من أكثر القضايا التي تؤرق السودانيين بعد إزاحة نظام عمر البشير من السلطة، قضية المليشيات المسلحة بشقيها الحكومي والمعارض. ذلك نظرًا لأن 80% من ميزانية حكومة السودان في العهد البائد كانت تذهب للإنفاق العسكري والأمني، إذ كان القتال يدور في معظم أطراف البلاد بين الحكومة والمتمردين، مما أدى إلى تدهور البنية التحتية والتردّي الاقتصادي خصوصًا أن الإنفاق العسكري الكبير كان يترافق مع فساد أركان ورموز النظام البائد من القيادة إلى القمة.
الاتفاق لم يعالج وضعية المليشيات
بعد سقوط نظام البشير كان من المأمول أن تنتهي قضية المليشيات ومظاهر التسلح خارج إطار الدولة بشكلٍ نهائي، فحتى الحركات المسلحة المنضوية تحت مظلة “الجبهة الثورية” التزمت بالسلمية ووقف العمليات العسكرية طيلة أشهر الثورة السلمية، حتى لا تشوّش على الانتفاضة ولا تمنح النظام البائد ذريعةً للقول إن الثورة يرافقها إسناد عسكري من الحركات المسلحة وبذلك تكون لديه فرصةٌ لسحق الثوار بعنفٍ أكثر مما حدث فعليًا.
الاعتراف بمليشيا الجنجويد وتضمينها في وثيقة الاتفاق النهائي خطيئة لا تغتفر للوفد المفاوض من قوى الحرية والتغيير
ولكن ذلك الحلم أصبح بعيد المنال، فالاتفاق الدستوري الذي تم التوصل إليه بين قوى الحرية والتغيير التي كانت تقود الحراك مع المجلس العسكري المحلول، تحدّث عن إعطاء الأولوية لتحقيق السلام لكنّ الحركات المسلحة نفسها غابت عن الاتفاق وتحفظّت عليه، هذا شيء أما الشيء الآخر الأكثر مرارةً فهو احتفاظ مليشيا الجنجويد ذات السمعة السيئة التي تُعرف باسم “قوات الدعم السريع” بوضعيتها الخاصة وفقًا للاتفاق النهائي، فيما كان السودانيون ينتظرون حلّها أو على الأقل دمج جزء منها في الجيش بعد استبعاد العناصر السيئة التي تورطت في مجزرة القيادة العامة بكل ما حدث فيها من قتلٍ وتعذيبٍ وانتهاكاتٍ مريعة وصلت إلى حد الاغتصاب، تم الاعتراف بها رسميًا كقوة نظامية مضمنة في الوثيقة الدستورية.
أحداث تلودي وكالوقي.. نموذج لخطورة الجنجويد
إن الاعتراف بمليشيا الجنجويد وتضمينها في وثيقة الاتفاق النهائي خطيئة لا تغتفر للوفد المفاوض من قوى الحرية والتغيير، فمجرد توقيع الاتفاق جعل أمر محاسبتها مهمةً عسيرةً للغاية إن لم تكن مستحيلة، فقد أصبحت تستمد قوتها من شخص قائدها محمد حمدان دقلو “حميدتي” الذي يحظى بنفوذٍ واسعٍ داخل المجلس السيادي الانتقالي، ويمتلك أصولًا اقتصاديةً ضخمة تتمثل في شركات تعدين تستخرج الذهب من منطقة جبل عامر إضافةً إلى مناطق جبال النوبة، وللأسف فإن الشركات المملوكة والممولة للدعم السريع مثل شركة الجنيد أصبحت تحظى بحماية من أكثر شخصية لديها نفوذ ومركز قوى في السودان تتفوق على سلطة رئيس المجلس السيادي نفسه الفريق أول عبد الفتاح البرهان.
وما الأحداث المؤسفة التي تشهدها مدينتا تلودي وكالوقي الواقعتان في ولاية جنوب كردفان إلا خير شاهدٍ على مدى تغول هذه المليشيا واستباحتها للمنطقة من أجل التنقيب عن الذهب باستخدام مادة السيانيد الخطيرة مما أدى إلى حدوث تشوهات للأطفال حديثي الولادة، ونفوق عدد كبير من الحيوانات بالقرب من منطقة التعدين التي تمتد على مساحة شاسعة في المنطقة.
