“الحرية مطلب هالناس، حمص ودرعا وبانياس”.
غنّت سوريا بذلك سنين عجافًا حتى نال أهل بانياس مطلبهم، فاذهب وزر، فهناك الخضرة والماء والوجه الحسن واللهجة الحلوة. وأنت تدخلها، اسأل أيًّا من سكانها عن دكان يحيى الترك، يعرفه الصغار قبل الكبار.
هكذا هي بانياس، غرفتان وصالة، يعرف الكلُّ فيها الكلَّ.
يعرف الكلّ أيضًا أن يحيى وُلِد مرتين، يوم ولدته أمه ويوم خرج من سجن تدمر، وربما وُلِد ككل السوريين للمرة الثالثة حين سقط نظام الأسد.
حين انطلقت الثورة قبل أربعة عشر عامًا، لم يكن كثير من السوريين يعرفون أين تقع بانياس على الخريطة، وحين تصدّرت عناوين الأخبار في تغطية القنوات الإخبارية للثورة السورية، دهش أهل بانياس حين رأوا مدينتهم في بث مباشر على الهواء قبل أي مدينة سورية.
كيف انطلق صوت المدينة الوديعة ليكون ثورة يسمعها العالم؟ كيف حدثت الانتفاضة في بانياس؟ وكيف وصل صوتها قبل غيرها من المدن الثائرة، وهي القابعة في حضن التاريخ على ساحل البحر الأبيض المتوسط؟
في هذا التقرير، أحاول استرجاع ملامح الثورة السلمية في بانياس وجانبًا من العمل الإعلامي فيها، أرصد أول ثلاثة أشهر من الحراك بتسجيل شهادة أربعة من أهلها: الشيخ يحيى الترك، والشيخ أنس عيروط، والشاب عبدالرحيم درويشة، والسيدة رندة حج علي، وأعرّج على ذكريات الثمانينات فيها، حين قدّمت، ككل سوريا، ضريبة حكم حافظ الأسد.
تحدث مع الشيخ يحيى الترك أولًا تكريمًا للمحاربين القدامى في النضال ضد نظام الأسد، وأسبر من خلاله أغوار أبطال تدمر من بانياس عن الثورة التي انتزعت حقهم وقصاصهم من النظام، عن لحظة النصر.
قال لي: “كان شعورًا غريبًا، كنت من المؤمنين بأن الظلم مُؤذِن بخراب العمران، لكن لم أكن أعرف كيف. حين بدأت عمليات ردع العدوان، لم نحلم كثيرًا في بانياس، تأمّلنا أن تكون حركة ضغط على النظام، وحين دخلوا حماة، تغيّر كل شيء. لكن بقي فينا خوف من أن يهرب جميع العلويين إلى الساحل ويتمركزوا فيه، في أرضنا.”
سألته: كيف كانت الليلة؟
ضحك يحيى وقال: “أنا شخص أنام باكرًا وأستيقظ لأصلّي الفجر في الجامع، لا بد أن اسمي كان في سجل المخابرات في إضبارة المصلين فجرًا، إضافة إلى معتقلي تدمر. قبل نومي، سمعنا أصوات حوامات في السماء تتجه إلى مطار حميميم، قلت لبناتي: هذا هو الخبر العاجل الذي قرأناه قبل قليل عن إقلاع طائرات من دمشق إلى الساحل. وحين استيقظت للفجر، كانت ابنتي بتول تصرخ: “بابا، سقط النظام!”
ذهبت إلى الجامع، جرت العادة أن نصلي فيه صفين أو ثلاثة، كان ممتلئًا عن بكرة أبيه، والناس تبتسم وتهنئ بعضها، وحين سلم الإمام، كبّرنا تكبيرات العيد.. لقد كان عيدًا!”
عاجل: مظاهرات في مدن درعا ودمشق وبانياس
حين سقط النظام، ذهب أهل بانياس إلى جامع الرحمن، إلى المكان الذي بدأ منه كل شيء، ما قام به أهل البلد يومها كان معجزة صغيرة تتمطّى لتكبر وتخرج إلى الدنيا. مدينة صغيرة معظم سكانها من السنّة، يحيط بها حزام من القرى العلوية، على الساحل الذي كان يظنه الأسد حاضنته، خرج آلاف من سكانها في 18 آذار/ مارس عام 2011 ينادون: الله، سورية، حرية وبس.
طلبت من يحيى أن يعود بالزمن إلى الجامع ذاته، ليصف لي أول لحظات الثورة، يوم 18 آذار/مارس 2011، فقال: “كنا في جامع الرحمن، وكان الجامع مكتظًّا على غير العادة. كنت ما زلت أصلّي السنة بعد خطبة تحدث فيها الشيخ أنس عيروط عن تسونامي اليابان الذي ضرب الحجر والشجر، وتسونامي آخر ضرب الطغاة، بدأ من مصر ولا يعرف أحد أين سيقف. قبل أن أخرج، سمعت صوت شاب يصرخ: الله أكبر، ثم توالت الهتافات. كانت لحظة عفوية ينتظرها الناس، كانت بانياس محتقنة، كان الربيع العربي حاضرًا.”
سألته: هل ظننت أنها تهور؟ المظاهرات أعني.
قال: “لا، أبدًا، ليس تهورًا، بل كان طبيعيًّا. لكن ربما لو أُطْلِع الناس على الغيب، ما كانوا خرجوا، لأنهم لم يعرفوا إجرام النظام. حتى أنا، وقد خبرته، ما كنت أتصور يومًا من الأيام أن يصير إلى هذا الخراب.
لكن بانياس خرجت، أنا أعتبر أن بانياس هي الشرارة الثانية، وهي الوقود الذي زاد اللهب. لقد رأت سوريا كيف خرجت المظاهرات من قلب الساحل. كان رجال الأمن في بانياس يحملوننا وزر استمرار الثورة، فهو يرى أن خروج بانياس جرّأ الكثيرين.”
أنس عيروط.. أمير الإمارة السلفية في بانياس!
