بعد أكثر من شهر ونصف من الجدل والضغوطات الداخلية والخارجية، أفرج القضاء التونسي مساء يوم أمس الأربعاء، عن نبيل القروي، رجل المال والإعلام التونسي المترشح للدور الثاني من الانتخابات الرئاسية، مثيرًا بذلك مفاجأة من العيار الثقيل قد تؤثر على مستقبل المشهد السياسي المشتعل في تونس.
نبيل القروي، السجين المتهرب الضريبي ومبيض الأموال الذي تمكن من الوصول إلى الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية في تونس التي ستجرى يوم الأحد المقبل، حر طليق، بعد أن تم إيقافه يوم 23 من أغسطس الماضي بطريقة بوليسية مثيرة. وعلى إثر معركة قانونية كبيرة خاضها فريق دفاع تكوّن من أمهر المحامين التونسيين، وأخرى سياسية ودبلوماسية أكبر، انتهت بخضوع محكمة التعقيب (أكبر جهة قضائية متخصصة) وانخراطها في اللعبة السياسية الحاصلة في البلاد، وفق ما يرى كثيرون.
عملية الإفراج عن نبيل القروي قبل 4 أيام من خوضه الدور الثاني للانتخابات الرئاسية أمام المترشح الثاني المستقل قيس سعيد، جاءت لتؤكد المأزق الكبير الذي تعيشه الدولة العميقة في تونس بعد السقوط المذل الذي عرفته أحصنتها الخاسرة خلال الدور الأول من الانتخابات الرئاسية والنتائج المخيبة التي سجلها رموزها خلال الدور الثاني، وتكشف لكل عاقل وبصير، أن كل ما يقال عن استقلالية القضاء التونسي لا يعدو إلا أن يكون كذبة كبرى.
لن نتحدث كثيرًا عن القضاء التونسي واستقلاليته المزعومة، ولكن عملية الإفراج عن نبيل القروي تستدعي منا الوقوف على ما تحمله من رسالات مبطنة
القضاء التونسي الذي انقسم إلى شقّين إثر عملية إيقاف القروي وعرفت كواليسه سجالاً كبيرًا بين مؤيد ورافض لما حدث، عاد مجددًا ليتصدر اهتمامات التونسيين، مؤكدًا هو الآخر خضوعه كغيره لأهواء وضغوطات الجهات السياسية المحلية والخارجية، وفق ما يؤكد ذلك كثير من المطلعين على ما يحدث داخله، ومنخرطًا في اللعبة السياسية التي تجاهلت نبيل القروي لنحو سنتين، قبل أن تزج به في السجن قبل 3 أسابيع من إجراء الدول الأول من الانتخابات الرئاسية في 15 من سبتمبر الماضي.
لن نتحدث كثيرًا عن القضاء التونسي واستقلاليته المزعومة، ولكن عملية الإفراج عن نبيل القروي تستدعي منا الوقوف على ما تحمله من رسالات مبطنة ودلالات في علاقة مباشرة بالتحولات التي تشهدها الساحة السياسية التونسية، خاصة بعد إعلان نتائج الانتخابات التشريعية المفاجئة التي زادت المشهد قتامةً والمستقبل غموضًا.
نبيل القروي رجل المال والإعلام الذي استعان بواحدة من أكبر شركات اللوبيينغ الغربية لإنجاح حملته الانتخابية والترويج لصورته دوليًا، في خرق واضح للقانون الانتخابي وصمت مقصود من الجهات الرسمية والمسؤولة بسلامة الانتقال الديمقراطي ومبدأ تكافؤ الفرص وغيرها من الدعاوى التي يرددها المسؤولون الداعمون خفية للرجل، ليس إلا آخر ورقة تجندت كل القوى الداخلية والخارجية المناوئة لأطراف سياسية دون أخرى، لدعمها والعمل على إيصاله إلى قصر قرطاج، لأجل النجاح في تعديل خريطة المشهد السياسي قبل تمكن الثوريين من رص صفوفهم وحكم البلاد خلال السنوات الخمسة المقبلة.