هذه المضاعفات دفعت أهالي المدينتين والمناطق المجاورة إلى تنفيذ اعتصامات وتظاهرات للمطالبة بوقف استخدام المادة الخطيرة، استمر الاعتصام لفترة طويلة من دون أن يجد استجابة من الشركات التي كانت تحميها مليشيا الجنجويد نفسها، وعندئذٍ ارتفع سقف المطالب من وقف استخدام السيانيد والزئبق إلى المطالبة بطرد الشركات وإخراجها من المنطقة بشكل كامل، ولكن التجاهل استمر، فأشعل محتجون غاضبون النار في 3 مصانع للتعدين مما أدى إلى حرقها بشكل كامل، إلى جانب عدة سيارات وآليات، وحرق مخزون مواد تصنيعية، ومقتل جندي وإصابة 4 آخرين بجروح خطيرة، بحسب بيان المجلس السيادي.
كانت نواة الجنجويد مؤلفة من رعاة الإبل من عشيرتي المحاميد والماهرية من قبائل الرزيقات في شمال دارفور والمناطق المتاخمة لها في تشاد
ويبدو أن مليشيا الدعم السريع استفادت من الدروس السابقة فلم تطلق النار مباشرة على المحتجين، بتوجيهات من قائدها حميدتي الذي يحاول تحسين صورته أمام الرأي العام السوداني، ولكن بعد ذلك بيومين قامت المليشيا باستباحة المنطقة للانتقام ممن ترى أنهم حرضوا المحتجين أو أشعلوا النيران في المصانع.
قصة تأسيس الجنجويد
للتعرف على قصة مليشيا الجنجويد مع الذهب كإحدى الدلائل على تغولها واستيلائها على موارد السودان الطبيعية يجدر بنا أن نقدم الخلفية الآتية:
كانت نواة الجنجويد مؤلفة من رعاة الإبل من عشيرتي المحاميد والماهرية من قبائل الرزيقات في شمال دارفور والمناطق المتاخمة لها في تشاد، وخلال حرب ومذابح دارفور بين عامي 2003-2005، كان قائد الجنجويد الأكثر شهرة هو موسى هلال، زعيم عشيرة المحاميد، وعندما أثبت هؤلاء المقاتلون دمويتهم، أضفى البشير الطابع الرسمي عليهم في قوة شبه عسكرية أطلق عليها اسم وحدات الاستخبارات الحدودية.
البشير كان متخوفًا من وضع السلطة في أيدي الجيش وجهاز الأمن والمخابرات الوطني، بعد أن طرد مديره للتو بتهمة التآمر ضده، لذا، أصبحت قوات “الدعم السريع” مسؤولة أمام البشير نفسه
وكان من بين أعضاء هذا اللواء، الذي ينشط في جنوب دارفور بحسب تحقيق للبي بي سي، مقاتل شاب يتمتع بحيويةٍ مميزة، محمد دقلو، المعروف باسم “حميدتي” لتمتعه بملامح طفولية، وهو مصطلح تستخدمه الأم عادة كناية عن “محمد الصغير“، وحميدتي هو ابن عم موسى هلال لكنه غدر به لاحقًا، حيث قام البشير ورجاله بتقريب حميدتي وتهميش موسى هلال وفي عام 2013، تم تشكيل قوة شبه عسكرية جديدة تحت قيادة دقلو وسميت قوات “الدعم السريع”، وكان الهدف من ذلك تقنين وضع المليشيا ومحاولة غسل سمعتها السيئة.
لكن ذلك القرار لم يعجب رئيس أركان الجيش الأسبق عماد عدوي الذي رأى أن تشكيل هذه المليشيا يشكل تهديدًا للقوات المسلحة والأجهزة النظامية الأخرى، إلا أن البشير كان متخوفًا من وضع السلطة في أيدي الجيش وجهاز الأمن والمخابرات الوطني، بعد أن طرد مديره للتو بتهمة التآمر ضده، لذا، أصبحت قوات “الدعم السريع” مسؤولة أمام البشير نفسه، وقد أعطى البشير لحميدتي لقب “حمايتي”، بمعنى “الذي يحميني”، إذ كان يعتقد أنه ضمن لنفسه النجاة من أي محاولة انقلابية أو تهديد يمس حكمه، بل ذهب إلى أبعد من ذلك وأخذ يتبتخر مزهوًا في يومٍ من الأيام قائلًا إنه يملك مخزونًا إستراتيجيًا لا يملكه أي رئيس آخر “يقصد الدعم السريع”، ولم يكن يدري أن المليشيا التي كونها خصيصًا لحمايته وكان يباهي بها سيأتي يوم من الأيام وتنقلب عليه وتعزله!
