تسعى “إسرائيل” إلى جعل سوريا دولة غير مستقرة من خلال احتلال أراضٍ في الجنوب السوري تحت ذريعة تأمين وحماية الحدود، إضافةً إلى التدخل في الشؤون السورية الداخلية عبر بوابة حماية أقليات عرقية وطائفية، بالتوازي مع جهود دبلوماسية في سياق توزّع قوى النفوذ الدولي في سوريا بما يخدم مصالحها الإقليمية.
ظهرت مساعي “إسرائيل” بشكل واضح في شباط/ فبراير الماضي، بعدما كانت مقتصرة على توغّل بري في الجنوب المحاذي للجولان السوري المحتل، تزامنًا مع انطلاق فعاليات مؤتمر الحوار الوطني السوري، الذي يهدف إلى إرساء الاستقرار ورسم ملامح المرحلة الانتقالية، تمهيدًا لسوريا الجديدة.
تُثير التغيرات العسكرية والسياسية التي شهدتها سوريا خلال الشهور الثلاثة الماضية، وما تبعها من تبدّلات في موضع القوى الدولية والإقليمية، بعد سقوط النظام السابق، حفيظة “إسرائيل” التي تبذل جهودًا مضاعفة تهدف إلى منع أية خطوات تتجه نحو التهدئة والاستقرار في سوريا تحت مظلّة الإدارة الجديدة لاعتبارات ترتبط بخلفياتها الإسلامية وعلاقاتها مع تركيا.
حماية الأقليات والفيدرالية
مع سقوط نظام بشار الأسد السابق في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، توجّه الاحتلال الإسرائيلي لتنفيذ هجمات جوية ضد مواقع عسكرية لم تقتصر على تدمير أسلحة نوعية فقط، وإنما امتدت إلى تدمير أسلحة تقليدية كان يمتلكها جيش النظام السابق، في تطور لافت بعدما كان يقتصر على استهداف مواقع ميليشيات إيرانية وميليشيا حزب الله اللبناني.
وتوغّلت قوات الاحتلال برًّا في عدة مناطق ضمن محافظتي القنيطرة ودرعا بمحاذاة حدود الجولان السوري المحتل جنوب البلاد، ومنها جبل الشيخ، التلول الحمر، بلدات جباثا الخشب، جبا، عين البيضة في القنيطرة، وكتيبة الهاون قرب بلدة عابدين بريف درعا الغربي، ضمن ما يُعرف بالمنطقة العازلة التي تخضع لسيطرة قوة من الأمم المتحدة.
لكن في شباط/ فبراير الماضي، توسّع التوغّل بعدما وصلت القوات “الإسرائيلية” برًّا عبر عشرات الآليات العسكرية إلى منطقة حوض اليرموك وبلدات كويا، جملة، معرية، عابدين، البكار في ريف درعا الغربي، وصولًا إلى تل المال والسرية العسكرية، وقامت بتدمير البنية التحتية العسكرية قبل الانسحاب منها نحو حدود الجولان.
لم يقتصر على توغّل برّي، وإنما امتد إلى تدخل “إسرائيل” في شؤون سورية داخلية تهدف إلى زعزعة أمن واستقرار سوريا من خلال دعم حركات الانفصال تحت ذريعة حماية أقليات عرقية وطائفية؛ حيث صرّح رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بضرورة حماية الدروز في الجنوب السوري، وجعل المنطقة الجنوبية (السويداء، درعا) منزوعة السلاح، دون السماح للقوات السورية بدخول المنطقة.
كما جدّد نتنياهو دعوة حماية الأقليات في 1 آذار/ مارس الجاري، على خلفية تطورات أمنية شهدتها مدينة جرمانا في ريف دمشق، في إطار ملاحقة فلول النظام المخلوع، حيث أمر وزير الأمن الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، بالاستعداد لما أسماه بالدفاع عن “جرمانا الدرزية”، واعتبرا في بيان مشترك، أنهما لن يسمحا بإيذاء الدروز من قبل النظام الجديد، وأضافا: “إذا استهدف الدروز فسوف نضربه”.
وشكّلت تصريحات رئيس وزراء الاحتلال “الإسرائيلي”، المثيرة للجدل، نقلة نوعية من التهديدات التي طالت إدارة دمشق، بعدما كانت مقتصرة على استهداف جيوب حزب الله والميليشيات الإيرانية في عهد النظام المخلوع، وامتدت إلى تدمير الترسانة العسكرية من الأسلحة النوعية والتقليدية دون استهداف مباشر لدمشق.