المشهد يبدو قاتمًا جدًا، ولعل دخول ما يعرف بـ“الرباعي الراعي للحوار على الخط للتأثير على نتائج الانتخابات والتحكم في المشهد من جديد على غرار ما حدث صيف العام 2013، مؤشرًا سلبيًا
بعد صدور النتائج الأولية التقريبية للانتخابات التشريعية في تونس، وحلول حركة النهضة في المرتبة الأولى، وصعود عدد كبير من الوجوه الثورية إلى البرلمان الجديد، بعد أسابيع طويلة من الشيطنة الإعلامية والاتهامات التي لا تنضب وفشل الدولة العميقة في إيصال حزب “قلب تونس” لصاحبه نبيل القروي إلى المركز الأول والحصول على أكثر من 50 مقعدًا في البرلمان المقبل، لم تعد الخيارات المطروحة كثيرة أمام مافيا السياسة والفساد في تونس، لذلك صار لزامًا عليهم التوحد خلف نبيل القروي في الدور الثاني للانتخابات الرئاسية، ومنع قيس سعيد من الوصول إلى قصر قرطاج بكل السبل، حتى لو كلفهم ذلك تأجيل الانتخابات حتى يتسنى للقروي الذي تشتغل ماكينات الإعلام وشركات اللوبيينغ في الداخل والخارج لصالحه، إجراء حملته الانتخابية في إطار مبدأ تكافؤ الفرص الذي يروج له البعض.
المشهد يبدو قاتمًا جدًا، ولعل دخول ما يعرف بـ“الرباعي الراعي للحوار“ )الاتحاد العام التونسي للشغل وهيئة المحامين والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية(، على الخط للتأثير على نتائج الانتخابات والتحكم في المشهد من جديد على غرار ما حدث صيف العام 2013، ونجاحه في الانقلاب على حركة النهضة وحلفائها المعروف بـ“الترويكا“ وإقصائهم من الحكم، بدعوته للإسراع في تشكيل الحكومة المقبلة قبل أن يتم الإعلان أصلاً عن النتائج الأولية من هيئة الانتخابات، مؤشرًا سلبيًا على حجم الضغوطات الرهيبة التي تنتظر حاكمي القصبة وقرطاج المقبلين.
لم يعد أمامنا اليوم إلا الانتظار وترقب ما ستسفر عنه نتائج الانتخابات الرئاسية في دورها الثاني التي من المرجح أن يفوز بها المترشح المستقل قيس سعيد بفارق مريح على نبيل القروي
صار مؤكدًا للجميع اليوم، لا سيما بعد الإفراج عن نبيل القروي، أن المشهد السياسي التونسي مقبل على تحديات كبرى وربما تغيرات جوهرية، خاصة إذا نجحت حركة النهضة في تشكيل الحكومة المقبلة وفشل رهان البعض في حل البرلمان وإعادة الانتخابات التشريعية، وهو ما سيزيد من جنون الدولة العميقة التي ستحترق أوراقها الواحدة تلو الأخرى، وسينكشف رموزها مجتمعين أمام الشعب الذي قال كلمته واختار ممثليه بكل ديمقراطية خاصة بعد انكشاف الدور القذر الذي لعبه ولا يزال الاتحاد العام التونسي للشغل المنظمة النقابية الأكثر تمثيلاً للبلاد، المصطف على قلب رجل واحد وراء أحد رموز الفساد ورجالات المافيا في البلاد.
لم يعد أمامنا اليوم إلا الانتظار وترقب ما ستسفر عنه نتائج الانتخابات الرئاسية في دورها الثاني التي من المرجح أن يفوز بها المترشح المستقل قيس سعيد بفارق مريح على نبيل القروي، وفق ما تؤكد ذلك استطلاعات الرأي الممنوع نشرها قانونًا، ووفق ما تؤكد المعطيات والمؤشرات التي كان آخرها الإفراج عن القروي شخصيًا، ولكن هذا الانتظار والترقب لن يمنعنا من التأكيد مرة أخرى أن “السيستام“ في تونس، صار يصرخ من الأوجاع والجروح التي أثخنته، وهو ما يستدعي من الجميع الحذر وتوقع السيناريوهات المقبلة التي يمكن حدوثها، وتفصيلها قد يكون في مقال قادم إن شاء الله.