لا يمكن لذكر الثورة في بانياس أن يحضر دون ذكر الأنَسَيْن، أنس عيروط وأنس الشغري. استشهد الشغري تحت التعذيب في سجون الأسد، ورثته بانياس، وتحدثنا مع الشيخ أنس عيروط.
وقف الشيخ أنس موقفًا شجاعًا عجز عنه آلاف المشايخ، إذ خرج باسمه الحقيقي على وسائل الإعلام متحديًا سردية النظام عن إرهابيين ومندسين أجانب يعيثون في سوريا فسادًا. بصوته ولهجته البانياسية المميزة، تحدثت معه مطوّلًا، أريد أن أعرف كيف اشتعلت شرارة الثورة.
قال: “انطلاق الثورة في بانياس بدأ يتخمر بعد خطبة الجمعة في 11 آذار/ مارس 2011، يومها كتبتُ خطبة تطالب بالإصلاح والتغيير، كانت تونس ومصر حاضرتين في الأذهان، تحمّس الناس جدًّا بعد الخطبة، وبعد الصلاة جاء الشباب يثبّتونني، ويطالبونني بعدم التراجع.”
سألته: من تذكر من هؤلاء الشجعان؟
قال: “أذكر منهم أيمن عبدالعال، وقد استشهد في المناطق المحررة لاحقًا، وعلي جركس، والأخوين عبدالحميد وياسر رخامية، وشبابًا جامعيًّا: مصطفى عيروط وعبدالرحيم درويشة، وغيرهم كثر.”
بين الجمعتين، جاءني الشهيد حامد عرابي يحدثني عن رغبتهم في التظاهر يوم 15 آذار/ مارس لدعم أطفال درعا، ضمن حراك ينادي به الشباب في كل أنحاء سوريا. لكني نصحتهم بالتريث كي لا نكون لقمة سائغة للنظام بعدد قليل. كنت أضمر في نفسي أن التظاهر يوم الجمعة سيكون أفضل، رغم أنه لا تصور واضح في ذهني عن كيفية فعل ذلك.
قلت لحامد: دعها تكن ربانية دون ترتيب، لنرى ماذا سيحدث. وما إن وصل الجمعة التالي في 18 آذار/ مارس، إلا وكان الجامع قد امتلأ عن بكرة أبيه، كما لم يحدث قبلاً. أعتقد أن جل أهل بانياس كانوا فيه يومها، وفي ذلك اليوم تعرفت على أنس الشغري، رحمه الله.
جميع الأشخاص الذين تحدثت معهم من بانياس ذكروا أنس الشغري، سوريا بأكملها كانت قد سمعت باسم الشاب العشريني الذي ظهر باسمه الحقيقي كأحد قادة الحراك السلمي في بانياس. كانت شجاعته منقطعة النظير، خرج على القنوات ليرد على ادعاءات النظام بوجود عصابات إرهابية. اعتقله النظام في شهر أيار/ مايو بعد اقتحام المدينة إثر كمين غادر، ثم اختفى دون أثر حتى كتابتي لهذه الكلمات.
سألت الشيخ أنس: من أطلق الصرخة الأولى؟
قال: “وقف أنس الشغري على طرف نافذة الجامع، ونادى في الناس للثورة، وكبّر، وكبّر الشباب خلفه. كانت مظاهرة عفوية هتف فيها الشباب: الله، سورية، حرية، وطافت حتى وصلت إلى مركز الأمن. وهناك، طلب مني رئيس الأمن في اجتماع مصغر أن أنهي التجمع، فهو يدرك أن الجموع لن تتحرك لتحصل على شيء يطفئ غضبها.
على شرفة المركز، وقفت وألقيت مطالبنا. طالبنا برفع حالة الطوارئ، وإطلاق سراح المعتقلين، وعودة المغتربين، ومطالب أخرى خاصة ببانياس، كان مجموعها كلها عشرة.
صلى الناس العصر، وفُضّت المظاهرة بعد أن قلنا إن النظام تعهد بتلبية المطالب. وفي ذات اليوم، بدأت وفود من النظام ومن الناس تأتيني. أذكر أن هناك وفدًا جاءني من طرف ماهر الأسد، ومن محافظ طرطوس.”
سألته: ماذا أرادوا؟
قال الشيخ: “كل ما كانوا يريدونه هو إخماد المظاهرات، وهو ما لم يحصل.”

استمرت بانياس بالتظاهر خلال أيام الأسبوع بمظاهرات صغيرة وسريعة، وخلال شهرين، كانت بانياس عَلَمًا على نار في أخبار الثورة السورية. كانت رواية النظام عن ما يحدث سخيفة، لكنه كان يعمل بمبدأ: استمر بالكذب حتى يصدقك الآخرون.
تناقلت وسائل الإعلام الموالية له، وردد رجاله على الفضائيات أن هناك عصابات مسلحة تنشط في بانياس، وجماعات سلفية تعمل على إقامة إمارة فيها تحت قيادة الشيخ أنس عيروط، وتتلقى دعمًا من إسرائيل وقطر وبندر بن سلطان. رأى أهل بانياس في وقتها الاتهامات نكتة سمجة، وكان النظام يعرف ذلك تمامًا، فلم يكن يناقشها أو يتكلم بها حين يجتمع ممثلوه مع الأهالي، كانت فقط للتصدير الخارجي الإعلامي.
أكد لي الشيخ أنس أنهم كانوا يقرون بوجود مظاهرات يقودها شباب بانياس دون أي تدخل من أحد، ويطالبون بكل وضوح وصفاقة بأنها يجب أن تتوقف، ويطلبون منه أن يضغط على الشباب حتى يتراجعوا.
أبو محمود.. وزير الإعلام في الإمارة السلفية!
كان شباب بانياس قد أحرقوا السفن، لكن النظام لم يدرك بعد، أردت أن أعرف كيف وصل صوت بانياس إلى الإعلام سريعًا، ومن ساهم في تصدّرها للمشهد الثوري في أول أسابيع الثورة. تحدثت مع عبدالرحيم درويشة، أحد شباب جامع الرحمن، الذي اعتقله النظام في أيار/ مايو من عام 2011، واتهمه بشغل منصب وزير الإعلام في الإمارة السلفية في بانياس، ولخروجه على وسائل الإعلام بصفته شاهد العيان “أبو محمود”.
