أثار إعلان إيران السماح للعراقيين بدخول أراضيها دون تأشيرة لمدة تزيد على شهرين، وذلك بداية من 24 من أكتوبر/تشرين الأول الحاليّ إلى 27 من ديسمبر/كانون الأول المقبل، حالة من الجدل داخل الشارع العراقي نفسه، إذ تباينت ردود الفعل بشأن دوافع هذه الخطوة التي تتزامن مع الاحتجاجات الغاضبة في مختلف المدن العراقية.
القرار، وفق بيان السفارة الإيرانية في بغداد، يهدف إلى المساهمة في “تعميق وتوطيد العلاقات بين الحكومتين والشعبين الصديقين والشقيقين أكثر فأكثر”، تمهيدًا لـ”إلغاء التأشيرات بشكل دائم بين البلدين”، حسب ما أوردته وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية (إرنا).
وعن دوافع هذه الخطوة أوضحت السفارة الإيرانية أنه يأتي ردًا على قرار مماثل من السلطات العراقية التي سمحت لرعايا طهران بدخول العراق خلال شهري سبتمبر وأكتوبر الماضيين، وذلك بسبب مراسم “أربعين الحسين” في كربلاء التي تعدّ من أهم المناسبات الدينية للشيعة.
أهداف سياسية
رغم ما كشفته طهران بأن القرار ردًا على ما فعله العراق سابقًا، فإن توقيت اتخاذه هو ما أثار الشك لدى عدد من المحللين الذين تساءلوا عن عدم اتخاذ هذه الخطوة على مدار عام كامل مر على إلغاء العراق لتأشيرات الدخول للإيرانيين، وهو ما يعني أن اختيار هذا التوقيت له دلالة.
الاحتجاجات العراقية الغاضبة التي تطالب بالإصلاح وحقوقها السياسية والديمقراطية وما قوبلت به من قمع وتنكيل وقتل في ظل اتهام الحرس الثوري والحشد الشعبي والمليشيات العراقية الموالية لطهران بالمشاركة في أعمال التصدي العنيفة ضد الغاضبين، كان لها كلمة السر في محاولة استمالة إيران للشعب العراقي.
وراء القرار هدف سياسي تسعى طهران لتحقيقه في هذه الفترة، إذ يأتي تزامنًا مع تصاعد التظاهرات والاحتجاجات الشعبية العراقية المطالبة باستقلال القرار العراقي والحد من النفوذ الإيراني في العراق
تسعى إيران من وراء هذه الخطوة لمغازلة العراقيين وتخفيف حدة الاحتقان الذي تعمق بفعل الممارسات التنكيلية بحق المتظاهرين من جانب واتهامهم بالعمالة والتآمر والعمل لصالح جهات خارجية من جانب آخر، وهو ما يخشاه الإيرانيون حال تطوّر المشهد بصورة من الصعب السيطرة عليها، وفق ما ذهب الكاتب الصحفي المتخصص في الشؤون الإيرانية، أسامة الهتيمي.
الهتيمي في تصريحاته لـ”نون بوست” أوضح أن ما يقف وراء القرار هو هدف سياسي إيراني، إذ يأتي تزامنًا مع تصاعد التظاهرات والاحتجاجات الشعبية العراقية المطالبة باستقلال القرار العراقي والحد من النفوذ الإيراني هناك، وهو ما تجسّد بحرق المتظاهرين لصور مرشد الثورة الإيرانية “علي خامنئي” وبعض المسؤولين الإيرانيين الفاعلين في العراق.
وأضاف أن هذه الخطوة ربما تحمل دلالات خاصة، منها أن إيران تتعاطى مع العراق وفق مبدأ الندية ولهذا لم تتوان عن أن ترد على المبادرة العراقية بإلغاء التأشيرة بمبادرة مماثلة، وهذا يعني أن الإيرانيين حريصون على توطيد العلاقة وأن لا يكونوا فقط طرف مستفيد من العلاقات الثنائية بين البلدين.
وكانت الصحافة الإيرانية قد شنت حملة إعلامية شرسة لتشويه صورة المظاهرات التي تشهدها أغلب المحافظات والمدن العراقية، فيما اعتبرت وسائل إعلام رسمية أن ما يحدث مؤامرة “سعودية-أمريكية” تستهدف إيران ودورها ونفوذها في المنطقة، كما جاء على صدر صحيفة كيهان التابعة للمرشد الأعلى علي خامنئي: “الشعب العراقي سيقوم بإجهاض الفتنة (السعودية-الصهيونية)”، مدعية أنها حصلت على وثائق تثبت تورط السعودية والولايات المتحدة و”إسرائيل” في مظاهرات العراق.
أما صحيفة “جام جم” الرسمية التابعة للحكومة الإيرانية فقد وصفت مظاهرات العراق بـ”الفتنة السعودية” ضد مراسم الأربعين الحسينية التي ستقام بحضور ملايين الإيرانيين في العراق، مضيفة “أيضًا هناك أسباب أخرى ومقنعة لدى السعودية لتحريك الشارع العراقي، حيث تعاني السعودية من هزيمة فادحة في اليمن ونجران وهجوم أرامكو وفي ظل هذه الظروف يجب أن تقدم الرياض تنازلات كبيرة في المفاوضات مع طهران، لذلك يعتقد السعوديون بأنهم عن طريق التحريض على الفوضى في العراق، يمكنهم الحصول على تنازلات إذا تفاوضوا مع إيران”.
