لم تترك الطائرات الإيرانية المُسيرة وصواريخ الكروز التي انطلقت صباح الـ14 من سبتمبر/أيلول الماضي، مستهدفةً منشأة بقيق وحقل خريص النفطيان شرقيّ السعودية، ضررًا ماديًا اقتصر على ما حل من دمار وخراب في المنشآت، ولم تتوقف آثار ضرباتها عند انعكاسات اقتصادية تمثلت بخفض إنتاج السعودية من النفط إلى النصف تقريبًا، وبالتالي ارتفاع أسعار النفط الخام في السوق العالمية، عدا عن وقف طرح اكتتاب حصة 5% من شركة أرامكو في الأسواق مجددًا، وهو الأمر الذي يمثل حجر الأساس في رؤية محمد بن سلمان الاقتصادية، بل إن الهجوم الذي أصاب منشآت النفط الحيوية التابعة لشركة أرامكو السعودية، ترك صدى سياسيًا واقتصاديًا في عواصم العالم والمنطقة تحديدًا، وأعاد في ذات الوقت طرق أبواب المخاوف الأمنية والعسكرية لدى هذه العواصم من تنامي القدرات الإيرانية، وعلى رأسهم جميعًا تقف تل أبيب.
ما الذي أقلق “إسرائيل”؟
مثلت إيران لسنواتٍ طويلة خطرًا إستراتيجيًا وتحديًا أمنيًا بالنسبة للإسرائيليين، وتنامت حدة هذا الخطر مع تعمق الوجود الإيراني في سوريا خلال السنوات الماضية، وتعاظمها العسكري هناك، وعملها الحثيث على نشر منظومات أسلحة نوعية من صواريخ أرض – جو متطورة، صواريخ مضادة للسفن، وصواريخ أرض-أرض عالية الدقة، عدا عن نشرها لقواتٍ عسكرية على الأراضي السورية. إضافةً إلى ما أضفاه الوجود الإيراني في سوريا والعراق من مرونةٍ على عمليات نقل الأسلحة النوعية والمتطورة إلى “حزب الله”، بل ودعمه لإنشاء بنى تحتية لإنتاج صواريخ دقيقة التصويب وبعيدة المدى في لبنان.
يمكن فهم خوف “إسرائيل” وقلقها من رؤية عدوها المركزي في المنطقة وهو يستعرض قوته العسكرية وقدراته الاستخبارية عبر هجومٍ على أصدقائها – وربما حلفائها – المستقبليين
كل تلك الأمور دقت نواقيس خطر مدوية في قلب المنظومة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، ما حذا بها لتصعيد سلوكها العملياتي والميداني لمواجهة هذا التحدي، تمثّل ذلك أحيانًا بقصفها لمنشآتٍ عسكرية ومدنية سورية وإيرانية، كان آخرها تدمير مجموعة من الطائرات المسيرة الإيرانية التي ادعت عزمها على تنفيذ هجمات على منشآت حيوية إسرائيلية. كما دأب جيش الاحتلال على استهداف شحنات أسلحة لمنع وصولها إلى لبنان، واستهداف عناصر وقيادات تابعة لـ “حزب الله” في سوريا، وإلى جانب ذلك كله كُثفت الجهود الاستخبارية الموجهة ضد الأراضي السورية والتشكيلات العسكرية النشطة عليها بمختلف أطيافها، كما عمل الاحتلال بشكلٍ مستمر وحثيث على تطوير منظومات وأسلحة دفاعية وهجومية.
في ضوء هذه الوضعية التي أفرزتها سنوات الحرب في سوريا، إلى جانب الإصرار الإيراني على عدم التخلي عن مشروعها النووي، يمكن فهم خوف “إسرائيل” وقلقها من رؤية عدوها المركزي في المنطقة وهو يستعرض قوته العسكرية وقدراته الاستخبارية عبر هجومٍ على أصدقائها – وربما حلفائها – المستقبليين، فكما أن ضربة أرامكو أبانت عن استعدادٍ إيراني للمخاطرة ورفع سقف التحدي في المنطقة والذهاب إلى أبعد مما يتوقع منها أعداؤها، فإنها كذلك كشفت ريبة إسرائيلية من تعاظم قدرات الإيرانيين العسكرية والتقنية لهذا الحد.