سألته: متى عرفت أنك وزير الإعلام في الإمارة السلفية؟
ضحك وقال: “في المعتقل، وضع المحقق يده على كتفي وقال: أنت وزير الإعلام، ماهيك؟! كنت سأضحك، ثم أحجمت بسبب لهجته الجادة وسؤاله الحاد. كان مقتنعًا تمامًا بما يقوله.”
قلت: لنعد إلى البداية وحتى وصولك إلى هذا المنصب.
قال: “بعد خطبة الشيخ أنس يوم 11 آذار/ مارس، راودتني فكرة: إن خرجت المظاهرات سأصورها، فقد تفاعل الناس مع الشيخ أنس. كنت أعرف أن شيئًا ما سيحدث، لكن السؤال كان: كيف سيحدث؟ بعد الصلاة في 18 آذار/ مارس، كنت ما زلت في الطابق السفلي في الجامع، جاء أحد الأصدقاء راكضًا وقال: عبدالرحيم، ألحق، علقت.”
سرت مع المظاهرة أرصد وجوه الناس، كانوا متفاجئين من أنفسهم، بعضهم كان يبكي وهو يهتف. وحين صلينا العصر وتلا الشيخ أنس مطالب الناس وبدأت المظاهرة تنفض، اقتربت من أنس الشغري وسألته: ما اسمك؟ قال: أنس. قلت له: لاقيني في الجامع غدًا، وهو ما كان.
خلال الأسبوع، كنا نتابع الأخبار من سوريا ونناقش الخطوة التالية، كنت مع مجموعة في الجامع نحاول أن نتروّى، حتى نرى إلى أين تسير الأمور، وماذا ستفعل بقية المحافظات؟ بالنهاية نريدها ثورة عامة، كانت روح الثورة موجودة والاحتقان شديدًا، فقد اقتحم النظام الجامع العمري في درعا في ذاك الأسبوع.
بعد الصلاة في الجمعة الثانية من الثورة، الموافقة لـ 25 آذار/ مارس، بعد انتهاء الصلاة، لم يغادر أحد من المصلّين. وقفت الناس في الشارع تنتظر، ثم بدأت التكبير. وحين حاولنا أن نهدأ قليلًا لتصلنا الأخبار من المحافظات والمدن الأخرى، لم يستجب الشباب، وكان جوابهم حاضرًا: ودرعا؟ وشهداء درعا؟ هل نتفرج عليهم فقط؟
برأيي الشخصي، كان يومها جواب الشباب مقنعًا وعفويًا ومنطقيًا أكثر من كل حالات التعقّل التي حاولناها. كان الجواب بديهيًا: لماذا نتوقف؟ ودرعا مستمرة؟ وتموت؟ انطلقت المظاهرة إلى أسميناها “ساحة السنتر”.
وبما أن المظاهرة انطلقت، فدعها تكن مظاهرة تستحق. انطلقت مسرعًا مع صديق لي يُدعى أبو عدي أحمد لولو، وجلبنا أعلامًا كنا حضرناها سابقًا، وانطلقنا في شوارع بانياس. أعتقد أنه كان مشهدًا هو الأول من نوعه لم يره أحد من قبل، كانت الأعلام تشير بوضوح أننا في الطريق إلى التظاهر، ومررنا أمام أمن الدولة وهم يتفرجون!
في ذلك اليوم، رددنا على النظام، فقد كذّب مظاهرة الجمعة الماضية، فسجلت مقطعًا أعتقد أنه بُثّ على قناة بي بي سي. أمسكت هاتفي لأوثق، وقلت: بانياس، خمسة وعشرين ثلاثة ألفين وإحدى عشر. أحسب أني أول من وثّق بالصوت تاريخ التظاهر للرد على ادعاء النظام، وبعد هذه المظاهرة، أصبح التظاهر روتينًا أسبوعيًا وربما يوميًا.
نيسان والربيع والشهداء والنساء
على صوت المظاهرات ومع سقوط الشهداء في عموم سوريا، بان البَين بين النظام والشعب، وأصبح شعار “إسقاط النظام” على لسان المظاهرات في سوريا، بما فيها بانياس. وحاول الشباب إقامة اعتصامات في مطلع شهر نيسان/ أبريل، وكان النظام يرسل وساطات لتخفيف حدة الاحتقان بين الأهالي، ولسبب ما حافظ على سلمية المواجهة وبيّت ليلًا للغدر بأهل المدينة.
في الجمعة الثالثة، التي جاءت وشهر نيسان/ أبريل معًا، تظاهرت سوريا تحت اسم “جمعة الشهداء”، وفي تلك الجمعة، قالت نساء بانياس كلمتهن الأولى وشاركن في التظاهرة، ثم تصاعد دورهن حتى بات أساسيًا ضمن الحراك في المدينة.
بعد عشرة أيام من شهر نيسان/ أبريل، فتحت سيارات الأمن والشبيحة النار على المصلين أثناء خروجهم من صلاة الفجر، وأصابتهم بالرصاص الحي. طارد بعض الشباب السيارات حتى أدركوا سيارة فأحرقوها، وبقيت أيقونة في بانياس، وانتشرت صورتها في الوسط الإعلامي بعد أن كتب عليها الشباب: “انتبه، أنت في بانياس لا في إسرائيل”.
أدرك أهل بانياس لاحقًا أن الهجوم السريع كان مقدمة لفخ أكبر، تكشّفت تفاصيله لاحقًا. أحضر النظام كتيبة من جيش الخدمة يزيد عدد أفرادها على ستين شخصًا، ووزّعهم على الطرف الشرقي للجسر الرئيسي الذي يمر في المدينة، وأخبرهم أن هناك عصابات مسلحة في المدينة، وعليهم اتخاذ موقف دفاع تحسبًا لهجوم محتمل. ثم وزّع بعضًا من القناصة على الطرف المقابل، وشرع بإطلاق النار على الكتيبة التي أحضرها، والتي قامت بدورها بإطلاق النار باتجاه المدينة، ووجد أهل بانياس أنفسهم في مرمى النار.