تصاعد الاحتقان جراء التنكيل بالمتظاهرين
دوافع اقتصادية
لم تكن الأهداف السياسية رغم ما تحمله من أهمية كبرى هي الدافع الوحيد وراء هذه الخطوة بحسب الخبراء، إذ أن هناك أبعادًا أخرى تحملها هذه الخطوة منها ما هو اقتصادي، يتمثل في أن دخول العراقيين بأعداد كبيرة إلى إيران، تنشيطًا للأسواق والسلع الإيرانية التي يقبل عليها العراقيون، باعتبارها الأرخص سعرًا والأكثر توافرًا، بعد أن تمكنت إيران من الأسواق العراقية، حتى إن بعض المؤشرات الاقتصادية تشير إلى أن 90% من السلع الموجودة بهذه الأسواق، إيرانية الصنع بعد أن تراجعت الصناعة والزراعة العراقية لأقصى درجة.
هناك أبعاد أمنية ولوجستية أخرى، إذ تحرص طهران وبشكل جاد ومدروس على توظيف الزيارات السياحية والدينية والتسوقية إليها توظيفًا جيدًا لتحقيق حزمة من الأهداف من خلال استقطاب عناصر جديدة بعينها، يمكن أن تساهم بشكل أو بآخر في ترسيخ أقدامها في الداخل العراقي، وهو السلوك الذي تم كشفه مرارًا كجزء من مخططات الاختراق ومد النفوذ ليس في العراق فحسب، بل في العديد من البلدان.
“العمل على تطوير المصالح الاقتصادية للعراق أولى بالضرورة من تقديم تسهيلات لدولة محاصرة كإيران” ندى الجبوري
الواقع الاقتصادي المتأزم الذي تعاني منه إيران جراء التضييق الأمريكي عليها عبر فرض المزيد من العقوبات بين الوقت والآخر، دفعها لفتح نوافذ جديدة تعوض به قدر الإمكان جزءًا من هذا التأثير السلبي، ومن ثم يأمل الإيرانيون أن يُدخل العراقيون العملة الصعبة إلى البلاد لإنقاذ عملتها الوطنية المتدهورة وإنعاش السوق الذي يعاني من ركود طيلة السنوات الماضية.
وكانت عضو لجنة العلاقات الخارجية النيابية في البرلمان العراقي ندى الجبوري قد قالت في تصريحات سابقة تعليقًا على مقترح إلغاء التأشيرة بين العراق وإيران: “أمر غير مجدٍ، كونه جاء بدوافع سياسية فقط”، مضيفة أن “العمل على تطوير المصالح الاقتصادية للعراق أولى بالضرورة من تقديم تسهيلات لدولة محاصرة كإيران”، مشيرة إلى أن “التجربة تم تطبيقها بشكل ناجح في أوروبا اعتمادًا على المصالح الاقتصادية المشتركة، هذا لم يحصل بين العراق وإيران، حيث إن الإجراء يأتي بدوافع سياسية فقط”.
وتابعت الجبوري: “العلاقة بين البلدين لم تصل إلى حد يمكن معه إلغاء الفيزا، في حين أن العلاقات العراقية الأردنية أولى بهذا الإجراء لو أخذنا بعين الاعتبار حجم التبادل التجاري والسياحة الطبية وحركة رجال الأعمال بين البلدين، ما يدعو إلى تقديم هكذا تسهيلات”، حسب تعبيرها.
في تقرير سابق لـ”نون بوست” كشف ارتفاع عدد شهداء الحراك العراقي إلى 110 أشخاص وآلاف الجرحى، نتيجة استخدام أسلحة متنوعة ضد المتظاهرين، وكما حصل في مدينة الصدر فقد اعترفت القوات الأمنية “باستخدام مفرط للقوة” ضد المحتجين، وفي مؤتمر صحفي عقده المتحدث باسم وزارة الداخلية العراقية اللواء سعد معن، أشار إلى وجود طرف ثالث – لم يسمّه – يقف وراء عمليات قتل المتظاهرين.
أشار التقرير إلى ظهور اسم جديد على ساحة الاحتجاجات كقوة قمعية وهي “أمنية الحشد”، ويذكر الصحفي عثمان المختار أن هذه القوة “قوة خاصة تابعة لهيئة الحشد الشعبي التي تضم 70 تشكيلاً مسلحًا، يرأسها أبو إيمان البهادري وتشكيلاتها مرتبطة بشكل أو بآخر بإيران”.
وعلى الرغم من انقطاع خدمة الإنترنت في العراق خلال الأيام الماضية، انتشرت فيديوهات تبين وحشية التعامل مع المحتجين، هذا وقد طالبت منظمة العفو الدولية، السلطات العراقية بالتوقف الفوري عن “استخدام القوة المفرطة والمميتة ضد المتظاهرين، بالأخص في العاصمة بغداد”، وقال بيان للمنظمة: “يتوجب على السلطات أن تجري تحقيقًا عاجلاً ومستقلاً في مقتل وإصابة المئات من المتظاهرين السلميين. حرية التعبير عن الرأي والتجمع يجب أن تحترم ودون خوف”.
ورغم استجابة الحكومة العراقية النسبية لمطالب المحتجين، التي تجسدت في عدد من القرارات المتخذة من بينها “تشكيل لجنة برئاسة عبد المهدي لتوزيع أراضٍ سكنية على المستحقين وتضمين مشروع قانون الموازنة لعام 2020، وتجميد العمل بالقوانين والتعليمات النافذة التي تمنح الحق باستلام الشخص أكثر من راتب أو تقاعد أو منحة وتخييره باستلام أحدها”، فإن ذلك لم يرتق لسقف طموحات الشارع الذي يواصل حراكه للأسبوع الثاني على التوالي.