إن القدرة العالية التي أظهرتها إيران في ضربة أرامكو، وكذا في استهداف ناقلات النفط قبلها، بالمزج بين صواريخ متوسطة المدى وطائرات هجومية مسيرة، استحثت رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو للقول إن الأوضاع في المنطقة لم تعد كما كانت سابقًا مع تنامي القوة الإيرانية، وهو ما يستلزم اتخاذ قرارات إسرائيلية مقابلة بالتعاظم والتسلح وتزويد الجنود بأدوات دفاعية وهجومية غير مسبوقة من حيث القوة والنوعية، كان ذلك الحديث أمام أعضاء الكنيست في مراسم افتتاح دورته الجديدة.
لا شك أن حديث نتنياهو عن التهديدات المستجدة بهذه النبرة يحوي في طياته نوايا للضغط على بعض الأطراف الداخلية للانضمام إلى حكومة يرأسها
بوادر تحرّك
أولى بوادر التحرك الذي تحدث عنه نتنياهو، كان بالحديث عن عزمه الدفع باتجاه مشروع دفاع جوي جديد، يرمي إلى تحسين القدرات الإسرائيلية الدفاعية في التعامل مع صواريخ (كروز)، وجاء الحديث عن المشروع الذي تقدر تكلفته بمليارات الدولارات بعد اجتماع عاجل دعا له نتنياهو المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر للشؤون السياسية والأمنية، نُوقش فيه احتمالية وقوع هجمات إيرانية من العراق باستخدام صواريخ (كروز)، على غرار الهجوم الأخير ضد المنشآت النفطية السعودية في 14 من سبتمبر/أيلول الماضي.
لا شك أن حديث نتنياهو عن التهديدات المستجدة بهذه النبرة يضم في طياته نوايا للضغط على بعض الأطراف الداخلية للانضمام إلى حكومة يرأسها، ولكن لا ينفي ذلك جدية هذه التهديدات التي باح بها محللون صهاينة قبل نتنياهو، مشيرين أن التهديد الميداني لا ينحصر في تحدي صواريخ متوسطة وبعيدة المدى، بل بشكلٍ مماثل وربما أخطر تحدي الطائرات الهجومية المسيرة التي استخدمتها القوات الايرانية في هجماتٍ عدة خلال الفترة الماضية، مُظهرةً نجاعةً عالية في إصابة أهدافها وقدرة مميزة على مراوغة أجهزة الرادار والرصد عبر تحليق الطائرات في مستوياتٍ منخفضة، وهو ما حدث في ضربة أرامكو، حيث نجحت الطائرات والصواريخ المهاجمة في الإفلات من رادارات الاستكشاف السعودية والأمريكية المنتشرة على طول الحدود الشرقية للسعودية.
ولا يخفى أن الاحتلال يمتلك منظومات دفاعية عديدة – القبة الحديدية ومقلاع داود والباتريوت – ذات قدرة جيدة على تدمير الصواريخ والطائرات الهجومية في حال رصدها، لكن وإضافةً إلى التكلفة التشغيلية والتطويرية الباهظة لهذه المنظومات، فإن التخوف ينبع من الشك في نجاعة هذه المنظومات وقدرتها على رصد الصواريخ والطائرات في حالة اتخذت تكتيكات مراوغة أو أطلقت بكثافة عالية.
إن نجاح إحدى هذه الضربات ونفاذها يعني اختراقًا كبيرًا، خصوصًا مع معرفة أن جزءًا مهمًا من الخوف الاسرائيلي يأتي من إدراك طبيعة البنية التحتية للمنشآت المدنية والعسكرية الإستراتيجية في “إسرائيل” التي تمتاز بكونها قليلة الوفرة ومركزة في مناطق جغرافية بعينها مثل مطار بن غوريون ومحطة الطاقة في الخضيرة.