بكلماته، وصف الشيخ أنس الحدث: “أحضر النظام عساكر من التجنيد الإجباري، ووضعهم على الطرف العلوي من الجسر، وأفهمهم أن هناك عصابات مسلحة تسيطر على المدينة قد تطلق النار عليهم. ثم عمد إلى إطلاق النار من الطرف السُّني من الجسر، وبحركته تلك، كلّف بانياس أربعة من خيرة شبابها، أذكر منهم سامر لولو.”
“دعيني أذكر شيئًا هنا، أحد الشباب المجندين الذين أحضرهم النظام ليطلق النار على أهل البلد أُصيب في الاشتباكات، وأسعفه أهل بانياس. أذكره شابًّا أبيض، أحمر الحُلّة. بعد سنوات من ذلك الحدث، جاءني في إدلب وعرفني بنفسه.”
يذكر أهل بانياس شهداءهم في تلك الحادثة، ويذكرون المجندين الذين وصلوا إلى مشفى المدينة وقد أُصيبوا برصاصات من الخلف بعد رفضهم إطلاق النار. ويذكرونهم مجندين شبابًا من مختلف المدن السورية، لا يعرفون كيف انتهى بهم المطاف هنا، بعد أن أقنعهم ضباطهم أنهم في واجب الدفاع عن الوطن.
سقط أربعة شهداء في صباح 11 نيسان/ أبريل، وكانت لحظة فاصلة في تاريخ المظاهرات في بانياس. حاول شباب بانياس، لحظة إطلاق النار، استحضار أسلحة بدائية للرد على إطلاق النار، لكن المعركة كانت صدمة يصعب التعامل معها. وبعدها، بدأ النظام بتضييق الخناق على المدينة.
قرية البيضا.. بعد الجمعة الرابعة
مرت أربعة أسابيع، والمظاهرات لم تهدأ في بانياس، وتوسّعت في سوريا، وشيّعت بانياس لأول مرة شهداء في الثورة السورية قتلهم النظام، وبات جليًّا أن العودة مستحيلة، وما يجري ثورة هزّت الأركان العميقة للنظام.
الخطوة التالية للنظام لوأد مظاهرات بانياس كانت اقتحام قرية البيضا، لكنها، وككل محاولاته، انقلبت عليه، وتحولت إلى حدث عالمي تتناقله وسائل الإعلام، وقبل أن يستوعب النظام ثورة رجال بانياس وجرأتهم الصادمة، أتته الصفعة التالية من نسائها؛ حرائر بانياس كبّرن حتى ردّت سوريا بأكملها الجواب.
حدثني الشيخ أنس عن ذلك اليوم، فقال: “اقتحمت عصابات الأمن القرية من جهة طرطوس جنوبًا، حملوا البواريد وداسوا على الأهالي المقيّدين، وهتفوا بشعارات طائفية وبالكفر. كان المقدّم أمجد عباس، رئيس شعبة الأمن السياسي في بانياس، في مقدمة المقتحمين. ظهر بالصوت والصورة وهو يعذّب الأهالي، واعتدوا على المساجد ومزّقوا المصاحف، وبعد ذلك أخذوا الرجال إلى طرطوس.”
في اليوم التالي، خرجت النساء معتصمات على الخط السريع الدولي، مطالبات بإطلاق سراح رجالهن، وأغلقن الطريق المؤدي إلى طرطوس. على إثر الاعتصام، ذهب وفد من بانياس للتفاوض مع النظام، كان أبرز من فيه المهندس عمر الشغري ورئيس بلدية بانياس عدنان الشغري، أما النظام، فقد ناب عنه رفيق شحادة، شقيق إعلامي النظام شريف شحادة، وأمجد عباس، رئيس الأمن السياسي، وآخرون.
وانتهت المفاوضات بتعهد النظام بإطلاق سراح المعتقلين، والتعهد بعدم اعتقال أحد من بانياس، وتنفيذ مطالبنا. ومن طرفهم، تعهّد وجهاء بانياس بإزالة الحواجز التي وضعها الشباب منذ الجمعة الثالثة للثورة، بعد انتشار إشاعات عن نية النظام اقتحام بانياس من عدة محاور.”
كانت صور البيضا ومظاهرات النساء فارقة في التغطية الإعلامية للثورة السورية على القنوات الفضائية البارزة، كذّب النظام صور قرية البيضا وادّعى أنها قوات بشمركة، وأن الصور من العراق. لم يكن إنكاره مقنعًا، لكن مظاهرات النسوة وصوتهن، يرنّ باللهجة السورية، وهن يقفن على طريق سريع تبدو فيه الجغرافيا السورية واضحة للعيان، قطع عليه كل الكذب، وسمع العالم العربي على مدار يوم كامل تقريرًا بثّته قناة الجزيرة تهتف فيه المرأة: “أنا من بانياس الحرة، حرة بنت حرة.”
عرفت وأنا أكتب عن هذه اللحظة أن اسمها فتاة بكري، وقد توفيت إلى رحمة الله قبل سنة. عدت لعبدالرحيم وسألته: هل تعرف من التقط حديث المرأة؟
“يوم سمعنا أن نساء بانياس نزلن تضامنًا مع نساء البيضا للمطالبة برجالهن المعتقلين، ركضت إلى التظاهرة. أذكر حين أمسكت الكاميرا أوثّق وقوف النساء، سألت إحداهن: هل تريدين قول شيء؟ فألقت خطابها، وانتشر، وعرضته الجزيرة ليوم كامل تقريبًا على النشرة الرئيسية، وهذا الفيديو هزّ بانياس.
لم يكن أحد قادرًا على تكذيب الفيديو، كان لباس المرأة ولهجتها وتأكيدها: “أنا من بانياس الحرة، حرة بنت حرة”، وكانت تقف في طريق عام يعرفه الجميع. لقد كان مشهدًا غير عادي تمامًا.