لم تمضِ أيام على تصريحات نتنياهو ليؤكد وزير خارجية “إسرائيل”، جدعون ساعر، أن مسألة سوريا لا تتعلق بوحدة أراضيها، وإنما مصلحة تل أبيب تقتضي أن تكون هادئة، لكن وجود جماعات إسلامية على حدودها سيكون تهديدًا بالغ الخطورة، وطالب بحماية حقوق الأقليات، بما فيهم الدروز والكرد، وسبقها بأيام مطالبته بتحويل سوريا إلى “دولة فيدرالية تضم مناطق حكم ذاتي”.
ويرى الباحث، عرابي عرابي، أن “إسرائيل” تسعى إلى إثارة النعرات الطائفية وتحريض بعض الجهات ودعمها مثل مجلس السويداء العسكري والتنسيق مع قوات سوريا الديمقراطية “قسد” عبر شخصيات معينة تحت ذريعة دعم وحماية الأقليات القومية والعرقية كالدروز والأكراد، بهدف تفتيت وتفكيك سوريا، بما يتماشى مع مصالحها في أن تكون تحت نظام حكم فيدرالي.
وأضاف، خلال حديثه لـ “نون بوست”، أنه على الرغم من عدم قبولها لدى شريحة واسعة من السوريين، إلا أنها أسهمت في بث فوضى أمنية في سوريا عبر دعم مجموعات عسكرية باتت تطمح في إمكانية الحكم الذاتي، وأخرى تستهدف قوى الأمن الداخلي.
جهود دبلوماسية لتقاسم النفوذ
توازيًا مع نشاطاتها في إثارة الفوضى الأمنية في سوريا، كثّفت “إسرائيل” الجهود الدبلوماسية التي تهدف إلى حماية المصالح “الإسرائيلية” الإقليمية من خلال توزّع القوى الدولية في سوريا، وهذا ما يُعتبر خطوة لمواءمة توزّع قوى النفوذ في سوريا بما يحفظ وجودها في الشرق الأوسط من أي تهديد محتمل.
وناشدت “إسرائيل” الولايات المتحدة الأمريكية الحد من توسع النفوذ التركي في سوريا بعد سقوط النظام السابق، بحسب ما نقلت صحيفة “يسرائيل هايوم” عن مسؤولين “إسرائيليين”، الذين صرّحوا بأن “إسرائيل” لديها مخاوف من السلطة السورية الجديدة في دمشق المدعومة من الأتراك، محذّرةً من أن الحكام الجدد قد يشكّلون تهديدًا لحدودها الشمالية، في ظل تصاعد وجود أنقرة التي ساءت علاقاتها مع “إسرائيل” نتيجة الحرب على غزة.
وتخشى “إسرائيل” من تأثير أنقرة على القيادة الإسلامية في سوريا، لذلك تستخدم قناتين للتواصل بهدف التهدئة مع تركيا؛ الأولى بوساطة أذربيجانية، والثانية عبر الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تطالب تل أبيب واشنطن بتوجيه رسائل لأنقرة بهدف منع إنشاء ثلاث قواعد عسكرية تركية في سوريا، إضافةً إلى منع تشكيل تنظيمات معادية لـ”إسرائيل” مثل “حركة حماس”.
ولمواجهة نفوذ أنقرة في سوريا تضغط تل أبيب على واشنطن للإبقاء على قاعدتين عسكريتين روسيتين في سوريا (حميميم الجوية، طرطوس البحرية)، حسب ما نقلت وكالة رويترز عن أربعة مصادر مطلعة، بهدف إبقاء سوريا ضعيفة وبلا قوة مركزية.
وفي السياق، أرسل رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي سكرتيره العسكري، اللواء رومان غوفمان، إلى موسكو بهدف عقد سلسلة اجتماعات أمنية وعسكرية، في إطار تعزيز التنسيق الأمني وضمان وحماية المصالح الاستراتيجية الإسرائيلية الإقليمية.
ويرى الباحث في مركز جسور للدراسات، وائل علوان، أن بقاء القواعد العسكرية الروسية أحد الحلول الممكنة التي تناسب مصالح “إسرائيل” في سوريا، بهدف تأمين منطقة عازلة بين إدارة دمشق التي لا تثق بها، ومن خلفها حليفتها أنقرة التي تشهد علاقات غير مستقرة مع تل أبيب.