تحاول “إسرائيل” المضي قدمًا في جهود التطبيع مع الدولة العربية، وخصوصًا الخليجية منها، تحت مظلة المصلحة المشتركة في كبح النفوذ الإيراني في المنطقة
الخطوات الإسرائيلية لتدعيم منظومتها الدفاعية يحتاج بلا شك إلى نفقات مالية باهظة، أشار نتنياهو أنها نفقات لم تسجلها “إسرائيل” منذ حرب 1973، والأكيد أن هذا سيتطلب تقليصات في الميزانيات المدنية الأخرى مع زيادة الضرائب، وهو ما سيشكل بلا شك عبئًا على الاقتصاد الإسرائيلي.
شهدت الفترة الماضية تصاعدًا في التوتر الإيراني-الإسرائيلي وحدةً في الرسائل المباشرة وغير المباشرة الموجهة من كليهما التي لم يكن أولها تلك التي حملتها ضربة أرامكو، إذ سبقها توتر ميداني تجلى بقصفٍ إسرائيلي استهدف منشآت وأسلحة وعناصر إما إيرانية أو تابعة لها في كل من سوريا والعراق، وهو ما تلاه رد من “حزب الله” باستهداف آليةٍ عسكرية لجيش الاحتلال، هذا عدا عن المحاولات الإيرانية المتكررة لإطلاق طائرات مسيرة هجومية واستطلاعية باتجاه مناطق السيطرة الإسرائيلية، إضافةً إلى ما ورد خلال الأيام الماضية عن إحباط محاولة تشترك بها “إسرائيل” لاغتيال قاسم سليماني قائد فيلق القدس في الحرس الثوري. بيد أن كل ذلك التوتر لا يكفي للاعتقاد بأن رياح مواجهة مباشرة بين الطرفين قد تهب قريبًا.
مظلة المصلحة الأمنية المشتركة.. ملامح اتفاق جديد مع الخليج
من ناحيةٍ سياسية، تحاول “إسرائيل” المضي قدمًا في جهود التطبيع مع الدولة العربية، وخصوصًا الخليجية منها، تحت مظلة المصلحة المشتركة في كبح النفوذ الإيراني في المنطقة، وصلت هذه الجهود إلى تطوير مبادرة دبلوماسية لتوقيع معاهدات عدم اعتداء مع دول الخليج العربي.
المبادرة التي أعلنها وزير خارجية الاحتلال يسرائيل كاتس خلال الأسبوع الحاليّ، جرى تقديمها إلى عددٍ من وزراء الخارجية العرب على هامش دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة الأسبوع الفائت، وجرى الاتفاق على إقامة لجان مشتركة لبحث المبادرة الإسرائيلية التي قالت صحف عبرية إنها تتضمن بنودًا رئيسة تقضي بتطوير الصداقات والتعاون بين الجانبين بموجب ميثاق الأمم المتحدة ومبادئ القانون الدولي، واتخاذ خطوات ضرورية وفعالة لضمان عدم انطلاق نشاطات أو تهديدات قتالية وعداء وتآمر وعنف أو تحريض ضد أي طرف، إضافةً إلى الامتناع عن الانضمام أو مساعدة ائتلاف ومنظمة أو تحالف ذي طبيعة عسكرية أو أمنية مع طرف ثالث.
يعكس اللجوء إلى المعاهدات الجزئية والمحدودة صعوبة ذهاب الدول الخليجية لتوقيع اتفاقات سلام كاملة مع الاحتلال الإسرائيلي في المنظور القريب، وخصوصًا في ظل حالة الموات التي تمر بها المفاوضات الإسرائيلية-الفلسطينية، والرفض الشعبي المستمر لهذه الاتفاقات. إلا أنه، كما توضح لنا قراءة السلوك الإسرائيلي عبر التاريخ، فالخطر يكمن كذلك في هذا التدرّج الذي تتخذه “إسرائيل” كإستراتيجية مدروسة لتحقيق أهدافها ببطء ثابت وإن استهلك ذلك وقتًا أطول.