في تلك المظاهرة، صوّرت بنفسي وأخذت مقاطع من الشباب الذين صوّروا، ثم أوصلت كل شيء إلى صديقي الدكتور هشام عبدالرحمن حتى يرفعها على الإنترنت. يومها، بكى ونحن نشاهد مقطعًا مصورًا لشاب يقف أمام الدبابة يعترض طريقها بصدر عارٍ. هذا المقطع، لم أعرف اسم الشاب الذي صوّره حتى، جاءني فقط يريني ما سجله فخورًا به، فركضت به إلى هشام، وعرضته قناة الجزيرة، وأصبح واحدًا من المشاهد الخالدة في الثورة السورية.”
بانياس.. بين الماضي واليوم
اعتقال رجال قرية البيضا كان الجولة الأولى لبانياس مع النظام في عهد الثورة، ربما أعاد اعتقالهم شبح الغياب الطويل في سجون الأسد، فقد قدّمت بانياس من شبابها في الثمانينات ما قدّمت. اعتقل نظام الأسد الأب العشرات من شباب المدينة وغيّبهم لسنوات، مات بعضهم، وقضى آخرون سنوات تجاوزت العشرين. كان يحيى الترك من أول دفعة اعتقلها النظام من شباب بانياس صيف عام 1980. سألته: كيف اعتقل النظام شباب بانياس؟ ولماذا؟
قال: “كنت أنهيت البكالوريا (الثانوية العامة)، وكان يومًا من أيام رمضان في تموز، اقتحم الأمن منزلنا يبحثون عن أخي الكبير. دخلوا وفتّشوا المنزل، كنت أرتدي ملابس البيت الصيفية، ما نسميه (جلابية)، حين أوقفني أحد الضباط فجأة، وقال لي: من أنت؟ قلت له: يحيى، فقال لجنوده: خذوه. وهكذا وجدت نفسي في سيارة المخابرات!
كان مطلع الثمانينات متوترًا جدًا في سوريا، بدأت آثار ما حدث في المدفعية في حلب تصل إلينا. كانت اللحية تهمة، والصلاة جريمة، ورغم أني كنت شابًّا صغيرًا، إلا أنني أعي كيف تُلصق تهمة الإخوان المسلمين بأي شخص تظهر عليه ملامح التديّن. كنا نعرف عن الإخوان من خلال منشور صغير يُوزّع كل حين يُسمّى جريدة النذير، تنشر فيها جماعة الإخوان أخبارًا متفرقة عن حركات الاحتجاج في سوريا.”
سألته: شيخ يحيى، من دخل معك؟
ضحك يحيى وهو يتذكر: “حين وصلت إلى المفرزة، وجدت هناك رامي السباعي، شابًّا حمصيًّا كان والده يعمل في بانياس، ونضال بياسي، وبلال حبيب، وبشار عثمان، وعلي البوز، ووليد لولو. أعتقد أننا من أول دفعة من مساجين بانياس، كنا قرابة ثلاثين شابًّا اعتُقلنا عشوائيًّا على ذمة التحقيق، وخرجنا بعد اثني عشر عامًا!
أما كيف عرفنا بوجود دفعة أخرى من بانياس في المعتقل، فتلك نكتة. ربما لا أحتاج أن أخبرك أننا في سجن تدمر لا نعرف أي شيء عن العالم الخارجي، ولا عن السجن ذاته خارج جدران المهجع. حتى الغرفة المجاورة لنا، لا نعرف ماذا يحدث فيها ومن سجناؤها. بعد ثلاث سنوات من الحبس تقريبًا، نادى السجّان على بعض الأسماء لزيارة جاءتهم، وإذا بي أسمع اسم أخي أسامة، ثم أسماء أقارب أمي، توالت الأسماء، كلهم أشخاص أعرفهم من بانياس، حتى وصل السجّان إلى اسمي. كانت أول زيارة رأيت أمي فيها، وعرفت أن أخي وكثيرًا من أهل البلد يقبعون بعيدين عني أمتارًا فحسب.
بعد ذلك، اجتمعت وأخي في ذات المهجع، وفي يوم من الأيام، سمعنا اسمًا من عائلتنا يُنادى عليه للزيارة. قفزت وأخي فزعين، معتقدين أنه شقيقنا الأكبر. حاول أخي أن يسترق النظر من الفراغ أسفل الباب، فشاهدهم يقتادون رجلًا كبيرًا في السن لم يرَ وجهه بوضوح. أخبرني أخي عنه: رجل عجوز وليس شابًّا، فقفز إلى رأسي خاطر أنه أبي! استبعد أخي الاحتمال، فانتظرت حتى أعادوه من الزيارة، ونظرت بنفسي حتى وقع في قلبي أنه أبي. لم أستطع التأكد، فقد كان وجهه مغطّى تمامًا، وبقينا في نار الحيرة أشهرًا، حتى نُقل إلى زنزانتنا رجل كان يرافقه، أكد لنا هويته. قضى والدي تسع سنوات وخرج بعدي بأشهر قليلة، وهكذا كنا نعرف أن معتقلين من بانياس قد جيء بهم، بالصدفة أو من الأخبار الشحيحة التي يحملها المعتقلون الجدد.”
سألته: حدثني عن السجّانين.
قال: “كل العناصر كانوا من العلويين، نستطيع أن نميزهم من لهجتهم، فنحن وإياهم جيران. لا أقول إن كل العلويين مجرمون، ولا أعرف كم نسبة المجرمين فيهم بالضبط، لكن أنا أحكم بالظاهر. أعتقد أن الغالبية الساحقة من ضباط الجيش كانوا من العلويين. كان يوجد مجرمون من السنة، لكن غالب الإجرام الذي تعرضنا له كان من العلويين.”