شركة الجنيد.. الذراع الاقتصادية لحميدتي
أما قصة شركة الجنيد التي تتاجر في الذهب فتلك حكاية أخرى، تعود إلى العام 2012، عندما اكتُشف الذهب في جبل عامر في ولاية شمال دارفور حينها اشتد التنافس بين حميدتي وموسى هلال، إذ توافد عشرات الآلاف من الشباب على تلك المنطقة النائية من دارفور لتجربة حظهم في مناجم ضحلة بمعدات بدائية، وقد وجد بعضهم ذهبًا وأصبح ثريًا، بينما سقط بعضهم في المناجم بسبب انهيارات التربة أو تسمموا بالزئبق والزرنيخ المستخدم في معالجة قطع الذهب المستخرجة.
بحلول عام 2017، بلغت مبيعات الذهب 40% من صادرات السودان، وكان حميدتي متلهفًا للسيطرة عليها
نما خبر وجود الذهب في جبل عامر إلى مسامع موسى هلال، فاستولى رجاله بالقوة على المنطقة، وقتلوا أكثر من 800 شخص، وباتوا أثرياءً عن طريق تعدين الذهب وبيعه للحكومة التي دفعت أعلى من سعر السوق بالأموال السودانية لأنها كانت متلهفة للحصول على الذهب الذي يمكن بيعه في دبي مقابل العملة الصعبة.
وبحلول عام 2017، بلغت مبيعات الذهب 40% من صادرات السودان، وكان حميدتي متلهفًا للسيطرة عليها، ففي ذلك الوقت كان يمتلك بالفعل بعض المناجم وأنشأ شركة تجارية تعرف باسم الجنيد، ولكن عندما تحدى هلال الرئيس البشير، ومنع الحكومة من الوصول إلى مناجم جبل عامر، شنت قوات حميدتي هجومًا مضادًا انتصر فيه الأخير وقامت قواته باعتقال ابن عمه موسى هلال في أواخر نوفمبر 2017، ومنذ ذلك التاريخ استولت قوات الدعم السريع على مناجم الذهب الأكثر ربحية لنفسها بدلًا من أن تسلمها لحكومة السودان!
مخاوف من مجزرة جديدة وإنشاء مطارات حربية
الاستيلاء على مناجم جبل عامر التي تنتج ذهبًا بملايين الدولارات سنويًا تأخذه مليشيا الجنجويد لحسابها، فتح شهية حميدتي للتنقيب عن الذهب في مناطق أخرى بولايات دارفور وكردفان ومنها مدن تلودي وكالوقي التي شهدت الكارثة الأخيرة، ولا تزال المخاوف موجودة من وقوع مجزرة جديدة قد ترتكبها المليشيا غير المنضبطة، فقد قال شهود إن 28 مركبة عسكرية مزودة بالدوشكا وصلت تلودي وتقولة وكالوقي الساعات الماضية، وعبّر الشهود عن خشيتهم من حملات انتقامية لهذه القوات المثيرة للجدل بحق الآلاف من سكان المدينة.
يرى مراقبون أن الحركات المسلحة لا تشكل خطرًا داهمًا على استقرار السودان وأمنه كما مليشيا الجنجويد
وفقًا لمصادر موقع “صوت الهامش” فإن مليشيا الدعم السريع تكمل استعداداتها لإنشاء مطار حربي في منطقة “زرق” يفترض أن يبدأ تنفيذه قبل نهاية العام الحاليّ، وتذهب مصادر أخرى إلى أنه تم إخلاء مبنى وزارة الدفاع وتسليمه إلى الدعم السريع، وترحيل قوات الجيش التي في المبنى إلى منطقة سوبا، مما يعزز المخاوف بأن مخطط تفكيك الجيش السوداني لصالح مليشيا حميدتي أصبح واقعًا لا تكهنات.
مستقبل المليشيات في السودان
يرى مراقبون أن الحركات المسلحة لا تشكل خطرًا داهمًا على استقرار السودان وأمنه كما مليشيا الجنجويد، ذلك أن قادة الحركات يمكن السيطرة عليهم وإدماج قواتهم كما حدث من قبل في اتفاق الترتيبات الأمنية الموقع مع حكومة البشير ضمن اتفاق السلام الشامل الذي تم توقيعه في العام 2003 بضاحية نيفاشا الكينية.
هذا إلى جانب أن الحركات المتمردة الحاليّة التزمت بوقف إطلاق النار طيلة أشهر الثورة، كما يحفظ التاريخ لحركة العدل والمساواة أنها عندما دخلت الخرطوم في العام 2008 لم تتعرض إلى المواطنين بسوء، بل كان هدفها فقط الوصول إلى قصر الحكم.
