساندز”، وهي شركة غربية كانت تنتج 24 ألف برميل يوميًا في سوريا عندما اندلعت الحرب، إنه مع وجود ما يكفي من الاستثمارات والخبرات الأجنبية، يمكن أن يرتفع الإنتاج إلى 150 ألف برميل يوميًا في عام و500 ألف برميل يوميًا في أربع أعوام، لكن العقوبات تمنع الشركات الأجنبية من العودة.
ويزيد نقص الوقود من إعاقة الاقتصاد، فقد كانت الصادرات الزراعية ثاني أكبر مصدر للعملة الصعبة في سوريا بعد النفط، وكانت مخزونات القمح الحكومية تكفي لإطعام البلاد لمدة عامين، كما كان لحم الضأن والقطن والكمون السوري من السلع الثمينة، لكن الري توقف إلى حد كبير بسبب نقص الوقود، كما تراجعت صناعة الأسمدة مع تراجع إنتاج الغاز الطبيعي، الذي يعد المكون الرئيسي، وذبلت المحاصيل.
إن زيادة المساعدات الإنسانية من شأنها أن توفر فرصة للتخفيف من هذه المشاكل، لكن العقوبات تجعل هذا الأمر صعبًا أيضًا، ففي أواخر فبراير/شباط قالت قطر إنها تفكر في تحويل 120 مليون دولار شهرياً إلى البنك المركزي، ولكنها امتنعت حتى الآن خوفاً من مخالفة القواعد، كما فشلت المساعدات السعودية، التي كانت موضع نقاش أيضًا، في تحقيق هدفها.
وتحتاج سوريا في الأمد البعيد إلى استثمارات أجنبية ضخمة لإعادة الإعمار، فقد تم تدمير أو إتلاف ما يقارب ثلث المنازل، ونصف المدارس والمستشفيات تقريبًا، وتأمل الحكومة أن يضخ المغتربون الأموال إلى البلاد، وتتطلع الشركات التركية إلى إبرام العقود، لكن تدفق رأس المال الكبير من الخارج أمر مستحيل في ظل استمرار العقوبات، وسوريا تشكل أولوية منخفضة بالنسبة للإدارة الأميركية الجديدة، وليس من الواضح ما الذي يمكن أن يفعله الشرع لجذب انتباهها.
المصدر: إيكونوميست