قضينا في السجن ما شاء الله لنا أن نقضي، وفي آخر يوم من رمضان عام 1993، ساقونا إلى باصات نقل، بعد أن أعطونا ملابس جديدة، فملابسنا كانت بالية للغاية. بعد انطلاقنا، أخبرونا أنه أُفرج عنا، لم نصدق بادئ الأمر، حتى وصلنا إلى ساحة بانياس. اجتمع الناس من كل البلد، وأصبح العيد عيدين. كنا ثاني دفعة يُفرَج عنها النظام بعد اختفاء لسنوات طوال، وكنا تقريبًا ثلاثين سجينًا.
توافد كل أهالي المعتقلين، فهم لا يعرفون من خرج ومن لم يخرج، كل من لديه مفقود جاء يسأله، فإن لم يجده بين المحرَّرين، يستسقي أخباره منهم. بقي الناس في الشوارع حتى منتصف الليل، كثير من الأهالي عاد خائب الأمل والرجاء، فلا هو استقبل معتقلًا ولا عرف عنه أي شيء.
من المواقف الغريبة التي يجب ذكرها أن الحراس الذين أوصلونا كانوا مزعوجين من حفل استقبالنا، كانوا يخبروننا أننا مجرمون خرجنا بعفو رئاسي، وليست هذه طريقة استقبال المجرمين.
قُدّر عدد المعتقلين من مدينة بانياس في الثمانينات بأكثر من ستين شخصًا، كلهم من السّنة، معظمهم طلاب ومهندسون وأطباء. أُفرج عنهم على دفعات، آخرها كان في عام 2004، بعد أن قضى بعض المعتقلين ما يزيد على عشرين عامًا.
جمعة الإصرار ..الجمعة الخامسة
بعد نحو عشرين عامًا على خروج مساجين تدمر، خرج أهالي البيضا من معتقلهم يروون ذات القصص المُرّة عن التنكيل الذي تعرضوا له، رغم اعتقالهم مدة قصيرة جدًا. قدّموا شهادات مروّعة عن تعذيب جماعي تعرضوا له على يد سكان القرى المجاورة العلوية، أو على يد جيرانهم كما وصفوهم، ويعرفونهم بأسمائهم.
أحمد البياسي يقدم شهادة لعبدالرحيم درويشة عما حدث في قريبة البيضا
فبعد اعتقالهم، مشت بهم الحافلات في رحلة من العذاب، مرّوا بهم على القرى العلوية، حيث كانوا يُنزلونهم بشكل دوري في مراكزها، ليجتمع عليهم النساء والرجال، يضربونهم ويهينونهم. وتنقّلوا في حفلات التعذيب منذ اعتقالهم صباحًا حتى وصلوا إلى مراكز الاعتقال مساءً. تعمّد النظام وحاضنته تقديم درس لبانياس وللحواضن السنية المجاورة من خلال رجال البيضا، كانت رحلة تأديبية لمن تُسوّل له نفسه الاعتراض على النظام.
عاد الرجال محمّلين بكل أنواع الأذى النفسي والجسدي، وأنكر إعلام النظام حدوث أي اعتقالات أو إهانات، وتمسك بروايته في تصعيد ضد المدينة. كانت محاولة للجمها وإسكات أهلها، لكن الجمعة التالية لأحداث البيضا أوصلت رسالة صارمة عن عزيمة أهل بانياس، وخرجت الجموع في مظاهرات “جمعة الإصرار” في خامس جمعة من الثورة السورية، في 15 نيسان/ أبريل.
الجمعة السادسة.. رسالة مباشرة من بانياس إلى العالم أجمع
في أواخر نيسان/ أبريل، كانت الثورة قد اشتعلت في سوريا بأكملها، وكان ارتقاء الشهداء شبه يومي، حين عادت بانياس لتقول كلمتها في يوم “الجمعة العظيمة”.
أذكر يومها، كنا نتنقل بين شاشة العربية والجزيرة وبي بي سي عربي، وصفحات فيسبوك وتويتر، لنتلقّف أخبار الثورة، حين قرأنا في أقصى الزاوية: مباشر من بانياس.
سألت عبدالرحيم: حدثني، كيف رتبتم لبث مباشر مع أهم قناة في تغطية الحدث السوري يومها؟
قال ضاحكًا: “العملية كلها لم تكن منظمة بالطريقة التي تتخيلين. بعد أيام من انطلاق الثورة، استخدمنا منزل الدكتور مصطفى عبدالرحمن، أخ الدكتور الشهيد هشام عبدالرحمن، ليكون كمركز إعلامي نعمل منه. كان هشام، رحمه الله، يحضّر للماجستير في الطب في دمشق، وقد استشهد لاحقًا في السجن بعد اعتقاله.
كان الدكتور مصطفى مغتربًا في فرنسا، وكنا نجتمع في منزله خمسة أو ستة أشخاص. كنت أنزل إلى الشوارع أصوّر، وأعود إلى الدكتور هشام أعطيه ما صوّرت ليرفعه على الإنترنت ويوزّعه على وسائل الإعلام التي يعرفها، وهكذا كوّنّا علاقات وروابط ثقة مع جهات إعلامية.”
يوم فكرنا بالبث، كنا في منزل أحمد حذيفة، وكان معنا أخوه وصهره، وأذكر أيضًا أخويه الشهيدين بشير ورشاد حذيفة. كنا نتحدث مع محمد سرميني، نحاول أن نجهّز لنبث مباشرة، ونجحت التجربة في ذلك المساء. وفي اليوم التالي، كان 22 نيسان/ أبريل، وقفنا على شرفة قريبة من ساحة السنتر كما يسميها أهل البلد. لكن من سوء حظنا، لم تعمل الكاميرا المرافقة للجهاز، وكان علينا الارتجال، فأمسكت اللابتوب ووجّهته إلى الساحة حتى أصوّر من كاميرته الأمامية.
كانت المظاهرة قد أوشكت على النهاية، وكان كثير من أهل بانياس قد بدأوا يتفرقون، حين قيل إن هناك بثًّا مباشرًا من بانياس. وشاهد أهل البلدة من منازلهم المظاهرة من ساحة المركز. أصبحت الناس تنظر إلى الأعلى، تحاول أن تفهم من أين يأتي البث.