وأضاف، خلال حديثه لـ “نون بوست”، أن علاقة تل أبيب مع موسكو جيدة مقارنةً بعلاقتها مع أنقرة التي باتت غير مستقرة بسبب موقف الأخيرة من الحرب على غزة، فضلًا عن قدرة أنقرة على التأثير على حليفتها دمشق، ما يدفع تل أبيب إلى المحاولة للإبقاء على حلفائها الروس في سوريا عبر المسارات الدبلوماسية.
وأوضح أن روسيا كانت تقوم بدور تأمين حدود “إسرائيل” ضمن منطقة عازلة أثناء وجود النظام السابق، عبر الفصل بين مناطق وجود الاحتلال الإسرائيلي في الجولان المحتل، والنفوذ الإيراني في سوريا.
ورغم أن تقسيم سوريا غاية “إسرائيلية” بهدف الحفاظ على أمنها القومي من خلال تشكيل كيان درزي على حدودها في الجنوب السوري، إلا أنه يُعتبر تهديدًا لتركيا، لأنه يمنح الأكراد في شرق سوريا الخاضع لسيطرة “قسد” المرتبطة بحزب العمال الكردستاني (PKK) إمكانية إنشاء حكم ذاتي، وبالتالي تهديد الأمن القومي التركي، مما يؤدي إلى احتكاكات عسكرية وسياسية بينهما.
ما وراء مساعي منع استقرار سوريا؟
في خضم التطورات والمتغيرات التي شهدتها سوريا، بات الاحتلال الإسرائيلي يخشى أن تُشكّل سوريا خطرًا على وجوده ونفوذه في منطقة الشرق الأوسط، بعد سقوط النظام السابق، الذي كان يحفظ حدودها رغم علاقاته المتينة مع إيران، من خلال تأسيس مجموعات مناهضة لوجود الاحتلال “الإسرائيلي” في فلسطين وسوريا.
ويرى الباحث في مركز جسور للدراسات، وائل علوان، أن “إسرائيل” قلقة من الانتقال العسكري والسياسي الذي حصل في سوريا، لأن النظام السابق، على الرغم من تحالفه مع إيران، إلا أنه كان منضبطًا نسبيًا في تأمين حدود “إسرائيل” لعقود طويلة.
وأوضح أن المساعي الإسرائيلية تهدف إلى جعل سوريا دولة منزوعة السلاح، من خلال تدمير الترسانة العسكرية، ليشمل ذلك الأسلحة التقليدية، إضافةً إلى إنشاء منطقة عازلة تضمن من خلالها عدم التماس المباشر مع إدارة دمشق والفاعلين الجدد.
بينما يرى الباحث، عمار فرهود، أن الإدارة السورية الجديدة ليست موضع ترحيب من حكومة الاحتلال الإسرائيلي، وتبدو في موضع شك وريبة بسبب خلفيتها الإسلامية الجهادية، وهذا ما يضع الاحتلال تحت تخوّف من مكونات الإدارة البشرية والعسكرية على وجه الخصوص، لأنها تحمل في ذهنها العداوة للاحتلال والسعي لمحاربته على مستوى الخطاب والإعداد والتربية.
وقال خلال حديثه لـ “نون بوست”: “إن إبقاء سوريا غير مستقرة وتعيش أزمات متتالية يساعد الاحتلال على إزالة الأخطار التي يشعر بها واحدة تلو الأخرى، ويزيد من استهداف مقدّرات الدولة السورية وإشغالها بملفات وأزمات داخلية بشكل مستمر، عبر تغذية المجموعات المسلحة ودعم دعوات الانفصال هنا وهناك”.
وأضاف أن عدم الاستقرار في سوريا سيساعد “إسرائيل” في تقوية موقفها من خلال إضعاف دول الطوق المحيطة بها، وكذلك من خلال استهداف مقدّرات الدولة السورية، وأيضًا من خلال انشغال الدولة السورية بحلّ مشاكلها الداخلية بدلًا من التركيز على تنمية البلد والنهوض بها.
ختامًا، تُعد مساعي “إسرائيل” في منع استقرار سوريا عبر التدخل في شؤونها الداخلية وبث الفوضى تحت ذريعة حماية الأقليات تارةً، وإعادة ترتيب توزّع القوى الدولية والإقليمية في سوريا تارةً أخرى، بما يخدم مصالحها، تهديدًا لإدارة دمشق التي تسعى إلى إجراء تغيّرات ملموسة على الصعيدين السياسي والاقتصادي في البلاد بما يحقق تطلعات وآمال السوريين.