يمكن القول إن القوات التي تقاتل باسم الحركات المسلحة لا تشكل خطورةً على مستقبل السودان رغم عدم وجود اتفاق بشأنها حتى الآن
وفي الجانب المقابل، كان سجل مليشيا الجنجويد مروعًا من دارفور إلى كردفان إلى كسلا ونهر النيل وغيرها، وبالتأكيد إن بقيت المليشيا لن تكون مجزرة القيادة العامة هي الأخيرة، إذ أكد الناجون من المذبحة أنها نفذت بواسطة مليشيا الجنجويد التي يعرفونها من أفرادها وأسلوبهم وطريقة تعاملهم، وعضّد من ذلك التحقيق الاستقصائي الذي أجرته بي بي سي أفريكا وأثبت أن أوامر فض الاعتصام صدرت من حميدتي مباشرة الذي حاول الإنكار بعدما رأى حجم التفاعل العالمي مع المذبحة والكراهية التي اكتسبها من عامة السودانيين، لكنه وقع في زلة لسان عندما قال في مقابلة تليفزيونية: “الاعتصام لو ما فضيناه” قبل أن يستدرك “لو ما فضوه”.
عليه، يمكن القول إن القوات التي تقاتل باسم الحركات المسلحة لا تشكل خطورةً على مستقبل السودان رغم عدم وجود اتفاق بشأنها حتى الآن، إلا أن المشكلة تكمن في مليشيا الجنجويد التي اعترفت بها قوى الحرية والتغيير في الاتفاق الدستوري الأخير، رغم أنها قوة لا تعرف الانضباط وليست مدربة على التعامل مع المدنيين، بخلاف تورطها في المذابح التي سبق ذكرها.
أكبر خطر يهدد السودان والتحول الديمقراطي
وفي هذا الإطار تحدث إلى “نون بوست”، الخبير أحمد سالم الذي علّق بقوله “الدعم السريع أو الجنجويد، ظاهرة أمنية خطيرة كانت تشكل تهديدًا أمنيًا في الماضي للآمنين في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، وتطيل عمر النظام البائد على حساب السودان وأهل السودان.. حميدتى ظاهرة أمنية تشكل خطرًا على الوضع الراهن له وجود في كل المرافق الحيوية بالعاصمة الخرطوم مما يشكل احتلالاً كاملاً بما في ذلك القيادة العامة، وله وجود في كل ولايات السودان بما يعنى أن السودان الآن تحت الاحتلال الجنجويدي”.
ربما يكون الأمل الوحيد في إنهاء سطوة الجنجويد وسيطرتهم على السودان هو المجلس التشريعي الانتقالي القادم الذي يفترض أن يتم تشكيله خلال شهرين من الآن
ويمضي سالم بقوله: “هذه أكبر عقبة تقابل قوى الحرية والتغيير، وحكومة حمدوك الآن، إذ لا يمكن اتخاذ أو تبنى أي سياسة تهدد مكاسب حميدتى أبدًا.. تقدر موارده المالية السنوية بنحو 2.5 مليار دولار مما يعني نصف ميزانية جمهورية السودان.. كيف يمكن أن يتخلى بسهولة عن هذه الثروة وهو يملك القوة العسكرية التي تحميه؟”، وبشأن مستقبل السودان والتحول الديمقراطي المنشود يرسم أحمد سالم صورةً قاتمة حين يقول: “أكبر عقبة ستكون أمام التحول الديمقراطي بعد نهاية الفترة الانتقالية، وأي مكون سياسي يحاول تخطى حميدتى في تشكيل الحكم سيكون خاسرًا.. نبهنا لذلك منذ أكثر من خمسة أشهر ولكن لا حياة لمن تنادي”.
ربما يكون الأمل الوحيد في إنهاء سطوة الجنجويد وسيطرتهم على السودان هو المجلس التشريعي الانتقالي القادم الذي يفترض أن يتم تشكيله خلال شهرين من الآن، نعم هو أمل ضعيف جدًا لأن قوى الحرية والتغيير حتى الآن راضخة ومستكينة تمامًا لقائد الدعم السريع، ولكنه الأمل شبه الوحيد إذ إنه من غير الوارد حاليًّا أن يقوم الجيش السوداني بالانتفاض للثأر من كرامته المهدورة بعد تهميشه لصالح الجنجويد في ظل استسلام القادة الحاليين للوافد الدخيل الذي حصل على رتبة “فريق أول” في غفلةٍ من الزمان!
وهناك أيضًا بصيص أمل في الشعب السوداني الذي خرج من قبل في الـ19 من ديسمبر/كانون الأول الماضي ضد نظام البشير حتى أطاح به بعد أربعة أشهر من الثورة المتواصلة، فلا نستبعد في يوم من الأيام أن يخرج للمطالبة برحيل مليشيا الدعم السريع، وحينها لن يجد قائدها الذي يسعى إلى تلميع نفسه إلا الاستسلام لرغبة الشعب، فلو كانت القوة الباطشة تنفع وتحمي لكانت قد نفعت البشير من قبل.