أزعج البث المباشر النظام جدًا، واعتبره رفعًا لسقف الاحتجاجات من قبلنا لمواجهة تضليله الإعلامي، فلا يمكنك أن تنكر بثًّا مباشرًا. في السجن، سألني المحقق: ما هي الأجهزة التي استخدمتها للقيام بالبث؟ حين أجبته ببساطة: من اللابتوب، لم يستوعب كيف حدث ذلك!
بعد البث بأيام، قررت أن أذهب إلى الشام، لأن العمل الأساسي والثقل سيكون بالشام، والتحقت بالدكتور هشام، وتعرفت على الدكتور أسامة البارودي من رابطة أطباء دمشق، الذي استشهد لاحقًا أيضًا في المعتقل.
كنت أفكر أننا إذا أردنا أن نغيّر النظام، فعلينا أن نعمل من الشام، وبانياس مرحلة من المراحل. فكّرت أنني أنجزتها وأصبح لها ثقلها ووزنها في التغطية الإعلامية. بدأت في الشام تكوين شبكة موثوقة من الشباب لأعلّمهم كيف نقوم ببث مباشر مع القنوات، وقبل أن نقوم بأي شيء، اعتُقلت في 14 أيار/ مايو على ضوء نشاطي في بانياس.
كان التحقيق معي يركّز على البث المباشر، وكيف قمنا به، ومن دعمنا من الخارج، وما الجهات الخارجية التي عملنا معها، كان المحقق يُجنّ بسبب هذا الحدث، وكان يعتقد أنني أسخر منه حين أخبره أني قمت بالبث المباشر عن طريق لابتوب فقط.”
جمعة الغضب.. قبل الاقتحام
بعد “الجمعة العظيمة” وتصدّر بانياس مع درعا وحمص أخبار التظاهرات في القنوات الإخبارية، استمرت المظاهرات اليومية خلال الأسبوع، ثم جاءت “جمعة الغضب” لتشهد واحدة من أكبر المظاهرات، وعكست روح الثورة وأهدافها ومطالبها. رغم أن المدينة كانت تعاني شُحًّا في المواد وانقطاعات متكررة في الكهرباء والماء، وكانت الإشاعات تملأ البلد عن تسليح الجيش للقرى العلوية المجاورة واستعدادها لاقتحام بانياس مع الجيش، إلا أن ذلك لم يمنع الأهالي من القدوم أفواجًا إلى المظاهرة.
روى عنها الشيخ أنس بكثير من الفخر والاعتزاز:
“جمعة الغضب كانت مميزة، نظّمها الشباب بشكل جميل، وكانت وفود القرى المجاورة كالبيضا والمَرقب ورأس النبع والبساتين تأتي تباعًا إلى مركز بانياس، وكان شباب الوفود يحملون ورودًا حمراء. وفي 3 أيار/ مايو، طوّق النظام بانياس واقتحمها من عدة محاور، بعد أيام صعاب عاشها أهل البلد، وغادر بعضهم خوفًا على وقع الإشاعات التي بثها النظام.”
أيام الحصار كانت صعبة، لكنها مليئة بالتكافل والتضامن بين الأهالي. في أول الأيام، تمركزت الحواجز على أطراف المدينة، وعلى أحد الحواجز كان هناك نقيب يُسمّى رياض الأحمد من الحفة في اللاذقية، عنصر في القوات الخاصة. كان في خدمته على الحاجز سبعة أو ثمانية عساكر، جلّهم من العلويين. كان يأتيني سرًا يحدثني عمّا يجري في اجتماعات النظام، وعن التحريض ضد أهالي بانياس من قبل أعوان النظام، وعني شخصيًا.
برأيي، رياض الأحمد هو أول المنشقين عن نظام الأسد، وقد استُشهد لاحقًا في جبل الأكراد. كان يُبثّني دائمًا رغبته في الانشقاق عن النظام، وكنت أُثنيه ليكون عونًا لنا. كنت ألتقي به سرًا في دكان صغير يُدعى “أبو العسل”، يعرفه كل أهالي بانياس.
وقبل اقتحام بانياس بأيام، جاء قرار نقله إلى مصياف، ربما اشتبهوا به، بعد اقتحامهم بانياس، بقيت ثلاثة أشهر أعيش متخفيًا هربًا من بطشهم، ثم انتقلت إلى دمشق في آخر شهر تموز/ يوليو، حتى يسّر الله لي خروجًا إلى تركيا.”
الـ 3 من آيار .. و3 شهيدات
مع شمس أيار/ مايو، رحل ربيع بانياس، في الثالث من الشهر، أطبق الجيش الحصار على المدينة، ونشر الحواجز على مداخلها، وعلى مدار أيام، بدأ بحملات اعتقالات وزيادة الحواجز الأمنية بين المناطق السنية والعلوية. وفي “جمعة الإصرار” في السادس من الشهر، تظاهرت بانياس مطالبة بإنهاء الحصار وانسحاب القوات الأمنية. ثم جاء الرد من النظام باقتحامها كليًّا في السابع من أيار/ مايو، بدخول الدبابات إلى القرى والشوارع، وقطع الطرق بين المدينة وضواحيها، واعتقال المئات من شبابها.
قاوم الأهالي الاقتحام والاعتقال، وخرجت العديد من المظاهرات قادتها نساء يطالبن بترك رجالهن وعدم اعتقالهم. لكن النظام أطلق النار على التظاهرات، وفي ذلك اليوم قدّمت بانياس ثلاث شهيدات، هن أولى الشهيدات في تاريخ الثورة السورية، ارتقين من قرية المرقب.
مقطع للسيدة رندة من عام 2011 من قرية المرقب تناشد العالم بعد اقتحام القرية وسقوط شهداء
حدثتني السيدة رندة حج علي عن ذلك اليوم:
بعد حصار أيام ومنع تجوال، جاء الدور إلى قرية المرقب. طالبونا بإخلاء المنازل، ومنعونا -نساءً ورجالًا- من البقاء في منازلنا. اختبأ رجال القرية، واجتمعت النسوة على دوّار القرية وتظاهرن، وإذا بهم يطلقون النار علينا. كان كمينًا لنا حتى يستطيعوا اعتقال الشباب، لم يتركوا شابًّا إلا وجمعوه في الباصات لاعتقاله. أخذوا كثيرًا من الصغار، بعضهم لم يتجاوز الخامسة عشرة، خرج أغلبهم لاحقًا، لكن بعضهم اختفى في السجون.
تجمعنا -نساءً- وبدأنا نكبّر ونحتج على اعتقال رجالنا، فبدأوا بإطلاق النار العشوائي في الهواء، وحين رفضنا التحرك، بدأوا يطلقون باتجاهنا. أصابوا إحدانا، فسقطت شهيدة وأصيبت أخريات، ثم استشهدت اثنتان برصاص القناصة، لا أنسى هذا اليوم أبدًا.
قبل إطلاق النار، كانت قوات من الجيش قريبة من الجامع حيث تظاهرنا، كانت القوات من الشباب الصغار، تحدثوا معنا بلطف، بعضهم أخبرنا أن نتقدم، كنت أقف أمام النساء حين حدثني أحد المجندين وقال لي: “اقتربي يا أختي، ما بقوصوا نسوان”. تمسكنا بموقفنا وتجمهرنا أمام الجيش، وأمام عيني ضربوا هذا الشاب بالرصاص لأنه رفض إطلاق النار على التظاهرة، فسقط صريعًا وعمت الفوضى.
اتجهت مع ابنتي بعدها إلى المنزل، وبعد دقائق، دخلوا عليَّ أهل القرية بابنتي الثانية وقد أصابتها رصاصة في قدمها.
حين سقطت الشهيدات، أخبرونا أننا ممنوعون من التجول، ولا نستطيع الخروج إلى المقبرة، فدُفنت الشهيدات في جامع القرية الصغير.
رحلة التعافي
أدّت بانياس واجبها، وقاوم أهلها بكل الطرق المتاحة، دخول الجيش وقوات الشبيحة، تحوّلت المظاهرات الكبيرة في الساحة إلى مظاهرات طيّارة تجتمع سريعًا وتنفض سريعًا، أو مظاهرات ليلية تجنبًا للاشتباك مع قوات النظام، إلى أن جاءت مجزرتا البيضا ورأس النبع عام 2013، التي ذُبح فيها الأطفال والنساء وأُحرق الرجال وخُرّبت المنازل فوق رؤوس أصحابها بيد الجيران.
يقول عبدالرحيم: “أرى أن النظام ارتكب اثنتين من أبشع المجازر في تاريخ الثورة في بانياس، رسالة لأهل الساحل السنة من اللاذقية وجبلة وطرطوس وبانياس بأن لا تقتربوا ولا تتحركوا، هذه مناطقي، ونحن مستعدون لكل شيء لأجل ذلك. يوم المجزرة، شمّ الناس رائحة اللحم البشري يحترق في بانياس. كان ضبط بانياس أسرع من غيرها بسبب ما قام به، ولذلك فقد اختفى الحراك الثوري تقريبًا في 2013.”
يرفض أهل بانياس ومدن الساحل السوري السنية عمومًا التسليم بالادعاء القائل إن الساحل يقطنه أغلبية علوية، ويعتبرونها معلومات غير دقيقة روّج لها النظام. ولا توجد إحصاءات رسمية محدثة عن تعداد الطوائف وتوزّعها في سوريا يمكن اعتمادها مصدرًا دقيقًا للمعلومة، لكن شعورًا عامًا يسود مدن الساحل السنية الآن، بأنها استعادت ساحلها من يد النظام البائد، ونالت ما انتفضت لأجله عام 2011: وطنًا وحرية.
خرج آلاف من أهالي بانياس من المدينة خلال سنوات الثورة، وعاشوا الشتات السوري هربًا من بطش النظام، وقدّمت المدينة مئات الشهداء والمفقودين، وبعد النصر المبين، ما زال البانياسيون على عهد الثورة، يسعون لردم الشرخ والحفاظ على ساحلهم شاسعًا يتّسع للجميع، رغم الجرح الدامي والعدالة الغائبة حتى اليوم.
ورغم الضيم الذي لا يستوعبه عقل إنسان، الذي نال السوريين في عهد الأب والابن، حدثني الشيخ يحيى الترك عن رؤيته لمستقبل المدينة:
“نحن لا نسعى للانتقام من العلويين لأنهم علويون، دينهم شأنهم لا يعنينا، وبصراحة، أنا ضد من ينادي بذلك. عاشوا وعشنا هنا لقرون، أعرف أن معظمهم شارك النظام في إجرامه، لكن جزءًا منهم كان ضد النظام. أذكر في سجن تدمر، رغم أن السجّانين والمحققين كانوا من العلويين، كان هناك سجّان أَحسبُ أنه علوي لم يكن يعذبنا، بل كان فسحة الراحة لدينا. وفي الواقع، هناك قسم منهم كان ضد النظام، ولم يهن عليه تصرفاته وما قام به.”
كل سنوات الثورة في بانياس، كغيرها من المدن السورية، تاريخ حافل بالبطولات والتضحيات ينتظر من يكتبه ويحفظه للأجيال القادمة. فقد كبر جيل كامل عاش في مناطق سيطرة النظام دون أن يتناول قصص الثورة إلا همسًا بعيدًا عن سمع الأطفال، خوفًا من النظام. ولم تُحفظ أسماء الشهداء والثوار، لأن الحديث عنهم كان جريمة بذاتها.
فالواجب اليوم في كتابة التاريخ مضاعف في مناطق الساحل؛ إضافة إلى التاريخ الرسمي، فإن القصص الشعبية التي يجب أن تعيش لأجيال، يجب أن تُروى بصوت عالٍ، وتحكي قصة الأبطال الحقيقيين الذين تعرضوا لتزييف وتشويه لسنوات طويلة.